صحيفة المثقف

كانط في تجريده المثالي للوجود

علي محمد اليوسفتعريف: عن كانط قوله: (الجوهر هو دوام الواقعي في الزمان، فهو يدوم – الجوهر- حيث يتبدل الباقي – المظهر الخارجي – فالزمان ثابت ودائم كمناسب لشيء ثابت في الوجود هو الجوهر، والزمان والمكان كلاهما حدسان سابقان على وجود الاشياء في العالم الخارجي)1، الكلمات التوضيحية بين شارحتين اضافة من كاتب المقال.

الثبات في الوجود

في الاقتباس السابق نجد كانط في مثالية واضحة أراد أن تكون محسنّة عن مثالية بيركلي الذاتية الساذجة، يعتبردوام ثبات الشيء في العالم الواقعي، مرتهن في تعالقه مع ثبات الزمان في الذهن الذي هو الآخر لا يتغير، فأصبحت مجانسة ثبات الشيء في العالم الخارجي، هي في ثبات الزمان ملازمته ادراك الاشياء. لذا كان ثبات الزمان يعطي / وتستمد منه جواهر الاشياء وجودها الثابت في اعتبار كانط أن الزمان حدس قبلي سابق على وجود الاشياء.

ويعتبر كانط وجود الاشياء مدركة مكانيا في ثباتها، ولا يعني أو يلزم هذا أن الثبات يطال وجود الاشياء بذاتها او ماهيتها بل في ظواهرها فقط،.بالعكس تماما من تصوراتنا أن جوهر الاشياء هو الثابت وظاهرياتها الخارجية هي المتغيّر. والسبب في تعليل كانط لهذه المفارقة أننا نستطيع اخضاع ظواهر ألاشياء للتجربة في حين يتعذّر ذلك بالنسبة لجواهرالاشياء الثابتة كيفيا ماهويا في ذواتها العصّية على قدرة آلية ادراك كل من المكان والزمان لها، من غيرأجراء سلسلة من التجارب العلمية عليها لمعرفة الاشياء في جواهرها وكيفياتها وهذا من اختصاص العلم اكثر منه مباحث الفلسفة.

تفسيرنا لرؤية كانط، أن الثبات المكاني للاشياء هو في أدراكها زمنيا – مكانيا معا، كون الزمان والمكان متعالقان ومتلازمان في أدراك الاشياء سوية حسب فلسفته، أذ لا يمكن أدراك الاشياء في وجودها الخارجي مكانيا فقط من دون ملازمة الزمان له بأدراكها .

أما ثبات الاشياء كموجودات في ذواتها فهي بحسب كانط أيضا لا تأثير يسري عليها في ثبات الزمان الملازم لوجودها الماهوي الثابت، فالاشياء في ذواتها ليس سهلا أدراكها زمنيا كون الزمان افتراض حدسي أثيري غير مدرك يقينا قطعيا كوجود، وبالتالي تكون معرفته والتأكد منه بالتجربة العلمية متاحا اكثر من ادراك العقل له فلسفيا، وهذا لا يتوفر عليه (الوجود بذاته) المدرك زمانيا.

فوجود الشيء مكانيا، بحسب كانط يمكننا تأكيده بحدس أولي يقوم على التجربة لاحقا اذا اردنا. بينما وجود الشيء بذاته لا يدرك حدسيا عقليا بوسيلة ادراك ثوابت الاشياء، وثبات وجود الشيء بذاته لا تطاله معرفة الادراكات الحسية في تحقق ماهيته وجودا بل يمكن معرفة كيفيته الجوهرية في سلسلة من التجارب العلمية المخبرية عليه.

نجد مهما التنبيه الى أن كانط هنا لا يتعامل مع ادراك الاشياء الخارجية على وفق الآلية المعروفة في استخدام العقل للحواس، بل هو هنا يعالج كيف يكون ادراك الشيء مكانيا وزمانيا فلسفيا وليس علميا وظائفيا فسلجيا، في اعتبارهما – المكان والزمان- حسب كانط معطيان قبليان ثابتان في الذهن متلازمان في ادراك الاشياء ومن دونهما لا يكون هناك ادراك متحقق عقليا ب(آلية) أخرى غيرهذه.علما أن هناك في مباحث الفلسفة والمعرفة والعلم ما يربو على أكثر من عشرة نظريات او اساليب ادراكية لعالم الاشياء في وجودها المستقل عن الانسان.

أن فرضيات كانط هنا في موضوعة ادراك الاشياء هي خروج فلسفي على السابق عليه في ما يخص مباحث الميتافيزيقا والوجود والذات والعقل والحدس والادراك والماهية وغيرها وهو ما سعى له كانط كغاية في فلسفته وتعقيده المثالي لادراك الاشياء .

نجد مهما أيضا هنا مناقشة كيف يكون التفريق بين ثبات الزمن، عنه في ثبات المكان بعد تسليمنا أن مايدركه العقل مكانيا من الممكن تحديد ثباته الماهوي الكيفي كوجود بذاته بالثبات الزماني له، التي يكون الأمرهنا مختلفا عنه مع ثبات العقل في الزمان ومطابقته ثبات الاشياء في ظواهرها فقط وليس في جواهرها وماهياتها.

عندها يكون لا فرق بين ادراك الشيء مكانا عن ادراكه زمانا عند كانط فهو مدرك من كليهما معا.وهذا مطابق تماما لفهمنا أن (لغة) التعبيرعن وجود الاشياء لا يمكننا فصلها عن (الفكر). فكما أن ادراك الشيء مكانا هو ادراكه زمانا، يكون أيضا لا تعبير عن وجود الاشياء باللغة بمعزل عن الفكر في ملازمته لها.

ولصعوبة أمكانية أدراكنا الزمان فلسفيا تجريديا كوجود وليس كوسيلة استدلال به، يلجأ كانط معتبرا ثبات الزمن يرتهن بحقيقة عدم ادراكنا له على أنه سريان مؤلف من سلسلة من تيّار التعاقبات الافتراضية ألاثيرية التي ندرك الاشياء بالاستدلال بها ولكننا لا ندركها هي لا كوجود حدسي في ظاهره ولا كوجود يقيني بذاته، أي أن التعاقبات الزمانية حدس استدلالي غير مدرك حسّيا – عقليا، لكنه هو الاستدلال به على وجود غيره من الاشياء في الطبيعة، والتي نكتفي في تعليلنا حدس هذه التيارات الزمانية المتعاقبة على أنها من أبتداعات العقل الافتراضية في حاجته وتوّسله الزمان في أدراك الاشياء. التي من الممكن حدس تأثيراتها ونتائجها أكثر من توفرنا على أمكانية التسليم بها وجودا متحققا يقينا تجريديا معرفيا.

لا أعرف مدى صحة ما قرأته يوما عندما سئل أنشتاين الذي أعترف انه قرأ كتابي كانط نقد العقل المحض ونقد العقل العملي وأفاد منهما، سئل كيف تثبت لنا أن سرعة الضوء هي ثلاثمائة الف كيلو متر/ ثانية، أجابهم اننا يجب علينا التسليم بذلك كفرضية علمية هي أقرب الى الصواب منها للخطأ.

وفعلا بغير هذا الافتراض العلمي الاستدلالي كان لا يمكن لعلم الفيزياء وعلم الفلك القيام بفتوحاتهما العظيمة في دراسة ومحاولة معرفة الكون والفضاء وبناء أنساق علمية فيزيائية وكونية في أعتمادها صحة وصواب هذه الفرضية في سرعة الضوء.

لذا نجد وهي وجهة نظر ربما نقيل بها عثرة من عثرات كانط في كتابه نقد العقل الخالص فقط لا أكثر، أنه كي يخلص كانط من هذا التناقض البادي في التفريق بين ادراك وجود الاشياء مكانا، وادراكها زمانا، قال بأن الزمان والمكان حدسان قبليان متلازمان ثابتان في الذاكرة والذهن سابقان على الوجود الخارجي للاشياء، ومن غير تلازمهما معا لا يمكننا معرفة او ادراك الوجود.

ضاربا عرض الحائط كل استدلال لوجود الاشياء لا يعتمد المكان والزمان كمعطى استدلالي فلسفي ثابت في الذهن نفهم به ادراك الاشياء. شأنهما تماما شأن الفكر واللغة في تلازمهما التعبير عن الاشياء في وجودها المستقل خارج فعالية الدماغ او العقل في تخليقه فهم وادراك الاشياء.

اشكالية التجانس في الثبات

من الملاحظ اننا نستطيع نقد كانط في مقولته تلازم ادراك الاشياء في الزمان والمكان معا من دون انفصال ادراك الاشياء مكانا عنها في ادراكها زمانا، أذ أن ثبات الزمان في الاستدلال العقلي به على أدراك ثبات الاشياء المتجانس معه هو حتما غيره في ادراك مجانسة ثبات المكان مع ثبات ظواهر الاشياء في وجودها بالعالم الخارجي. في حين يتعذّرعلى العقل ادراك الزمان بنفس (آلية) ادراكه وجود الاشياء المادية حدسيا مكانيا في معرفة وادراك الاشياء في ظواهرها وليس في ماهوياتها الذاتوية، وهذا منطق كانط الفلسفي أن جواهر وكيفيات الاشياء هي ثوابت الشيء بذاته لا يمكننا أدراكها لا حدسا ولا بالحواس كما في استدلالنا على ظواهر الاشياء في ثباتها مكانا وزمانا معا.بمعنى ان الزمان والمكان يدركان الوجود ولكنهما غير موجودين وجودا مدركا بكيفياتهما الذاتية.

ليس من السهل تمرير الافتعال في التسليم مع كانط ربطه ثبات الزمان في ادراك ظواهر الاشياء كسبيل وحيد لادراكها،فالوجود المادي للشيء، لا يتجانس ادراكه في مثالية افتراض انه وجود ثابت يلتقي بالضرورة مع ثبات الزمان في ادراكه له. فادراك العقل للوجود المادي للشيء لا يستدعي بالضرورة تمريره، من خلال حدس عقلي وسيلته الزمان والمكان باعتبارهما معطيان قبليان ثابتان في العقل الذهني والذاكرة فقط، بغض النظر هل هما( الزمان والمكان) من ابتداع عبقرية العقل أم هما نتاج التجربة الفطرية التي ترسّخت في العقل بالخبرة التراكمية المعرفية بمرور الوقت؟ فآلية الادراك عن طريق الحواس في التوصيل للدماغ عبر الجهاز العصبي مقبولة علميا ولا تأخذ بالتفسير الفلسفي للادراك كما هو عند كانط. والمدركات والعقل ليسا معطيان سابقان على الوجود، على العكس من أسبقية الزمان والمكان على الوجود كما في فرضية كانط الفلسفية في ادراك الاشياء.فادراك العقل للاشياء عن طريق الحواس لا يتم ما لم يكن هناك وجود مادي سابق عليهما.

اننا نعلم أن كل الاشياء المادية وغير المادية في وجودها الخارجي المدرك هي مظهر وجوهر،كينونة وماهية،ندركها على وفق آلية ادراكات الحواس لظواهرها الخارجية البادية لها، وليس في قدرة الادراكات الحسية ولا الحدسية ولا العقلية امكانية ادراكها جواهر الاشياء المدخّرة في باطن او داخل الشيء بذاته، والتي تحتاج معرفتها جواهر وكيفيات ماهوية غير هذه الآلية التقليدية فسلجيا في الادراك الطبيعي الفيزيائي لها، آلية لا تعتمد مدركات الحواس المنقولة للعقل عبر الجهاز والمنظومة العصبية فقط بل تحتاج نتائج التجارب العلمية والمختبرية لمعرفة حقيقة الاشياء في ذواتها لا في ظواهرها.

كانط كغيره من فلاسفة المثالية أمثال، ديفيد هيوم، وبيركلي، يتنكر نهائيا لأسبقية الوجود المادي للاشياء في العالم الخارجي على أدراكها بالذهن، وأن هذا الوجود المادي السابق للاشياء هو الذي يعطي ويمنح وسائل ادراكها المؤطرة في الزمان والمكان، ومن الخطأ الذي يتجاهله المثاليون أعتبارهم وسائل أدراك الاشياء أنها هي وسائل خلق الموجودات في الذهن والوقع معا، وان كل شيء تتم معالجته في الذهن فقط بمعزل عن الوجود المادي للاشياء في واقعها الخارجي.ومن غير التفكير الصوري للموجودات في الذهن لا تكون الاشياء موجودة في الواقع برأيهم الفلسفي المثالي المزعوم..

يمكننا القول فلسفيا أن كل وجود غير موجود مكانا،فالوجود كطول وعرض وارتفاع هو وجود مادي هندسي الابعاد غير ثابت في تجانسه مع ثبات حدس المكان القبلي له في الذهن، وليس كما في تجانسه الادراكي الثابت زمانيا، فالوجود مكانا محكوم بالحركة والانتقال والتغيير، لكن يبقى حيّزالمكان الذي كان يشغله قبل حركة الوجود التغييرية او الانتقالية ثابتا يدركه الزمان على افتراض أن المكان وليس الشيء الذي يشغله في كل الاحوال هو مدرك خارجي لغيره، ومدرك مكاني ثابت في ادراك وجوده زمانيا ثابتا أيضا، وهذا لا يتوفر للزمان فهو يدرك الاشياء والوجود الخارجي، ولا يدركه هو خارجيا أحد، ولا بمستطاعه ادراك ذاته ايضا، لأن الزمان لا يمتلك وعيا ذاتيا الا في أن يكون وسيلة ادراك واستدلال العقل به في معرفة الاشياء وادراكها. فالوجود في تطوراته وتغيراته وانتقالاته الذاتية والموضوعية لا يسحب حيّز المكان الذي يشغله معه.في حين يبقى الزمان ملازما ادراك الاشياء كموجودات ثابتة او متغيرة متعينة مكانا او متغيرة في حركتها.

فالمكان المدرك به الاشياء وليس المكان المتعين وجودا كحيّز في اقتران وجود الاشياء به، هو كما مر بنا حدس قبلي بالذهن وافتراض وجودي استدلالي ومثله الزمان أيضا يختلفان جوهريا عن أدراك وجود الاشياء المستقل بالطبيعة، وليس الزمان أو المكان وجودان ماديان يمكن ادراكهما مثل بقية الاشياء المادية في الطبيعة لانهما معطيان ثابتان سابقان على الوجود، وهذا لا يعدم او ينفي ادراك وجود الاشياء في ثباتها او في تحولاتها حدسا زمانيا.

الادراك الزماني والمكاني للاشياء افتراضان حدسيان للاستدلال بهما لكنهما غير مدركين ذهنيا وجودا مثل باقي الاشياء في الطبيعة. والشيء المدرك مكانا هو وجود متغّير ظاهري وليس ثابتا على العكس من ادراك الزمان للشيء فهو ثابت لأنه غيرمفارق لوجود الاشياء بعد الاستدلال المكاني - الزماني لها.

من هنا يمكننا أبطال فرضية كانط المشروطة بأن المدرك مكانا في ثباته الحرج المتحرك القلق القابل للتغييرالمستمر، هو نفسه المدرك زمانا في ثباته الدائم. وبهذا لا تصح فرضية كانط أن الثبات في وجود الشيء يعمل على أدراكه مكانيا وزمانيا بفرضية أن الزمان والمكان كليهما في ثباتهما هما وسائل ادراك الاشياء في ثباتها المتجانس معهما وليس في متغيراتها المتقاطعة مع ادراكهما في الذهن.

وهنا يبرز اختلاف بأن الشيء المدرك مكانا في ثباته المؤقت القلق محكوم بالتغيير لذا يكون ادراكه غير مفارق لوجوده الظاهراتي الخارجي المتغير باستمرارادراكه مكانيا، ولا يتاح ادراك جوهره او ماهيته لا مكانا ولا زمانا الا بعد استهداف فك شفرة ماهيته وجوهره بالتجربة فقط..

فنظرية كانط الفلسفية في الادراك تشتغل على مجانسة ثبات الزمان والمكان مع وجود ظواهر الاشياء فقط في ثباتها وليس في ثبات جواهرها.وهذا لا ينفي تلازم الزمان والمكان في ادراكهما الاشياء في ظواهرها لكن باختلاف نوعية الادراكين، فالمدرك مكانا يختلف عنه المدرك زمانا، وان كان المكان والزمان متلازمان في ادراكهما الشيء الواحد معا. الاختلاف أن ثبات الظواهر المدركة للشيء لا تشابه ثبات ماهية الشيء بذاته في عدم امكانية ادراكه.

الشيء المدرك مكانيا هو أدراك لوجود متحرك لظواهرخارجية متغيّرة ومدركة زمانيا في آن معا، فالزمان يدرك ظواهر الاشياء في ثباتها الدائم المتجانس مع ثباته الدائم، والمكان يدركها في ثباتها المتغيّر، وبذا لا نجد فكاكا بين الادراك المكاني في تلازمه مع الادراك الزماني لكن باختلاف نوعي بينهما. تماما كمثل ليس هناك تعبير لغوي عن شيء من دون تداخله مع فكر.أي أن اللغة والفكر واحد في التعبير.لكنما يمكننا تمييز الفكر عن اللغة وهذه غيرها موضوعة استحالة فصلهما في تعبيرهما معا عن الشيء الواحد.

الادراك في الثبات والتغيير

اذا كنا تماشينا مع كانط انه لا يمكننا ادراك الاشياء الخارجية الا في ملازمة (ثباتها) في تجانسها مع ثبات الزمان والمكان معا،أذن فما الذي يتغير في الاشياء بوجودها الثابت الذي لا يتغيرفي أدراك الزمان والمكان له سوية حسب كانط؟ وما أهمية ادراك الاشياء من دون النظر في أمكانية معالجتها تغييريا في تحولاتها الدائمة المتكررة؟ وما فائدة أدراك الاشياء في ثباتها الدائم من دون أن يطرأ عليها تغيير؟..

نسمح لانفسنا الاجابة عن هذا التساؤل، أن الذي يتغير في هذه الحالة، أنه لا يمكننا التسليم أن عدم امكانية التغييرفي الادراك مرتبطة بادراك الاشياء في تلازم الثبات مع الزمان والمكان، واذا كان المكان والزمان هما معطيان قبليان بالذهن يدركان على الدوام الاشياء في ثباتها فهذا لا يعني انعدام امكانية تغيير الاشياء بعوامل ذاتية وموضوعية خارج تأثير ادراكها بالزمان والمكان، فأدراك الاشياء هو غير تخليقها المتجدد بالذهن واستحالة فقدان الاشياء قابلية التطور والتغييروالحركة.

ونجد أن فصل ظواهر الاشياء وجوبا ضروريا عن جواهرها في وحدة ادراكها لا يتماشى مع فرضية كانط أن الاشياء تدرك زمانيا ومكانيا معا في عملية ادراكية واحدة تعنى في أولوية أدراك مظاهر الاشياء الخارجية وليس أهمية معرفة كيفياتها الماهوية. لكن من المفروغ التسليم به بداهة فلسفية أن الاشياء هي ظاهر وجوهر، ولا يمكن أدراك ظاهريات وجود شيء من دون ملازمة جوهره وماهيته له التي تحتويه وتلازمه.وليس من الضرورة بشيء أن أدراك ظواهر الاشياء يعني أدراك كيفياتها وماهياتها وجواهرها أيضا. فما يعتبره كانط ممكن أدراكه هو ثبات ظواهر الاشياء في تجانسها مع ثبات الزمان والمكان في العقل فقط.

أن كانط يذهب كما قلنا قبل قليل الى أن الثبات في الشيء تكون ظاهرياته هي المدركة فقط وليس ماهيته او جوهره بذاته. وهذا يوقعنا في اشكالية أن ظواهر الاشياء في وجودها الخارجي اكثر عرضة للتغيير الدائم المستمر منه للثبات المطلوب كانطيا في انجازالادراك.ظواهرالاشياء تتغير باستمرار بمعزل عن ادراكها مكانيا او زمانيا، وظواهر الاشياء في وجودها الخارجي الثابت هو المطلوب كانطيا حتى يمكننا ادراكها بثبات معياري وفهم المكان والزمان لها وجودا.

ان الشيء الملفت للانتباه أن تغيير ظواهر الاشياء الدائمي المستمر هو يتطلب بالضرورة ملازمته تغيير ماهوي جوهري له. لايمكننا ان نتصور تغييرا في ظواهر الشيء من دون ملازمة تغييره في خواصه الماهوية والكيفية في دواخله الذاتية. في حين كانط يذهب ان ادراك الشيء مكانا – زمانا لا يتعامل مع مدركات متغيرة بل مع مدركات ثابتة تجانس ثبات الزمان والمكان في ثبات ظواهر الاشياء المدركة.متجاهلا أن ابسط ذرة في الكون الى أعقد مجرة فيه تحكمها الحركة والتمدد والتغيير المستمر.

كما أن كيفيات وجواهر الاشياء الخارجية غير البادية للادراك هي ثابتة عند كانط لا يمكن تغييرها أمر يحمل من الشك وعدم الاستيعاب قبوله الشيء الكثير، أنما المنطق المقبول أن كيفيات وماهيات الاشياء تكون ملزمة ضروريا بالتغييرالجدلي الذي يطال ظواهرها وجوديا، حتى في حال لم يتعرض ادراكها المادي الى محاولة معرفة جوهرها ذاتيا. فادراك وجود اي شيء يدرك كوحدة وجودية كلية تتكون من جوهر وظواهر.والتغييرهو ديالكتيك من قوانين الطبيعة يحكم الوجود كله بالحركة والتغيير المستمر بفعل التضاد الذاتي والظروف الموضوعية للموجودات والاشياء.

في فصل كانط أن ادراك الشيء يتناول ظاهرياته الثابتة مكانيا - زمانيا دونما ماهياته، لا يمكن تصوره وتمريره فلسفيا. والشيء المدرك حسب كانط هو في ظواهره الخارجية البادية فقط وليس في ماهيته غير المدركة. وبحسب كانط ظواهر الاشياء ثابتة كما هي ماهياتها ثابتة، ويتعذرعلى الزمان والمكان ادراك ظاهريات الشيء في عدم ثباته، والتأكيد على الثبات كشرط أولي في الادراك عند كانط جاء من أعتباره أن الزمان والمكان هما حدسان معطيان قبليان ثابتان بالذهن في وظيفتهما الادراكية لعالم الاشياء.بهذا الفهم المثالي الكانطي نجده يلتقي تماما مع مثالية بيركلي الذاتية المتطرفة، التي تذهب الى وجود الشيء كجوهر وظواهر خارجية متداخلين في ادراك الشيء حسيا صوريا وتتم في الذهن فقط ولا شيء خارج الذهن العقلي الذي يدرك الاشياء بالمحسوسات، وكل ما لا تدركه حواسنا لا وجود حقيقي له في عالم الاشياء.

كيف ندرك الاشياء فلسفيا؟

أن الفهم الفلسفي وحتى العلمي السابق على نظرية كانط في الادراك يبدوان متفقين كلاهما، بان ادراك الاشياء الخارجية تتم وفق آلية نقل الحواس المدركات الاولية لها الى الدماغ ثم تجري عملية فهم موضوع الادراك و تخليقه ثانية قبل أجابة العقل عليه في التعبير عنه باللغة المتداخلة مع الفكر او بغير اللغة في ايحاء دلالي يصدره العقل تكون فيه لغة التواصل الدارجة ملغية، لغة صامتة تكمن في بطن المنجز وثناياه الذي يصدره العقل كما في التعبير الصامت عن الجمال والفنون وبعض القيم واليوغا والباليه ورقص بعض القبائل البدائية الوثنية وطقوس السحروكذلك مع مسرح التعبير الصامت القائم على الايحاءات الحركية للجسد.

الادراك الذي استعرضناه عند كانط انما يقوم على أن الزمان والمكان هما معطيان حدسيان في الذهن ويتم بواسطتهما ادراك الاشياء في وجودها الخارجي بالطبيعة، على اساس من تفريق ادراك ظواهرالاشياء في ثباتها المتجانس مع صفة الثبات في الزمان والمكان في الذهن، وفي عدم قابليتهما ادراك جواهر الاشياء.

الادراك الفلسفي التقليدي للاشياء هو في استقبال العقل عن طريق الحواس الشيء المدرك صوريا كوحدة وجودية اندماجية واحدة لا تفريق بين ماهيتها وبين ظواهرها قبل تخليق العقل لها ثانية في معالجة ذهنية معقدة .

على العكس من تصوراتنا يقوم كانط بالبرهنة على صحة معتقده الفلسفي في اثباته أن الزمان والمكان حدسان قبليان في الذهن ثابتان يتم من خلالهما ادراك الاشياء في ثباتها المتجانس مع ثباتهما بعملية ميكانيكية لا يوجد معها اي نوع من جدل او تخارج يفيد في معرفة وادراك الاشياء بأكثر من ميكانيكية ادراك ظواهر الاشياء في ثبات منعزل عن جواهرها او ماهياتها الكيفية.

لقد أراد كانط بهذا النوع من الادراك اثبات أن الزمان والمكان هما معطيان قبليان تجريديان بالذهن ولا يتم ادراكهما الحدسي الا من خلال ادراكهما ظاهريات الاشياء في وجودها الخارجي.أي أن حدسنا للزمان والمكان لايتم الا في ادراكهما وجود الاشياء.ولا قدرة للعقل ادراك الزمان لا في داخله بالذهن كحدس استدلالي، ولا في حال انفصاله – الزمان - عن العقل في ادراكه الاشياء.

جوهر الاشياء وظواهرها

جواهر الاشياء في وجودها الخارجي التي أعتبرها كانط في حالة ثبات دائم، حالها حال ثبات ظواهرها التي يتم ادراكها بمعزل عن ماهياتها، أنما يلتقيان في افتراض كانط أن واقعة الثبات في الاشياء هي تناسب متجانس مطرّد مع ثبات كلا من الزمان والمكان في ادراكهما الاشياء، بمعنى أن (ثابت يدرك ثابت) آخر متجانس معه بالصفة ولا يدرك العقل متغير يتقاطع معه بالثبات.

وبذلك أعفى كانط هذا النوع من الادراك أن يكون لملكة العقل أية فعالية تذكر في امكانية معرفة ماهوية الاشياء او كيفياتها واستعاض بدلا عنها بمقولته أن الكيفيات تكون معرفتها بالتجربة العلمية فقط وليس بتجريد العقل الذهني في معالجتها كما هو السائد في العلم والفلسفة ايضا قبل وبعد كانط في كتابه نقد العقل الخالص.

بهذا المعنى ذهب كانط الى أن الاشياء في ماهويتها لا تتغير بالزمن لا ذاتيا ولا موضوعيا، لان الادراك المكاني والزماني الثابت لا يقوى على تغيير ثابت مثله. وبذلك جعل كانط من العقل وسيلة ادراك الاشياء وليس امكانية تبديلها او تغييرها. وهذا هو جوهر الفلسفة المثالية انها منظومة فكرية مهمتها تفسير الحياة لا تغييرها، على العكس من الفهم المادي الذي يرى ان مهمة الفلسفة فهم الوجود وصنع الحياة وتغييرها وليس شرح وتفسير ظواهرها فقط.

أن كانط لم يخرج عما اراده فلاسفة المثالية الذين سبقوه،أدعائهم أن ادراك الاشياء في وجودها المادي الخارجي لا يرتبط بغير التفكيرالذهني التجريدي، فالواقع صور ذهنية مدركة في الدماغ لا وجود حقيقي لها الا بالذهن فقط. والعقل لا يدرك الا ظواهر الاشياء الثابتة غير المتغيرة، وليس من مهمة العقل محاولة تبديلها من وقائع ثابتة الى متحركة متغيرة لا في صفاتها ولا في جواهرها.

من المعلوم المسلم به أن الاشياء في وجودها الخارجي المكون من ظواهرها وكيفياتها لا تتغير ولا تتبدل من دون علة سببية تعتمل في داخل الاشياء بتضاد ذاتي غير منظور يتحيّن الظروف الخارجية التي تساعده في زيادة التناقض الطموح الذي ينتج عنه استحداث ظاهرة وجودية جديدة مغايرة لاصلها التي انبثقت عنه ديالكتيكيا ولا يتم هذا من غير هيمنة العقل على تخليق الاشياء في تسريعها نحو وجود متجدد. ومن الثابت أيضا أن جواهر الاشياء هي في وحدة جدلية من التناقض ومن الانسجام في دواخلها وهذا الجدل يطال أيضا علاقة الجدل المتبادل بين ظواهر الاشياء بالضد او مع ماهياتها وكيفياتها، وأن أي تغيير في ظواهر الاشياء يستتبعه بالضرورة تغيير في كيفياتها والعكس من ذلك التخارج الجدلي صحيح ايضا،أن كل تغيير في جواهر الاشياء يستتبعه تغيير من نوع ما في بنيته الظاهراتية. وكما ان الشيء بذاته يرتبط بظاهرياته في علاقة جدلية، عندها يصبح استحالة فصل الشيء بذاته عن مجمل ظاهرياته التي بها يتعيّن وجوده المادي وادراكه العقلي.

أن الحقيقة العلمية التي يتنكر لها كانط،هي أن كل وجود او ظاهرة بالحياة محكومة بقوانين الطبيعة التي في اكتشافها وليس في اختراعها، تؤكد لنا أنها جميعا من أصغر الاشياء في الذرة الى أعقدها في الكون انما هو في حالة حركة مستمرة وتغيروتمدد دائمين لا يحكمها السكون الدائم، من بين تلك القوانين هو الديالكتيك الذي يحكم المادة والوجود الانساني والطبيعي والتاريخي في الحياة.

وليس الديالكتيك هو حصرا القانون الذي اكتشفه هيجل وأخذه عنه ماركس والفلاسفة الماديين هو من اختراعهم، بل هو قانون يعمل في الطبيعة باستقلالية عن الانسان، من قبل ومن بعد اكتشافه على أيدي هيجل وماركس.الديالكتيك أو الجدل هو قانون طبيعي في الوجود قبل أن يتحوّل الى فلسفة ماركسية مادية وايديولوجيا.

وهو قانون كما اكتشفه الفلاسفة من هيراقليطس وصولا الى هيجل وماركس وعشرات واكثرغيرهم من فلاسفة ومفكرين، يقوم على أن التناقض وحراك التغيير يعتمل داخل كل ظاهرة وبمساعدة ظروف خارجية مساعدة للتناقض الذاتي تنتقل تلك الظاهرة الى أخرى جديدة مستحدثة، لتندثر في تخليقها لأخرى غيرها وهكذا.طبعا فلاسفة المثالية جميعهم يرفضون هذا ويستعيضون عنه بأن الوجود المادي للاشياء ثبات في الذهن فقط ولا وجود لشيء في الواقع لا تدركه الحواس خارج الذهن.

كما أن الشيء بذاته لا مستحيل في معرفته وادراكه على حقيقته أن لم يكن في ادراكه العقلي فبالتجربة العلمية. ولكي تكون فرضية كانط مقبولة فلسفيا أبتدع الادراك عن طريق ثبات اربعة اقانيم هي : ثبات المكان،ثبات الزمان،ثبات الوجود ظاهراتيا، واخيرا ثبات جوهر الوجود ذاتيا.أي أن كانط لا يعترف بّأي من هذه الاقانيم الفلسفية غير العلمية الاربعة في ثباتها، أية متغيرات تطرأ عليها يدركها العقل في حركتها خارج ثباتها المدرك كانطيا.

لقد كان تأكيد كانط على أهمية ثبات ظواهر الاشياء التي يمكن لنا ادراكها لوحدها في مجانسة ثباتها مع ثبات كل من المكان والزمان في ادراك الاشياء ظاهراتيا فقط، متجاوزا حقيقة أن معرفة الاشياء بماهويتها وجواهرها الذاتية أهم بكثير وبما لا يقاس عنه الاقتصار على معرفة وأدراك الاشياء في ظواهرها الخارجية فقط والتي أعتبرها كانط (ثابتة).وأن قدرات العقل في الادراك لا يمكنها التقدم أكثر من ادراك الثابت هذا.

الوجود بذاته حسب كانط يعتبره وجودا ثابتا لا يمكن للعقل في ثوابت الزمان والمكان لديه من ادراكهما له . وتعقيبنا عليه ان ثبات الاشياء هو ثبات نسبي يختلف جدا عنه في ثبات الزمان والمكان المفترضان فلسفيا، وأن كانا يشتركان بصفة الثبات الافتراضي فلسفيا كانطيا، الا ان الاشياء في وجودها الخارجي محكومة بادراك الزمن لها، والزمان في ملازمته الاشياء لا يعطيها ادراكها وحسب، بل يساعد على تغييرها وتطورها الذاتي والموضوعي معا.

أن ثبات جوهر الاشياء عند كانط وأستبعاده أي أدراك وتغيير لها لا يمنع من مسايرة الزمان الدائمية للوجود بذاته من خلال أدراك الزمان لظاهرياته الخارجية المدركة له، وجوهر الاشياء انما يستمد ثباته من ثبات علاقته الارتباطية بالزمان المطلق الافتراضي.

هنا لابد لنا من تثبيت استدراك ينطوي على مغالطة انطولوجية – ادراكية، فالشيء الثابت بذاته قد يلازم ثبات الزمان، لكن باختلاف جوهري بينهما. فثبات الشيء بذاته غير معصوم أن يطاله التغييركونه وجودا متعينا ملازما لظواهره الخارجية المدركة مكانا وزمانا،كما هو حال ادراك الموجودات في الطبيعة. بينما ثبات الزمان هو ثبات مطلق لا يدركه العقل ولا يدرك هو ذاته، وهو ثبات معياري استدلالي يتخارج مع ادراكه الموجودات التي تعطيه نسبية تخرجه من المطلق الزماني الى المتعيّن المادي في ادراكه الاشياء.

مطلق الزمان لا يتعامل مع ادراك الاشياء المادية وجودا خارجيا،بل الاشياء تحتاج نسبية الزمان الذي تجد فيه وجودها المتعيّن في عالم الاشياء من خلال ادراكها زمانيا، كما تعطي الاشياء بدورها نسبية الزمان امكانية حدسنا له عقليا من خلال نتائجه المتعالقة مع الاشياء. لذا يكون ثبات الزمن وفي أسبقيته على الوجود، أنما هو عارض افتراضي يتوّسله العقل في أدراكه الاشياء.ويزودنا بحدس نستمده من تأثيره للاشياء، ويتعذّر علينا معرفة الزمان بغير الاستدلال به فقط.

فالزمن كما يحدسه العقل افتراضا هو حالة من التداعيات الزمنية المنظمة غير الحسوسة ولا مدركة، تيار وسيلي معرفي أبتدعه العقل لادراك الاشياء على المستوى الفلسفي، أما الزمن في طبيعته المتواضع عليها فهو تحقيب تاريخي افتراضي يتوزّعه ماضي وحاضر ومستقبل. ولو لاحظنا كيف يتداخل الزمن في هذا التحقيب التاريخي لازدادت قناعتنا أننا نتعامل مع زمن واحد افتراضي، يتفرع عنه تقويم زمني واقعي في السنة والشهر والاسبوع واليوم، وكذلك الساعة و الدقيقة والثانية، وارتباط هذا التقويم بتعاقب الليل والنهار الخ.

خاتمة

(أن الاصل في الزمان لا يرتبط بالجوهر المادي ذاته، وأنما بمطلق الوجود، سواء أكان الوجود ذاتيا او خارجيا. ودوام الزمان يتداخل مع دوام الوجود، باعتباره عارضا عليه، وبالتالي لا يمكن أن يكون الزمان دليلا في حد ذاته على الواقع)2

كما أن (من المفارقات التي سقط بها كانط هي أنه أعتمد في أثباته للواقع الموضوعي على دوام الزمان، في حين ذهب فيما بعد الى أن الزمان ومثله المكان لا تعرف حقيقتهما أن كانت تتضمن الدوام واللانهائية أم لا، وهو المبرر الذي جعله ينكر وجودهما الواقعي. وتنطوي هذه النتيجة على مفارقتين احداهما أقراره بعدم وجود ما يثبت التسلسل في الزمان، وهو ما يعني العجز عن اثبات الواقع الموضوعي، كذلك هو نفي وابطال كل من المكان والزمان وما فيهما من ظواهر، وذلك على خلاف ما أراد اثباته عبر فكرة الجوهر وعلاقته بالزمن.)3

 

الباحث علي محمد اليوسف/الموصل

......................

الهوامش

1- المفكر الباحث يحيى محمد / تراسندتالية الواقع الموضوعي/ موقع المثقف العربي/7/11/2016

2- نفس المصدر السابق

3- نفس المصدر السابق

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم