صحيفة المثقف

الانتحاب بعد الانتخاب الاختيار الذاتي للسياسة التي تَشبهُنا

رائد عبيسنضطر احيانا للبكاء لا شعورياً، وربما نبكي لاسترجاعنا قصة ذاتية حزينة، وربما نبكي ألما على واقع قد فرض علينا، وربما نبكي على واقع قد فرضناه على انفسنا، فهذا ما يستحق البكاء فعلا!!

خاض الشعب العراقي تجربة الحكم القهري، مدة ليس بقصيرة، وخاض تجربة التقلبات السياسية الخطيرة، بكل ابعادها التي انتهت به إلى الحروب الخارجية، والداخلية، والصراعات الاجتماعية والقومية وغيرها.

وهذه التجارب تركت أثرها السلبي على المزاج السياسي العراقي، وامتلك الشعب كره السياسية وتداعياتها التي لم تلبي صبره عليها. فصبر الشعب العراقي على اي نظام سياسي عادة ما ينتهي إلى تذمر واستياء كبير. ولعله معذور من الناحية السايكولوجية بهذا الأمر، ولكن طبيعة المزاجي السياسي للمواطن العراقي متقلب جدا، لأسباب معروفة عند كل من يقرأ هذا المقال.

لماذا ينتهي المواطن الذي يمارس عملية الانتخاب إلى نوبة من الانتحاب والبكاء والندم؟! ولماذا ينتخب مجدداً بعد أن كان ينتحب؟! ولماذا أستأنس لهذا البكاء وعشق العويل؟ ولماذا أستأنس بأنين الحزن الدفين ؟!

هل يعني ذلك أنه لم يعد يكترث للفرح، ولم يعد يعبأ بالحزن والأسى؟ وهذا ما يعبر عنه دائما ودليل هذا التعبير أنه بدأ لا يتعض بالحكمة القائلة (المؤمن لا يُلدغ بالجحر مرتين) يبدو أنه حول عملية مد اليد لتجريب اللدغ لعبة ممتعة، كالطفل الذي يمد يده لشيء يخاف منه مع رغبته بمحاولة التجريب.

الواضح مما تقدم أنه كذلك،بدا يبحث عن من يبكيه لا من يفرحه، مطبقا بذلك المثل القائل (سر وراء من يبكيك لا من يضحكك). فتجربة التصويت الاختياري للطبقة السياسية عبر الانتخابات التي خضناها كثيرا - برغبة المشاركة و الإختيار- سرعان ما نجد انفسنا ننتحب ونبكي من جديد، بسبب ذلك الاختيار وتلك التجربة، ولكن مازال المجتمع لم يعي تلك الرابطة بين البكاء أو الانتحاب وبين الانتخاب بعد، لا يفسر هذه الرابطة ولا يعلل اسبابها بدقة، لم يعرف بعد حقيقة الواقع الذي يختاره لنفسه، لقد تمكن الظلم والظالم من المجتمع ؛ بسبب صبره وإمكانية تحمله لكل تجربة انتخابية جديدة، ويقول لنمنح الفرصة لمن يطلبها ونصير! فهو بهذا الصبر المهين لا ينشد التغيير ولا يجده الا في الفرص الجديدة التي يمنحه المجتمع لساسته، فساستنا يمثلون علينا ادوار الاستعطاف ومسح الدموع وجبر الخواطر، والمجتمع مصدق ذلك ويعده انعطافة كبيرة في السياسة العراقية وأمرٌ غير مألوف،فمن سياسي يبكيك ويكون سبب في دموعك الى سياسي يمسح دموعك دون أن يعلم لماذا انزلتها أو هو يعلم أنه سبب في انزالها، ولكن يمثل عليه خديعة جبر الخواطر، فالسياسة العراقية شاع بها نظام جبر الخواطر، والارضاء، والتعويض، والمجاملة،على حساب من لم تجف دموعهم بعد.

فعادة ما نختار سياسة تشبهنا، عبر اختيار شخصيات قريبة من مزاجنا السياسي وطموحنا به، ورؤية أنفسنا فيه، وهذا كلام على قدر كبير من الخطورة، وهو رؤية المجتمع نفسه في سياسته على الرغم من ظلمهم وجهلهم !!

فمقولة " الشبيه ينجذب لشبيه " هي عبارة تحمل عمق في هذا المقال، فالمجتمع العراقي كثيرا ما ينساق من دون شعور الى خطابات تدغدغ مشاعره، وتحاكي طموحاته، وترسم مستقبله في خياله، بعيدا عن الواقع، وهذا ما يصدق في خطابات سياسيينا الذين مارسوا الكذب السياسي بعمق؛ لأنهم أدركوا سذاجة المجتمع بعمق. و الاختيار السياسي من قبل المجتمع على وفق المزاج السياسي والفطري، قد يكون تعليل لكثرة الأحزاب وانشقاقها عن بعض، فكل يوم نشهد تأسيس حزب سياسي جديد، وكل يوم نرى انشقاقات على اكثر من مستوى، وفي مواقع مختلفة تنفيذية، أو تشريعية، أو حزبية، أو عقائدية وغيرها.

فالتعليل السايكولوجي لاختيار سياسة تشبهنا قد نجده في نفوسنا جميعا، وندرك عندها مدى تقبلنا لهذه الأنظمة السياسية، وانماطها، وانواعها، ونماذجها، وشخصياتها، فكل مرحلة سياسية نجد أنفسنا فيها، وهذا يمثل عمق الازدواجية في المواقف السياسية ! حتى وان كان البكاء والنحيب مصيرنا معها، بل قد رضينا حتى بالموت، والقتل، و الاعتقال، والذبح، والتصفيات، والاغتيالات، والطائفية، والحرب و إلى آخره !!! وهذا ما قيل على لسان سياسي فاشل وهو ابراهيم الجعفري،عندما قال "بأن التجربة الجديدة تستحق الدماء"!! أو قول آخر وهو همام حمودي " بان العراق يعيش في رفاهية ومرحلة يجب أن يشكر العرقيين فيها ربهم عليها " او قول هادي العامري عندما ذكر " بأن الفقر في العراق كذبه !! " نعم إن هؤلاء لا يعرفون بقيمة الالم العراقي، فالمواطن يعاني من العوز وعدم القدرة على معالجة الأمراض المستعصية، فضلا عن الأمراض البسيطة، او دفع إيجار مسكنه، أو ضعف قدرته على مقاومة الفقر، أو الظلم، الذي يلحق بهم من جراء كل ما تعرض له العراق من تبعات الصراع على السلطة، نعم هناك الم عراقي غير منظور وغير محسوس ولا يَشعر به الساسة، إلا من يحمل هم المسؤولية الوطنية اتجاه أبناء بلده الذي يعاني من سوء كل الخدمات وفي كافة القطاعات، المواطن العراقي بات ينتحب على كل شيء ومن كل شيء مورس بحقه من التجربة المرة التي يمارسها فرحاً ضاحكاً لينتهي بها الى حزن وكآبة وعويل وانتحاب، الشعب ينتحب ايها السادة من سوء الاختيار، انه ينتحب لأنه اختاركم، بل أنه ينتحب رغم اختياركم، بل إنه ينتحب ويختاركم من جديد وهو مقتنع بكم وبانتحابه!!، يا لها من مفارقة غارقة في مستنقع الدموع !!.

 

الدكتور رائد عبيس

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم