صحيفة المثقف

هكذا كادت الحياة تستمر

قصي الشيخ عسكرالخيط الفاصل بين الحلال والحرام.. قد يكون تعهدا في البلدية أوقع عليه مع "دانا" التي عاشرتها في الحرام، أو عبارات أرددها خلف شيخ ملتح، يمنحني البركة في المسجد إنها وضع آخر..

حياة جديدة...

مشاعر أخرى...

أسرة انتماء، بداية لمرحلة من حياتي . خلتني أملك كل شيء..ولم يعد بي ظمأ قط منذ أن سكنت مع " دانا" التي أطفأت ظمأي، وملأت عليّ حياتي بوهجها وحيويتها..أول امرأة ألتقيها..يسطعني وهجهها بشكل أحلام عذبة لا ألم فيها..كأن لامشاكل في الحياة، ولا صعوبات.رأيت جسدها قبل الزواج.رائعا، ووجدته بعد أن تزوجنا أكثر فتنة كأنما العلاقة بين اثنين تحددها ورقة  من البلدية تضم أسطرا كتبت لي ولغيري  أو كلمات يرددها أيا كان أمام  شيخ ذو عمة .  وقد فعلت الإثنين.. ذهبت إلى البلدية والمسجد...هكذا أردت أو هكذا نصحني  وضاح..  والذين يحيطونني سعداء بي. أسرة جديدة أنستني الماضي. أسرتي في المقام الأول هي الأولى.. بيتي قبل أيّ شيء  وليأت بعدئذ أبي وأمي وبقية الناس.

قل لي ما معنى jeg elesker dig  بالعربي!

أحبك!

ها نسيت سمعتها من أمي !

وماذا عن البولندي؟

كوهام جه

إلى هنا يمكن أن تنتهي الحكاية التي تخصني .

أسرة، وبيت، أولاد.. انتماء أبحث عنه وجدته في أسرة صغيرة، وعمل، وفي المستقبل يمكن أن أخلف كل الحوادث المؤسفة وراء ظهري فقد بدأت أحصل على كل شيء أكثر مما توقعت لو بقيت في الشرق..السيد وضاح نفسه بدأ يثق بي فيكشف لي عن بعض خصوصياته.. كان بحاجة لشخص يثق به.. عرفت إلى حد ما أكثر مما أخبرني به منذ أن زاولت العمل معه.. عمله أوسع من مباشرته في المطعم الساعة الثانية أو الواحدة ظهرا.. وأحيانا قدومه مع عامل من النادي البولندي وربما مع آخر من النادي الجيكي ليتعاونا معه في تحضير شرائح للناديين كل مساء بعيدا عن أنظار زوجته...

لم يقل لي – بعد الزواج من " دانا " صراحة إنه صاحب مشاريع كبيرة تتحرك بالخفاء وبأسماء مستعارة .كان يلمح من باب خفي إلى تلك المشاريع يتحدث عن سلع يمكن استيرادها من ألمانيا  وشاحنات بيرة تعبر بطريقة ما إلى السويد التي بدأت ترفع من نسبة  الضرائب على الكحول..مايفعله حقيقة يعبر عنه بكلمة يمكن في المستقبل،ويذكر عَرَضَاً مشروعا آخر  قيد الإنشاء في بولندا حتى ظننت أن المطعم واجهة لأعمال ومشاريع تتحرك في الخفاء تدر عليه أرباحا لابأس بها لكن كل ذلك لم يمنعه من أن يحتال على الضرائب كل يوم أو يضع مغناطيسا على مقياس الكهرباء حتى خيل إليّ من خلال حديثه  الخفي وربما تحذيره وأحيانا تلميحه عبر النكتة أن الذي يفرط بالأمور التافهة يمكن أن يفرط بالأشياء الكبيرة...

لكن ولادة "علاء الدين" غيرت كل شيء فأدركت لم فعل كل ذلك معي ولم يفضل أن يزج في عالم التجارة والمشاريع بولديه اللذين ارتاح هو وزوجته لاهتمامها بالدراسة والسفر إذ كان يدرك تماما أنه لو انتدبهما للعمل معه لما كان بمقدروه أن يحجب عنهما العالم الخفي من أسراره التي جعلني أطلع على بعض منها..

الحق إن مجيء الملود كشف عن أمر خطير كنت غافلا عنه. في البدء فرحت به..ومن شدة فرحي وتيمنا مني ومن " دانا" بالمحل المكان الذي التقينا فيه وتعارفنا سميت المولود الجديد " علاء الدين" لكن حين بدأت ملامح الصغير تتبلور ، وتتضح أكثر دب الشكّ في نفسي..شك تحول إلى ريبة حادة تشبه السكاكين تغلغلت في صدري ...

حقد هائج رحت أكتمه قسرا..

علاء الدين، ابني من " دانا" لايشبهني..

كان صورة طبق الأصل لوضاح... ذلك الشخص الذي خدعني بطيبته..أعجبتني بطولته وصراعه وجرأته، الفارس الذي ترك الحرب،أدمى الوزير،وفر من السجون، كان يتركني في المطعم ليذهب إلى بيتي حيث يجد زوجتي بانتظاره...ربما هي المرة الأولى التي أجده فيها منقبضا تعلو وجهه قتامة ويدركة حزن مجهول.. ولعله بثرثرته يطرد الشك عني:

أحمد يبدو أن رسالة أخيك تأخرت أو ضاعت!

مجرد ثرثرة يهش بها إحساسا راوده كالذباب، يريد أن يخفيه بأية طريقة:

لم أعد أبال إن تصل أو لا...

لاتشغل بالك.. آمل في يوم ما أن تجد أهلك " ثم يغير الموضوع كأنه يتعمد أن يهرب من وسوسته وصمتي بالكلام"

على فكرة تذكرت ربما لا تدري.. الحاج شعيبي أمس سمعت الخبر توفي!!

الله يرحمه

هذه هي الدنيا..من كان يعقل هذا الرجل جاء إلى الدنمارك عام 1956 قبلي بسبع سنوات وكان يحلم أن يعود العادم القادم إلى المغرب... يصفي حسابه ويبيع المحل وعدته أن أشتريه منه لتتولى أنت مهمته.. لكن هذا حال الدنيا..

الله يرحمه

الشك والخوف راحا يسريان إليه مثلي..ذئب يقول عن نفسه.. السوق يحتاج إلى أن يكون التاجر ذئبا وأنا كوسج.. سمك قرش..في النهاية أكلت منذ اليوم الأول.. كان ذا وجه بشوش يتهلل بالمزاح ويهوى النكتة..اكتشف زيف موسكو وبؤس وارشو، فهجر مبادءه ومارس التجارة.. وهو في كوبنهاغن يقرف من حرب طائفية يدعو لها العرب.. حرب الخليج. الآن يسأل الأوروبيون عن سنة وشيعة.. كانوا يظنون الإسلام واحدا..لا جيء شيعي.سني من جماعة الحكومة..شيطنة الأشياء..رجل متناقض يبدو بسيطا لكنه معقد.. أدرك خداع السياسة مبكرا في مثل سني وحالما تعرف بدنماركية  وثقت به.. ذلك الوقت في الستينيات كان الشرقي عملة نادرة.. وهؤلاء القادمون من باكستان والعراق ولبنان والمغرب قلة تنجذب إليهم الدنماركيات،شعر أسود عمله نادرة،ذوو الشعر الاسود جماعة علاء الدين والمصباح السحري ،السندباد،أما من يعرف من أين تؤكل الكتف فسوف يقترن بشارلوته التي تقف معه..الحياة فرص لايخسرها إلا المغفلون، هذه  العاهر  التي تظنني قوادا بنت قنصل سابق في موزمبيق كم من خصيتين لأسود استافت قبل أن ترافق صاحبهما إلى الحمام ومن بعد تدلك جسده..العالم الناعم أصبح شريرا كله، أملس ناعم مثل أفعى لا تبال .. لقد جاءت محملة بكنز فاغتنم الفرصة..شاركها بمشروع..لم أكن الضحية وحدي هي أيضا..القلق ذاته وجدته ينطبع على وجهها..كم كانت فرحة بزواج " دانة" مني..عاملتني بلطف والتصقت بزوجتي أكثر كأنها ابنتها..ثم وجدتها تنظر إلي بنفور.. أحيانا نظرات ذات دلالة تخفي معنى آخر أدركه ولا أفهمه..لكن معاناتي الحقيقية كانت تتبلور في الشقة...الجمال .. الرقة.. الصوت الهاديء.. النبرة الحنون.. جثة عافها ذئب فحط عندها غراب..جثة تعيش معي ونطفة ليست مني تحمل اسمي:

حبيبي خلال هذا الأسبوع أسجل علاء الدين في حضانة حتى أعود للعمل!

تأتين معي إلى العمل منذ الصباح لتغادري في الواحدة، تكونين وحدك في الشقة فيطل عليك في المساء، وانا لم أحسب حسابي بعد:

إفعلي مايحلو لك!

هل تغار منه؟

معها وغائب عنها.اصبحت أقرف..تنظر إليّ بعينين واسعتين وتسأل:

مابك؟ لقد تغيرت تماما. تفكر في أهلك؟ لعلك تعثر عليهم.. بعد سنتين تصبح مواطنا وتقدر تسافر تبحث عنهم بل نسافر أنا وعلاء معك!

لا أعقل..الهرب بالصمت أحيانا.. مازلت أشك..وهو القلق.. الصوت الدافيء..تتعرى أمامي تستعرض  كتفيها وشفتيها.. تهمس لي : هل أحضر لك كأسا..وتضيف: أتحاشى الشرب من أجل علاء..أنظر إلى بطني لم تترهل.. علاء يشرب حليبي أفضل..ألست معي حليب الأم أفضل..

أرجوك اتركيني.. ألا تفهمين..

أشيح بوجهي عنها لأقابل في اليوم التالي وجهين تغيرا مثل وجهي،ولم يبق إلا وجهك لم يتغير. كأنك تجهلين كل شيء .من الصباح حتى منتصف الليل. سنة اللغة انتهت..وساعات عملي ازدادت ولو رجعت " دانا" إلى الشغل فإن العمل بازدياد.. الفلافل والشاورما والكباب.. أكلات جذبت زبائن كثيرين.. وساعات عملي الإضافية ازدادت .. نقود كثيرة..

كان لابدّ من أن  أنفجر  بوجهها.بدوت  كبالون لمّا يزل يرزح تحت الاحتقان لكن قد يتشظّى في لحظة ما أيّة لحظة.لم استطع أن أفعل شيئا.ثانية واحدة ربما أقلّ تمطّت  ببضعة أشهر سبقتها بأحلام كثيرة ملونة ذات طعم مسحور وفتنة لا تنتهي..لينقلب الكتفان العاجيان إلى مرآة مشوشة،رأيت فيهما سدودا خشنة وتجاعيد وكهوفا وأنهارا ويبسا ومواقع في الصحراء تشبه تماما جدريا ما ترك أثره على وجه وسيم : ولد يا أحمد .. السونار ماذا تسميه،نفكر بأسماء.. تقلب ذاكرتها بالدنماركية والبولندية، وفجأة نتذكر .. كلانا نهتف باسم قديم جديد.. ليكن علاء الدين باسم المحل الذي التقينا فيه،وأصبح مصدر رزقنا، علي أن اشد بطني بعد الولادة لأحتفظ برشاقتي ،أمّا الجسد الأبيض الحيي فقد لاح جذعا منخورا لاحياة فيه،كنت أهرب منها إلى الغرفة المجاورة.. تركت الغرفة المشتركة لها والطفل.انفصلت تماما...وانتقلت إلى الغرفة المجاورة!

7

في يوم العطلة التي سبقت الحادث. استيقظت على بكاء علاء الدين...

لم أعد أطيقة، صراخه يستفزني، أضجر منه، ومن مناجاته،حسبته كالورم الخبيث الذي يريد أن يلتصق بي رغما عني ثمّ غادرت غرفتي وفي أذنيّ رنين..هبطت إلى الشارع الرئيس باتجاه الفوتكس، وابتعت قنية نبيذ..ثم قصدت البحيرة. وجلست على أحد المقاعد الخشبية.. كان الجو هادئا، لفحة برد خفيفة.والشمس في غياب على الرغم من أن السماء صحو..كان هناك بعض المتنزهين.. والمارة.. وعجوز على الساحل عن يميني تقود كلبها الصغير.. كأني أحد المشردين أرتشف من القنينة وأعود أتابع النظر إلى الأفق..بعد ساعة من جلوسي أمام البحيرة صامتا كالتمثال.نهضت أصعد الدرجات ،واتجهت إلى الشارع العام..ثم ملت نحو Estadgade  حيث البغايا اللائي ّ ينتشرن فرادى في الشارع،فيلحن وهن بفساتينهنّ القصيرة أشبه بالتماثيل المزروعة على الأرصفة.رائحة الخمر تشيع من أفواههنّ،ضحكاتهن من دون سبب تستوقني.عليّ أن أبدأ من حيث انتهى الآخرون.كنت أشعر بخدر لذيذ، فقد شربت الزجاجة كلها، وداعبت خيالي فكرة شارع السكس أو الشارع الوسخ تلك التسمية التي سمعتها من وضاح نفسه.. ماذا كنت أفعل منذ أكثر من عامين.. لم أعرف من كوبنهاغن سوى مركز اللغة شارع السكس .. التيفولي التي تتلألأ في الصيف والمطعم.. أوروبا  التي تبهر الأبصار.. كوبنهاغن الفاتنة.حددتني بشارع البغايا ومحطة القطار ثم التفولي والمطعم.مساحة صغيرة وجدت فيها الدنيا كلها من أجل أن يتحقق لي انتماء في المستقبل، المدرسة نفسها القريبة من خطواتي ماعاد لها ذلك الوقع  اللذيذ سوى جمل وكلمات تخطر في ذهني فأتحسسها في الشارع .. تركي .الباني.. أحمد العراقي..جوليت من جزر الفيرو حيث الشمال والمطر.. كانت تنظر من طرف خفيّ تجاهلت نظراتها الخفية.. بعض اهتمام تأملت ردة فعل له.. هنا يمكن أن أتجاهل أية  فتاة النساء يبدلن الرجال والرجال يبدلن النساء، وقد أصبحت واحدا من هذا الخليط .. أيقنت أني يمكن أن أبدل أرضا بأرض كما أبدل حذائي..أرضا عشت فيها منذ طفولتي.. بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان.. هكذا أنشدت مع طلاب الصف الأول في مدرستي الابتدائية ثم خُلِعتُ من ذلك المكان كما لو أني  أخلع سروالي .. من السهل أن أخلع حذاء قديما.. " جوليت" تجاهلتها تماما فسبقتها " دانا" يوما كأنّي على موعد معها.. فكرت أن أدعوها أتقرب منها لكني ترددت.. أحسست أني أحقق ذاتي في المطعم  وغدا أخلع " دانا"  حتى تذكرت الشارع الوسخ في حالة سكر فاقتربت من إحداهنّ..سألتها :

كم؟

مائتا كرونة...

ما الفرق بينك وبيني أنت تعيشين في مبغى.. أحبك jeg elesker dig  ..كوهم جه I love you لم تعد الإنكليزية اللغة الوحيدة في العالم.. أنا وسط شارع تحيطني محلات تطل منها واجهات تحمل الخزي،هؤلاء يمقدور أية منهن أن تتحدث لغات العالم... وأنا أكتشف مؤخرا أني أعيش مع واحدة مثلك..  قهقهت ساخرا، وقلت :

أوكي لكن من الجانب الآخر

وتركتها دون أن أعلق وكانت ترد عليّ بنغمة  أشد سخرية:

أيها الطفل المسكين النقود التي معك لاتكفي! إلجأ إلى يدك أفضل..

إغضبي ، مهما بلغ بك الحنق فلن تتحول كوبنهاغن بنظراتك وسخريتك ، في لحظات،إلى لبوة شرسة،أنت لن تصلي بقدرتك إلى بعض من سطوة " شارلوته"..كان مركز المدينة، والبحيرات،وثمة مدينة الألعاب،والنوروبرو، والقبة السماوية،الصور التي تقع عليها عيناي كلّ يوم،ناعمة جميلة الملمس مثلة أشعة الغروب السادرة بين الدفء وجفلة البرد حتى ثارت بوجهي شارلوته،فاضطرب السكون من حولي ، فتفتحت عيناي على منظر بغيض .. بشع قاتم .. مقزز كريه..

من الجانب الآخر ياابن الكلبة..

وحالما ابتعدت عنها مخلفا محطة القطار وراء ظهري لمحت على الرصيف المقابل  لوحة غريبة.. فأنا منذ أن انتهيت من مركز اللغة الذي يقع في الشارع نفسه لم آت إلى هنا بل لم أمر من الطريق.. الشارع الوسخ ولوحة على واجهةِ محلٍ طورَ الإعداد..حلال لحم حلال.. سكران.. وبغايا ولحم حلال.. الحلال في قلب الحرام، أطلقت ضحكة زلزلت الشارع.. الحاج شعيبي انتقل إلى رحمة الله وقفز محله إلى شارع البغايا هذه هي النهاية.. كان يحلم أن يعود إلى المغرب فمات وانشطر محله مثل البكتريا.. الحلال ينشر نفسه في كل مكان مثل البكتريا.. الطاعون.. السفلس ، وثمة أشياء آخرى تنتشر لانراها إلا متأخرين كخيانة فظيعة  تقتحم عليك بيتك.

ليس هناك من شيء  في كوبنهاغن ليس في قبضتي سوى أني قرفت من نفسي والأشياء، لذت دقائق بحافة البحيرة ، بدأت أغري البجع كأنني أرمي شيئا في الماء أردت أن أسخر من نفسي فوجدتني أسخر من الطيور،تهمّ إلي بجعات من بعيد ويهبط إلى الماء نورس وحيد.. هل حقا رحت أمارس تفاهتي على الأشياء الأخرى ،فأجد أن شيئا ما يفصلني عن الماء والطيور.. ألتفت فيقع بصري على كلب صغير تخطى صاحبه بمسافه وكاد يحف ظهري، فبقيت ساكنا حتى اجتازني الكلب ، فالتفت ثانية إلى البحيرة....

كانت البجعات تراجعت.

والنورس اختفى...

عافت نفسي العودة إلى الشقة، فسرت بخطوات متثاقلة باتجاه مدينة الألعاب، اجتزتها لأدخل مجمع صالات العرض.... لا بد أن أعود فأجدها نائمة، لأصحو مبكرا فأغادر الشقة وهما نائمان.. كي أقابل وجهين آخرين في العمل لا أحبهما.. البحيرة .. السينما.. مدينة الألعاب.. أماكن انطبعت في نفسي.. أصبحت شيئا لا ينفصل عني.. خلال العام الماضي قبل ولادة " علاء الدين" ذهبنا إلى السينما أكثر من مرة.. تقريبا شاهدنا كل الأفلام الدنماركية.. ثالث أو رابع فلم شاهدناه معا " رقصات مع ركزتا"..ركزتا التي قبلها بطل الفلم على بطنها.. كانت حامل وقبل أن تحبل " دانا" قبلتها على بطنها مثلما يفعل بطل الفلم..الشيء الذي لم أنسه أن "ركتزا "ذهبت مع شخص آخر وعادت إلى زوجها..في تلك الليلة لم يكن هناك من فلم دنماركي ... كانت صالات العرض تعج بأفلام أمريكية.. وألمانية.. كنت أبحث عن فلم "ركتزا" الذي ضاع مني.. شيء ما، ولا طاقة لي بالبقاء خارج الشارع.. لاشريط في السينما يستهويني، ولا مكان أرغب في الذهاب إليه. "ركتزا" التي قبل زوجها بطنها المنفوخة كانت ترقص سعيدة في الحفلة رقصت مع شاب آخر خطف قبلة سريعة من شفتيها.. وفي الصباح جاء زوجها يحمل حذاءها الذي نسيته في حفل البارحة.. كنت سكران أترنح وأتمايل...آخذ طريقي إلى البيت.. وعندما وصلت وجدتها صاحية ... استقبلتني بلهفة ، وحاولت أن تطوق ذراعي، فقلت وأنا أترنح :

تأخرت أحمد.. قلقت عليك حبيبي..

أتركيني أريد أن أنام.

أحمد لقد قلقت عليك.. الساعة الآن الثانية عشرة.

إتركيني قلت أريد أن أنام.

وتمتمت مع نفسي:

لاشك غضبي لم يأت بعد"وتمتت مع نفسي"عاقبت قبلك بغية وبجعات.وسيأتي دورك!

دخلت الغرفة وكنت أرتمي بملابسي على السرير.

7

في تلك اليلة – ليلة الحادث – قذفني الشرطيّ داخل زنزانة باردة ذات دكة عالية إسمنتية  لاغطاء عليها، في الأعلى تحت السقف مباشرة فتحة للتهوية يهب منها هواء بارد..كان هناك مرحاض يقابل باب الزنزانة مفتوح من الأعلى يستر الجالس إلى الكتفين.. سألت شرطية فأذنت لي، وأشاحت بوجهها عني حتى قضيت حاجتي وخجل يراودني كاد يمنعني من أن أفرغ مافي مثانتي حيث كل من يعبر الممر من الشرطة يرى وجهي.. ثم عدت إلى الزنزانة فاستلقيت على الدكة والهواء البارد يلفح كتفي ويتغلغل في مفاصلي..كانت بي رغبة للنوم، على الأقل أقتل الوقت نوما، وعلى الرغم من أن الوقت صيف إلا أن تيار الهواء راح يهش النوم عن عينيّ.. أين مني حرارة السيخ وفرقعة الزيت حين تلامسه أقراص الفلافل التي كنت أنفر منها كل مساء... ما كان مضجرا في المطعم يبدو مسليا في هذه الزنزانة الباردة.. الدفء غاب تلاشى.. الحرارة تسربت.. ابتعدت عني..وفي الساعة الحادية عشرة أخرجي شرطي إلى غرفة التحقيق،وجدت رجلا نحيفا ذا وجه طولي بملابس مدنية قدم نفسه بصفته محامي .. بعد دقائق حضر شرطيّ، وضغط على جهاز تسجيل:

أحمد بلوط هذا هو سامك؟

وجه الشرطي شبيه بأحد لاعبي كرة القدم المشهورين ملامحه في ذهني ولا أعرف اسمه..خمسة  شرطة في بقاع متباعدة رسموا وجوههم في ذاكرتي.. منذ أعوام خلت ، دفعني شرطي عراقي إلى الحدود، ووضعني شرطي إيراني في مخيم، إيران قالت عني عراقي، والعراق ادعى أني إيراني، وأول ما أسأل عنه اسمي. خاتمة جيدة لبداية ما :

نعم

أنت متهم بضرب زوجتك وإهانتها

ثاني شرطيّ يحقق معي في الدنمارك..، يوم وصلت،واجهت قائمة من الأسئلة في المطار،طال التحقيق معي ، ثم أرسلت إلى محقق آخر،وقتها لم أكن أتضايق، فما ألاقيه أفضل مما مر، وطعم الأسئلة هذه المرة يختلف:

نعم

هل تعترف

نعم

ما الدافع لما عملت؟

يبدو أن الجلسة تطول والأسئلة تتوالى، المحامي ينصت باهتمام أو غير مبال .. قد أبقى في التوقيف شهرا..ربما أكثر..

اكتشفت أنها تخونني

تشك بأحد يشاركها الخيانة

وضاح الرجل الذي أشتغل عنده.

كيف أدركت الأمر؟

حين أكون في نوبة العمل يتسلل إلى بيتي

أنا غريق في يم لاقرار له.. المسألة معقدة..الإعتداء على امرأة في الدنمارك ضريبة لها ثمن.. أفقد حق المواطنة في المستقبل.. أسجن..لم لا أجعل الآخرين يغرقون معي .. الضرائب اختفت من حسابات وضاح.. الكهرباء والمغناطيس ولو اشترى محل الحاج شعيب لتلاعب بمقاييسه..رجل دنيء النفس يملك ثروة طائلة ولا يمتنع عن التلاعب بمقياس الكهرباء.. إن لم تكن تلك دناءة فكيف تكون إذاً..ساعات العمل الإضافية التي يمنحني إياها بعيدا عن أعين الدولة..رجل لا أخلاق له.. عنيف.. لجأ إلى العنف عام 1962 المعتدى عليه الآن وزير خارجية البلد...صاحب مباديء .. العرب شيطنوا إيران .. تبقى الثورة أقرب إليه من صدام الانقلابي.. إيران ثورة..الخميني  مثل لينين.. ميرابو.. ماذا عن آل سعود.. حكام رجعيون..ارجعوا إلى ملفاته السابقة في الدنمارك والعراق..يستورد بيرة مهربة من ألمانيا..كثيرة هي السوآت ..

إني بحاجة إلى ورقة وقلم:

المحامي يتدخل:

هذا تحقيق أوليّ سيزودونك بكل ماتطلب.

كيف عرفت أنها تخونك؟

السيدة " شارلوته" رأته يدخل عليها في غيابي.

هل هناك من دليل آخر؟

قلت وأنا أزدرد ريقي:

وماذا عن ابني علاء الدين إنه يشبهه تماما ألا..

إن كان الأمر كذلك كان بإمكانك أن تطلق، تترك...

تدخل المحامي ثانية:

إنه لم يستطع أن يكبح هيجانه.

أنا محاصر.. المنافذ سدت بوجهي..الحقائق تتشابك والجلسة تمتد ، المحامي نادرا ماكان يتدخل طول الاستجواب.. بعد ساعة أعادني الشرطي إلى الزنزانة فأضطجعت  على الدكة، ظل الهواء البارد يلاحقني.. ربما غفوت ولعلني واصلت يقظتي من دون أن أشعر بالنوم.. خيالات كثيرة رسمت مع وشوشة الهواء الهابط بعض القتام على أيامي القادمة.

إنه الندم..

تهورت..

لحظة حركت الماضي والشرق في داخلي..تصرفت بحمق .. أجل.. عليّ أن أعترف.. حصلت على عمل.. وجمعت خلال سنتين مالا، فلم سلكت سلوكا عنيفا.. خانتني " دانا" فليكن إلى سقر..  إلى الجحيم.. في الشرق الذي تناسيته تنبت لي قرون أكثر من اثنين أما هنا... الطلاق الانفصال...كل شيء يمكن أن يتحقق بهدوء، ياللسخرية أقصى عقوبة أتلقاها بعد الانفصال نفقة لوضاح الصغير.. أنفق على ابن ليس مني.. نطفة أخرى.. أخف ثمن أدفعه في حياتي بدل من السجن والمحاكم والعقوبة التي تؤخر حيازتي على حق المواطنة..الوطن كاد يكون بين يدي وأجده الآن يهرب مني إلى حيث لا أدري...

وطن جديد ناعم ينتظرني..

دنماركي.. أذهب إلى الشرق بوجه آخر..

لم أنتبه إلى الوقت، فقد جردني الشرطيّ من ساعتي وطلب مني أن أنزع خيط حذائي قبل أن أرمى في الزنزانة،ويبدو أنها كانت الحادية عشرة حين فتح الباب واقتادني شرطي إلى موقف تحت دكة خشبية عالية كان بعض الشرطة يقفون وراءها وكل منهم يتحدث مع  شخص ما،ماعدا شرطيا في الخمسين من عمره وقف ينتظرني. قال لي من دون مقدمات:

زوجتك اتصلت بنا بعد ساعة من توقيفك ومن حسن حظك أنها تنازلت عن الدعوى وإلا كنت تبقى عندنا في الحجز شهرا قبل أن تحال إلى محكمة!

بقيت صامتا، تنفست الصعداء، وصفعني خبر جديد..

تنازلتْ..

لم أكن أتوقع أن يحدث هذا..أظل صامتا فيسترسل الشرطي الذي وجدت نفسي مجبرا على أن أرفع رأسي للأعلى حين يخاطبني، ففي تلك اللحظة ، وددت لو أطأطيء  كطفل أبله :

وضاح الذي تعمل عنده جاء ليصحبك لكن أي عنف .. أي اعتداء يجعلني أرميك في السجن أنت عامل في محله وهناك ارتباطات قانونية بينكما يجب حسمها كذلك مع زوجتك عليك أن تعي ذلك!

كان يكلمني كما لو أني طفل..قشعريرة البرد مازالت تسري في مفاصلي، هل أفقد لفحة النار.. فأين تلاشت لسعة الشاورما الدافئة الساخنة في موسم الصيف..

 

د. قصي الشيخ عسكر

.......................

حلقة من رواية: علاء الدين

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم