صحيفة المثقف

دهشة الحقيقة

قصي الشيخ عسكرأخيرا التقيت السيد وضاح المهداوي.

 كأنني ألتقيه للمرة الأولى.

 لا أدري قط هل كان يجب أن يحدث كل هذا فأدركه وقد بدا أكبر من سنه بعقد من الزمان.. قضيت ليلة في السجن فبان الكِبَر عليه.. الشيب أنهك حيويته فكاد يصبح عاجزا أم رجع شابا أصغر من عمره بعشر سنوات.. كنت أشيح بوجهي عنه.. نظراتي تتحاشاه كأن عيني تنفران من مشهد كريه.. بعد كل ما حصل جاء يصحبني خارج التوقيف، لا أعرف أين أذهب، كيف أقضي الليلة، مادام الحادث مرَّ بسلام فما عليّ إلا أن ألتزم الصمت والهدوء.

في ذهني الطلاق وتصفية حساب الشغل

لا أكثر.

ارتحت؟ انتقمت؟ أليس كذلك؟

 حسبته يمضي بنا إلى المطعم ليصفي بعض القضايا معي، لكنه غير طريقه ومال عن محطة القطار، ومدينة الألعاب أوقف السيارة عند المكتبة الموسيقية، ودخلنا كافتريا الفوركس:

تأكل شيئا؟ أظنك جائعا فلا عشاء ولا فطور.

 بقيت معرضا بنظراتي عنه.

لا وسيلة إلا الهدوء.

مازالت لفحة السجن الباردة تسري في كتفي!

الإقرار بالهزيمة.. ربما تدل نظراتي إذا طالت إلى الأرض على احتقاري لشخص آخر لا أرغب في النظر إليه، غاب، وعاد بعد دقائق، وضع على المنضدة وعاء شاي وقطعا من " سنايل" و " فرانس بغذ".. قال بين الحزم والسخرية:

انظر لي حين أكلمك لاتهرب!

التفت أجيل البصر إلى الزبائن، وتحاشيت نظراته:

واجه المشاكل بشجاعة ولا تكن جبانا.

 ماذا يريد مني وقد عرفته كذابا من أول يوم التقيته؟! ذلك اليوم لم أكن في موقف يستدعي الكذب.. ربما أكون الوحيد من بين اللاجئين الذي نطق الحقيقة.. لست بحاجة أن أقول فجرت عمارة في بيروت وأدعي أن الحرب الأهلية هناك أنهكتني.. أعدائي حاصروني فإما أهدم بنايات وأطلق الرصاص أو أموت.. ولا أقول أجبرت على الذهاب إلى الجيش ففرت كي لا أقتل إيرانيين.. ملفي يكاد يخلو من الكذب.. أما من أسمى نفسه وضاحا فقد جاء في غير زمن اللجوء والكذب.. فتلاعب بالحاسبات وقوائم الكهربالء والضرائب ومحصول المطعم.. ليكن .. مادام الكذب مرتبا فلا غنى لنا عنه، اكذب.. اكذب وليكن كذبك لا ثغرة فيه.. الدنماركيون يدركون ذلك.. يعرفون أننا نكذب ويصدقوننا، فلم نكون ملكيين أكثر من الملك.. وقد رأيت الاستهجان على وجوه رجال الشرطة والمحقق .. القرف من رجل هاجم زوجته لأنها تمنح جسدها لشخص آخر كذبة أخرى.. تزوير جديد.. قلت متحمسا، وقد لمحت عينيه باحتقار:

طبعا لا أجرؤ على رؤية وجه رجل هتك عرضي!

فنفث الهواء، وارتشف من كوبه:

سأخبرك منذ البداية، لاتقلق، أعرف أنك سترتاح لحديثي، اعذرك لتصرفك الانفعالي.. ردة فعل.. لك العذر.. ولشارلوته العذر.. فهي تجهل كل شيء مثلك، فأنتما لاتعرفان أن " دانا " ابنتي!

 ماذا أسمع، صحو أم منام، يا إلهي، تجسدت تلك اللحظة أمام عينيّ قبل حواسي الأخرى رعونتي وقسوتي المفرطة. وترآى لي وجه "دانا" المليء بالكدمات والزرقة.. قسوت إلى حد بعيد فكدت لا أبصر خيط دم نزل من أنفها حتى سبقتني دقائق المواجهة.. لم يبق إلا أن أكره نفسي، رحت أجهش بصوت خافت.. سرعان ما تحولت شهقاتي إلى حشرجة شبيهة بالصراخ، فقال لي مندهشا:

أنت رجل .. عيب.. في مثل سنك أنا كنت مطاردا من رجال الأمن .. تذكر أنك في كافتريا.. فلا تلفت نظر الزبائن بسلوكك الطفولي..

 كرعت قدح الماء، ورشفت بعض الشاي، وقد أضمرت ألا أتناول أي شيء جلبه إلى الطاولة.. في ذهني أن أنصرف حالما أسوي الأمور بيننا وإن كنت لا أدري أين أذهب فيما بعد:

ابنتك؟

نعم قالها وهو يبتسم بمرارة.

هل تعلم "دانا "ذلك؟

لا أبدا، لاتعرف عن علاقتي بأمها تدرك أنها بنت شخص تونسي مجهول وأمّ بولندية وكاد الأمر يظل سرا لولا ولادة علاء الدين التي فضحت الماضي وكشفت المستور ذلك المعنى الخفي الذي لم أضعه في بالي أبدا.

قلت كأنني مازلت غير مصدق:

يعني علاء الدين حفيدك؟

و"دانا" ابنتي، وأنت زوجها، وشارلوتة زوجتي، مابك هل فقدت ذاكرتك بعد ليلة قضيتها في التوقيف!

 قلت وأنا أشيح بوجهي عن رجل ترآى لي يغرق بالماضي، لا احتقارا كما فعلت قبل قليل بل خجلا منه ومن نفسي لسوء ظن فرضه علي واقع أقوى دهاء مني:

كثيرا من الأحداث نكاد لانصدقها مع أنها تعيش فينا أو معنا.

كي أزيل عنك اللبس لا بد أن اقول لك إني هربت من بغداد إلى كردستان بعد انقلاب شباط بأيام ومن هناك إلى الأتحاد لبسوفيتي وبعد شهرين من إقامتي في موسكو وجدت النظرية في واد والناس في واد، البيروقراطية، والأزمات، العراقيون الهاربون معي تستشري فيهم الواسطة والمحسوبية فعرفت أني كنت مخدوعا أحببت كارل ماركس ولينين، وتحمست.. انفعلت ولجأت إلى العنف في بغداد، في نهاية الأمر يمكن أن يفضل علي أي انتهازي لواسطة ما أو لمصلحة ما.

لا شيء عندي أعقب عليه أمام ماض كشفه مولود صغير لاحول له.. كنت أتطلع في عينيه وأستغرف في بسمته ثم أرى أظافره الصغيرة الناعمة البيضاء مثل اللؤلؤ فلا أظن أنه يقدر على أن يخدش بها كلّ مابناه جدّه فليس هناك من شيء أقف عنده سوى التساؤل:

وهل كانت بولندا أفضل؟

ربما.. على الأقل في وارشو عشت حياة رومانسية. نشأت بيني وبين " مارتا" أم " دانا" علاقة حب كانت أقوى من أية لحظة خداع قد لا أكون مخطئا حين أقول إنها الحقيقة الأنقى في حياتي ماعدا ذلك البعد الرومانسي ففي وارشو فكرت في الدنمارك؟

لم الدنمارك بالذات؟

هي الأقرب إلى بولندا ففي ذلك الوقت لم تكن هناك مثل الآن إجراءات صارمة .. بإمكان أي شخص أن يُمَنَحَ تأشيرة الدخول حالما يصل الحدود، لا أحد قط يفكر في دول الشمال.. منفى.. دول مغلقة نصفها ظلام ونصفها نور في الوقت نفسه احتاج البلد عام 1966إلى بعض العمال من باكستان للعمل في الأرض ..

وازدرد ريقه " وواصل":

أصلا أنا لم أطلب اللجوء.. .

 هززت رأسي كأني أطرد كابوسا وقلت:

الحقيقة الأمور التبست في ذهني إلى حد كبير واختلطت علي معانٍ كثيرة فقد نعيش حياة نجدها سهلة ذات يوم غير معقدة غير أنها تبدو الآن.. .

 تابعني باهتمام وقرأت في عينيه توسلا .. براءة كانت مخفية .. نسيت كلّ مافعله بالمكائن وعداد الكهرباء .. وقوائم الضرائب ومافعله من غش في مدخول المطعم.. تساءلت قبل أن يقاطعني ياترى لو كنت مكانه لفعلت مثلما فعل حتى لو لم أفعل فأنا الآن أشعر برابطة تشدني إليه أكثر من السابق .. لم يعد ابن بلد طردت منه ذات يوم.. دول كثيرة ضنت عليّ أن تؤويني لكن هذا الرجل الذي تعرض من حفيده ابني لهزة عنيفة كشفته كان يراني أقرب شخص له في أوروبا لعله فكّر وقلب رأيه مرات ومرات.. وهو يدرك أن "دانا" ستنجذب لفتيان وشباب تتخذ -شأنها شأن البولنديات والإسكندنافيات -عشيقا ثم آخر وآخر حتى جئت فوجد فيّ فرصة يغامر بها.. أنا فرصته الأخيرة.. وتحقق له ما أراد .. الآن أظافر " علاء الدين" الناعمة خدشت جرحا قديما مستورا، هذا الملاك الصغير جزء منه ومني .. نشترك فيه نحن الإثنين. كان ينطق بمرارة:

لكن الصورة ستزداد وضوحا في ذهنك حين تدرك أني عرفت زوجتي وأم ولديَّ"شارلوته" هنا.. كان أبوها قنصل الدنمارك في موزمبيق.. رجل ذو ثروة.. صاحب مشاريع. والأهم أني استلطفتها واستلطفتني.. .

فابتسمت وقاطعته لأوفر عليه أن يلتقط أنفاسه ويستريح قليلا من حديث مضنٍ:

حالة تناقض .. إرباك.. تشتت ..

كنت أحب " مارتا" التي أخرجتني نعومتها ورقتها من طبعي العنيف، كانت رقيقة أشبه برق ملاك.. وكان مستقبلي "شارلوته" التي تزوجتها ثم بعد ستة أشهر قلت لها إن علي أن أسافر بضعة ايام إلى بولندا لمتابعة مشروع لي أسسته هناك قبل قدومي إلى كوبنهاغن.

أقرب إلى التعجب من الاحتجاج:

صدقتك من دون تأمل.

المشكلة إن المجتمع الدنماركي كان في الستينات أشبه بالمغلق يقبل الأجنبي بحدود، ويصدق أي قول. لقد ظل الأمر سرا بيني وبين "مارتا" حتى توفيت قبل عامين فأخبرت شارلوته أن لي صديقا تونسيا متوفى من أيام أقامتي في بولندا زوجته توفيت أيضا .. المهم لفقت حكاية حتى جلبت معي "دانا" في المطعم لتكون تحت رقابتي والحق يقال إن شارلوته تبنتها مثل ابنة لها.

الشيء الذي لم أفهمه كيف كنت تتواصل معها من دون أن تعرف الصغيرة بعلاقتكما أو تجهل كل شيء؟

أولا "مارتا" أصيبت بمرض القلب بعد وصولها إلى كوبنهاغن بثلاث سنوات مما جعلنا نمتنع عن ممارسة الجنس، أما قبل المرض فقد كنت أزور مارتا في منزلها خلال ذهاب "دانا" ألى الروضة والمدرسة. مرة واحدة اغتنمتها فرصة عندما ذهبت "دانا "في معسكر مدرسي إلى شمال الدنمارك فسافرنا معا الى يوغسلافيا حيث أجريت عقد زواج عند مفتي براغ الذي طلبت منه أن يجعل تاريخ العقد في زمن حددته له فقبل مقابل هدية ما ثم ختمت العقد من سفارة العراق هناك.. ورقة احتفظ بها في صندوق الودائع بالبريد.

 هكذا قبل أن يأتي علاء الدين بسنوات وقع وضاح صك إدانته.. ربما نستطيع أن نخفي كلّ شيء .. نخفي أموالنا في صناديق نؤجرها في البنوك.. وهناك في ألمانيا أو سويسرا ودائع وأموال لا تطالها الضريبة نتلاعب مع إدارة الكهرباء ومفتشي الضرائب لعبة القط والفأر.. . توم وجيري.. حتى يحين يوم ندين فيه أنفسنا.. .هل كان وضاح يلوي الزمن وحده فدفعته من دون أن أدرك ؟ كنت أسأل نفسي حين رأيت ولادة طفلته أعني زوجتي "دانا" التي لم يرد لها أن تكون ابنة سفاح.. يشرب الخمر .. يأكل اللحم غير المذبوح.. يغني وهو صاح أو يسكر بمواويل عراقية قديمة أكل الدهر عليها وشرب ولا يراني فاقدا للهوية.. من دون وطن.. لكن حاول أن يلوي الزمن فلويته معه وقد نجح لكن الأيام صرعته، والعلامة الفارقة بيننا أنه طلب أن أترك كل شيء ورائي. أنسى لكنه تمسك ببعض ظل للماضي ولم يدرك بعد أننا نهزم الزمن إذا جاءنا مُجْتَمِعا ويهزمنا إذا واجهنا مُتَفَرِّقا، وقد فاجأني سؤال مر بخاطري تلك اللحظة:

لكن ما الذي دفعك لكلّ ذلك!

فقال بابتسامة واسعة:

أنا لم أنبت هنا في الدنمارك، ولا في بولندا، صحيح أتجاهل الدين غير أن مشاعري دفعتني إلى أن ألتمس هذا الطريق إذ مهما يكن فلدي إحساس أن " دانة" جزء مني !

بقيت صامتا أتأمل في علاء الدين الصغير والخدوش التي طبعتها أظافره الناعمة على وجه " شارلوته" التي انقلبت إلى نمرة جريحة :

هذا يعني أنك لست نادما؟!

لا قط.. بل كنت أفكر بأسوأ من هذا من قبل.. حتى أني لم أرتح أن أدعو دانه إلى منزلي.. كانت شارلوته تسألني لم لا أدعوها مادامت ابنة صديق عزيز عليّ من زمن بولندا.. فتخيلت ماذا يحدث لو جاءت إلى البيت والتقت أحد أخويها.. قد تحدث بينهما علاقة.. فكنت اتفقت مع شارلوته إلا تأتي إلى المنزل ولاتبيت عندنا قط.

- بودي أن أسألك ماذا كانت ستكون ردة فعلك لو جاء " علاء الدين" شبيها بي؟

 قلت ذلك وللمرة الأولى يخطر ببالي أنه كبر، ولن يخمش وجهي بأظافره فقد أصبح يتكلم لغة غير لغة أمه ولغة أبيه، سيكون مثل هؤلاء الاسكندنافيين العمالقة يتحدث لغتهم مثلهم من دون لكنة، لن يقولوا له إرحل لن يصرخ فيه أحد من العنصريين هذا ليس مكانك.. وقتها ننزوي أنا وأمه بعيدا عنه:

- عندذاك ربما كانت الأمور تجري بهدوء ومن غير ما أنا فيه الآن!

 غير أني أتساءل مرة أخرى:

"دانا"لم تخبرني قط بزيارتك لها فكيف لم تعترف لها إلا أمس أنك أبوها ألم تشك في مجيئك للبيت بحجة جلب هدايا إلى علاء الدين..

"دانا" طيبة القلب سرعان ماصدقت أنّ أمها استثمرت معي مالا في المحل هنا وفي بولندا، وطلبت منها أن تحتفظ بالسر عنك حتى تختمر القضية وتتحقق لتستثمرا المال في مشروع.. .صدقت ولكونها أمينة تعدني مثل والدها أو لنقل والدها بالتبني وثقت بي وصدقت لذلك لم تخبرك حتى تتحقق من إتمام كل شيء.

وماذا عليك أن تفعل الآن؟

يبدو الأمر سهلا من الناحية البايولوجية فقد عرفت أن الدنمارك تلجأ إلى طريقة الحمض النووي لمعرفة علاقة اللاجئين القادمين إلى الدنمارك ضمن عمليات جمع الشمل بمن يدعون أنهم آباءهم وأمهاتهم، أما من الناحية القانونية فأنا أب لولدين، وثروتي مشتركة مع زوجتي ستكون هناك تبعات حول الميراث..

 أعتقد أن "دانا "ستكون سعيدة بوجودك وليست بثروتك.

مع ذلك فلدي بعض المال الذي أخفيه في صندوق الأمانات سأقدمه لها.. . ثم لا تنس أن شغل المساء الذي أخفيته عن " شارلوته" أوفره لزوجتك!

قد أكون نسيت نفسي فتساءلت:

ماذا تقترح علي أن أفعل؟

هل تذكر يوم أبلغتك بوفاة الحاج شعيبي؟

رحمه الله

اشتريا محله، ستعملان معا .

فكرة تغريني..

 أراه يهرب مني إلى "دانه" وأنا أهرب إليها.. إنه هربي الأخير.. لم أكن أتصوّر يوما أني أغادر العراق.. أو أتوقع أن أطرد.. لا أعرف لهجة أخرى ولا لغة غير الدنماركية التي تعلمتها الآن.. لأبدأ مشوارا جديدا مع " دانا"أؤدي الدور نفسه الذي بدأه من قبل عمي أبو زوجتي.. ألمح الحاسبة فأغير فيها.. أتلاعب في المبيعات.. أتفق مع محصل الضرائب.. سوف يصدقني الدنماركيون.. تصدقني مديرية الضرائب.. كنت تقول لي إن لم نفعل ذلك لانقدر أن نجمع مالا يضمن لنا المستقبل.. نكذب بترتيب.. لكنني لن أبقى إلى الأبد أعتمد على سائق بالأجرة ينقل إلى محلي جثث الخراف .. سأدخل دورة وأحوز إجازة سوق .. حتى أخالني أخرج من الجحيم إلى الفردوس.. نعم كانت غرفة التوقيف باردة كالجحيم ولا أرغب في أن أعود.. هناك أشياء كثيرة أقوم بها قبل اللعب بالحاسبة والضرائب وها أنا أكتشف غلطي. يراودني خجل الآن :

ربما باع ورثته المحل؟!

إطمئن أنا تحدثت معهم، ولابدّ أن تغتنم الفرصة!

 أفضل.. يخيّل إليّ أني أبدأ عملا جديدا.. محل الحاج شعيبي لا يبيع إلا الحلال ولا أغيّر سنته.. حرفة جديدة تدفعني للدم قبل طلوع الفجر أقصد الحقل والمسلخ.. .. أحز رقاب خرفان وثيران ودجاج.. فهل ذبحت من قبل.. لاشك أني في مطعم علاء الدين فرمت لحما أو قطعته شرائح لأعلقه فوق السيخ.. أما أن أباشر الذبح والسلخ.. و.. تلك حرفة جديدة كنت في غفلة عنها .. أقسم أني لم أذبح حيوانا بل كنت أتلذذ بحلول العيد حين أجد خروفا موثوق اليدين والرجلين والجزار يهوي على رقبته بالسكين، وكان شواء الكباب يثير شهيتي حتى كدت أفضله على أي طعام آخر:

واستند بيديه إلى المنضدة لينهض، فظننته ينوي الذهاب إلى دورة المياه، لكنه قال :

لكن.. كيف أقابل "دانا "بعد العنف الذي وجهته إليها؟!

لا بأس عليك كنت أحدثها عنك قبل اعترافي لها. قلت لها إنها غيرتك التي دفعتك إلى استخدام العنف معها.. أيّ زوج مكانك يمكن أن يقدم على فعلك.

إني أتركك الآن.

فسبقني خاطر سريع:

هل تدع لي ورقة زواجك من " مارتا"؟

قد أحتاجها في المحكمة.

قلت معترضا، فقد خالطني شيء من الندم كوني كتبت عنه في قسم التحقيق ورقة تخص الضرائب وخداعه حتى إني وددت أنهم لم يطلعوه عليها:

ماكان عليك أن تذكرها القوانين هنا لاتعاقبك عن خيانة امرأتك لكنها تعاقب على الزواج من ثانية.

فقال وهو يطلق ضحكة قصيرة:

إما أن يكون الاعتراف كاملا أو لا، ليس هناك مايدينني عدا هذا الأمر حتى لو كتبت عني بعض الخصوصيات .. ادعاء لاسند قانونيّ له.. " فتحولت نظراتي خجلا منه إلى الطاولة وشعرت بحمرة الندم تسري في خدي وبعض القشعريرة" فعقب وهو يراني سارحا في كلامه: "دانا"بنت طيبة مثل أمها هل تعقل أن أمها كانت تكره الشيوعية لقد احبتني أنا الشيوعي وكنت أزين جدار الصالة بغرفة الاستقبال عندنا في وارشو بصورة كبيرة للينين فتنظر إليها وتبتسم على الرغم من أنها لا تحبه.. مالي أراك مازلت جالسا.. . هيا دانة تنتظرك.. تذكر إنها طيبة القلب.. هيا انهض.. . لا تكن غبيا لن أذهب معك إنها بانتظارك.. .

كان يحمل على كاهله كل هموم الدنيا.. .

وقد خيل إلي أنه يدندن وهو يغادر الكافتريا بمقامه المعهود الذي تركه في القبو على المنضدة جنب آلة التسجيل، بدا أشبه بشخص لا يدري أن يذهب بحمل ثقيل بدأه يوم كان جزارا في نقرة السلمان.. سجين جزار يضحك ويتسلى بالمقامات العراقية وأغاني الريف فيغني للجمال والفلك الذي انقلب فجأة به والآخرين وهو مشغول عنه بالغناء ويده تحزّ خرفانا يجلبها القادمون من المدينة لأبنائهم، في تلك النقطة الغارقة في رمال الصحراء، ومن غريب الأمور أني أدركت أنه ورَّثني هذه المهنة التي سأتعلمها بعد أيام قبل أن أفتحح محلي الجديد، وستشاركني " دانا" في كل شيء.. ليست دانا وحدها .. علاء الذين الذي كشف المستور معها سأراه قبل أن يكبر ويرحل بعيدا عني .. فلماذا أمارس المهنة التي تعلمها جدّ ابني في سجن نقرة السلمان ذات يوم.. فقد تغير كل شيء .. كوبنهاغن تغيرت أيضا.. لاحت لي في تلك اللحظة أنها تخرج من عزلتها.. يبدو أنها بدأت تعرف الفلافل والساموسة وتستسيغ الطعام الحلال..

تنتفخ مثل البالون ولا تنفجر

 وتركني قبل أن يسمع ردّي..

 ولم أكن مخطئا حين قلت إنه أصبح شابا ورجع كهلا في وقت واحد.. كأنه يحمل على كتفه جبلا يشده إلى الأرض لم يكن هو وضاح الذي حاول أن ينسى كل شيء تماما.. ماعدا موالا أو بعض موال ظل يدندن به منتصف الليل حتى توارى عن عيني خلال النهار، فهل أرثيه أم آسف لشيء لم أختلقه كاد يودي بي.. ينهي جهدا عارما بذلته كي أحقق ذاتي في بلد جديد عليّ .. لقد أرادني – حين أنتهي من الإقامة والتجنس- أن أكون ذراعه التي تمتد بعيدا .. مشاريع في باله انهارت.. مؤسسات يفكر بها في ألمانيا والسويد أصبح أنا اللولب الدائر بينها، مع ذلك، على الرغم من خسارته فقد لمحت بعض الهدوء يطفو على قسماته الحزينة كأنه يقول لي مادمت تبقى مع دانا" فليذهب كل شيء إلى الجحيم..

لكن قدوم " علاء الذين" الذي لم يكن مفاجئا قط قلب الموازين كلها رأسا على عقب.. .. لا أشكّ أني حققت ذاتي من خلاله .. أشياء فقدتها فعادت إليّ وبسببه أيضا فقد جَدُّه كلّ شيء.. , أما أنا فلن أفقد رائحة وضاح فقد ورثته في كلّ الأمور.. وقد ورثته " دانا" و "علاء الدين" حفيده أكثر مما ورثه أبناه الآخران.. .فوق كل ذلك .. .لا أبالغ حين أقول إن هواجسي ذابت في حقيقة واحدة هي أني أظنني أصبحت أقرب إنسان إليه من دانة نفسها وابنيه الآخرين .. .

 وربما أقرب إليه من حفيده ابني.. .

كنت بعد دقائق أقف أمام باب الشقة كأنني عائد من سفر بعيد أنهكني سنوات طويلة.. رحت أبكي وأنا أهم بالدخول .. .

أجل..

كان هناك نشيج يترجرج في صدري قبل أن أجرؤ على الدخول.. ..

انتهت

 كلمة المؤلف

لابدّ أن أشير وأنا أختم نهاية تلك الرواية بهذه الصيغة إلى تأثير الأدب الروسي في منذ الصغر بالضبط في السادس الابتدائي وأوّل رواية قرأتها وهي الأم ثم توالت القصص والروايات الأخرى لكن طعم الرواية الروسية يظل مميزا بخاصة في مسألتي الأخلاق والتطهير. في هذه الرواية التي كتبتها نهاية ثمانينيات القرن الماضي وجدتني أنساق مع الذكريات القديمة فأجد أنَّ من الصعوبة أن أجعل اللاجيء يكذب ويزوّر ويختلس ويتلاعب في الضرائب. هناك جانب إيجابي في اللاجئين القادمين من الشرق إنها روح علاء الدين النقية التي تتعلق بالمصباح والنور. لقد انسقت مع هذا الاتجاه عن غير وعي مني حتى جاءت مقالة الناقد د صالح الرزوق عن مفهوم الاخلاق عند دستويوفسكي (المقالة منشورة في صحيفة القدس العربي)، فاتبهت إلى أن هناك شيئا ما في هذه الرواية كمن في نفسي بتأثير من لأدب الروسي عن غير وعي مني هو أني جعلت وضاحا مدانا ونقيا في الوقت نفسه بل أنه عاش في خاتمة الرواية أجمل لحظات النقاء.

تحيتي للأخوة النقادوالأدباء والقراء لتفاعلهم مع هذه الرواية.

 

قصي عسكر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم