صحيفة المثقف

الأصالة والقبالة.. إشكالية التحول بين الانماط الثقافية

رائد عبيس1440 هـ هو عام هجري  كان من المفترض أن يمثل للامة "العربسلامي" ذاكرة جديدة، غير تلك الذاكرة القديمة التي لا تحوي الا على تكلسات ورواسب الطوفان المعرفي الذي مرة به الأمة "العربسلامي" في العصر الذهبي لها، تاريخ تراث التلازم للأمتان "العربسلامي" يشكل ذاكرة مليئة بالفكر والمعرفة بكل مجالاتها، وبما أن "العربسلامي" يمثل اقتران كبير في هذا المستوى خلف عنه تراث عميق كبير وحضاري،كان من الواجب الحفاظ على هذا التراث واستثماره لخدمة أجيال أمة "العربسلامي" بطريقة عقلانية ومنطقية وعلمية سليمة، وأحياء هذا التراث في الذاكرة الميته لأمة "العربسلامي" واخضاع ما هو حي منه للكشف السريري والفحص والمعالجة، لأن ما مقدم منه إلى العلن هو ما يظهر البعد التخلفي لأمة "العربسلامي" بأبعاده السلوكية أو القيمية أو الفكرية أو الاجتماعية والعلمية في الغالب، بحيث أصبح أبناء هذه الأمة يقلدون الآخرين في كل شيء .صحيح هناك عوامل للحضارة المعاصرة تفرضها على واقع الشعوب،ولكن لا يعني ذلك أن تحدث تبعية كبير في استعارة هذه الأبعاد والأنماط الثقافية التي تركت أثرها وما زالت تترك آثارها على واقع الأمة "العربسلامي" بشكل خاص، وذلك لكونها مستهدفة بقصدية كبيرة،لحماية الكيان الصهيوني أو المصالح الغربية وحتى الشرقية بكل اقطابها، فضلا عن صراع الهويات والحضارات طالما يعبر عنه بصيغ مختلفة.

فثقافة التبعية أفقدتنا كثير من مقومات الأصالة وجعلتها هشة وضعيفة أمام التعريف بها. وهذه التبعية تمثلت في حماية متبنيات من عمق الذاكرة وما يُريد أن يستثمر منها، فأي استثمار للمخزون الحضاري بات يخضع لحسابات سياسية وأيديولوجية وعقائدية وهذا ما أظهر في أرضية الإسلام نتوءات بركانية،تقذف أحيانا عند ثورانها بمقذوفات خطيرة، وسامة،  وقاتلة بين عصر وآخر أو مرحلة تاريخية وأخرى،  تتمثل بجماعة متطرفة تشق في الاسلام طريق خاص بها، يتسبب بتشويه جسد الدين بكل أبعاده،وخطورة هذا الانشقاق عن ما ألف من الدين   يكون بتبعيته لأجندات خارجية، تبعية أفرطت بكل مقومات الأصالة وان كانت تحمل جزء من مسماها،مثل بعض هذه التيارات تستعمل كلمة سلفية، أو مسمى مشترك يحمل مدلول "العربسلامي" حتى يكون حجة أمام الناقدين والقائلين بتبعية بعض الجهات التي تدعي الأصالة من جهات أخرى بعيدا عن روح الأمة مثل: الفارسية أو الصفوية أو الهندية أو الماسونية أو الإسرائيلية أو الصهيونية أو غيرها من الحركات الصوفية الأوروبية التي تمر عبر هذه المسميات لجسد ثقافة أمة "العربسلامي" .

يتراشقون أبناء الأمة "العربسلامي" اليوم الاتهامات في نسب الانتماءات التي شكلت عائقا امام منافذ الحوار بين أبناء الأمة الواحدة، منهم من يحتمي بإيران، ومنهم من يحتمي بامريكا،وبعضهم يحتمي بإسرائيل،  وبعضهم يحتمي ببلدان الأصالة الاستعمارية التي تحركت على أساسها هذه البلدان في إعادة أنماط الهيمنة من جديد، مثل: تدخل فرنسا بالشأن الجزائري، أو تدخل ايطاليا بليبيا، أو فرنسا بلبنان،  أو بريطانيا بالسودان وموريتانيا والعراق وهكذا.

فالتفكير بإعادة إنتاج التبعية بصيغ جديدة، شكل نمط ثقافي عند البعض بحجة الانفتاح على العالم وما وصل إليه من تطور تكنولوجي، اما الأصالة فلم يعد لها مفهوم الا بأذهان المثل ومن يحلم بها.

هل الاصالة ممكن لها ان تنعكس على الواقع وتحوله الى أصالة جديدة؟ ام كتب عليها أن تبقى أصالة بمعنى تاريخ و لا يمكن استنطاقها؟  هل ممكن أن نحول الأصالة الى قبالة ؟ فالأصيل بمفهومنا عن تراثنا لا يعني أن مفهوم المشاركة به يتم عبر نسخه أو باستعارته أو بنقله، بل يجب أن نفهم أن الأصالة كفعل مشترك الا ما انفرد به ليكون كذلك، وهذا ما يجب أن يؤكد عليه ويقدم إلى العلن ليكون نمطا ثقافياً له سمته الخاصة بين أنماط ثقافات العالم.

فالقبالة التي قصدنا هنا هو ما يستقبل به الشيء،يعني أوله،واولنا نريد له أن يكون اولنا بمعنى يسير أمامنا ومقدمة وما يستحق ذلك،ليكون هويتنا وايقونتنا بين شعوب العالم والعلامة الفارقة لثقافتنا بين امم الكون،وليكن معرف لأمة العربسلامي وميزتها.

وعلى هذا وبه، يمكن لنا أن نقبل بقبلنا واصالتنا ونحن نفتخر بمنجزاتنا و أسلافنا ولنكون بها ما يكافئها بالحاضر وما يقبل علينا في المستقبل، ولكن لا يمكن لذلك الطموح أن يتم ونحن نعلم أن ذاكرة الاصالة ما زالت معطلة وان تراثها المادي مازال يطمر كل يوم مع أنقاض اخفاقاتنا، لدينا في دور المخطوطات والتراثيات والمتاحف ملايين الكتب التي لم تر النور بعد ولا شعاع العقول ولا طموح الاجيال بها، لدينا ملايين المخطوطات موزعة في المكتبات العالمية والمتاحف فضلا عن مكتباتنا المحلية، بعد أن نطلع على كل هذا التراث العلمي والفكري والمؤلفات التي كتبت في الحكمة والطب والدين والفقه وغيرها من المجالات عندها يحق لنا أن نعرف مفهوم الأصالة في ثقافتنا، أما غير ذلك فيبقى تعريفنا للأصالة قاصر عن أي دلالة بالوقت الحاضر، ونحن نعد ايام خلت تبعدنا عن مصدر هذه الأصالة وبيئتها.

لا مستقبل لأمة "العربسلامي" بدون الرجوع الى التراث،  وبدون إشاعة نمط موحد من ذلك التراث، ليكون أيقونة لافته في عالمها ودليل لقبالتها على مستقبلها ومستقبل اجيالها. ولا مستقبل لها كذلك بدون فك الارتباط التبعي الذي منحنا صفة غير أصيلة للثنائية المكونة "العربسلامي" والتي مكن الدول العدوة من العمل على احداث هذا الشرخ بين الاثنين، وهم يدأبون على أن يقنعوا العالم "بأن الإسلام دين لا يليق بالعرب" والعروبة لا يمكن لها ان تحتكر الإسلام، بكونه دين عربي وهو كذلك طبعا، ولكن نحن نتكلم عن الانماط الثقافية التي تصدر وتشاع تحت هذه الذريعة، فالإسلام هو دين عربي ولكن عالمي، لا حكر على جنس أو ثقافة أو قومية أو غيرها، ولكن مثل ما ذكرنا ما يصدر تحت هذه العناوين هو مكمن الخطوة والذي يقوض أسس الاصالة والحديث عنها واقناع الأجيال بها وهم لم يروا شيء ماثل أمامهم منها.

جامعة الكوفة عملت هذا العام على عد عام 1440ه عام الامام علي وهو التفاتة مهمة جدا، وهو ربط حادثة وقعت  في ٤٠ه  بعصر سنة 1440ه، هذه المسافة الزمنية والتاريخية ربما جزء من ذاكرته ميت في وعي الأجيال وتصوراتهم واحكامهم عنها، فقط التاريخ من هذا الزمن هو الحاضر في أذهان الأجيال مثل واقعة السقيفة، واقعة الجمل، واقعة صفين، واقعة اغتيال الامام علي عليه السلام، وهناك أيضا احاديث وروايات لها طابع شعبي لا تصدر عن وعي تحليلي لعمق هذا التاريخ وما سبقه. فهذه هي الملاحظة التي نريد أن نؤكد عليها. وتعني أن هناك زمن طويل يفصلنا بين تاريخنا ووعينا به. وهذا هو ما يحول من عدم سيادة نمط ثقافي ذو عمق، فيما لو تم تحويل مبادرة جامعة الكوفة مثلا الى تقليد سنوي بمناسبات أخرى مقارنة بتواريخ الأصالة وانتاجها في مؤسسات أخرى او جعلها طابع وطني عام يروج عنه حتى في وسائل الاعلام، على أن تنتج يبعدها "العربسلامي" أو المحلي أو الوطني،لا أن يرافق ذلك تحول هجين بين أنماط مختلفة تشوه البعد الثقافي المراد إظهاره من أحياء الذاكرة الاصلية للامة التي نجد أبناءها ينقلبون بين انتماء يساري، أو انتماء يميني ماركسي،أو قومي، أو سلفي متطرف،  أو داعشي أو شيوعي، أو صوفي،  أو يميني معتدل، أو ليبرالي، أو ديمقراطي، أو قبلي وغيرها من الأنماط الغير معلنة، فبلداننا "العربسلامي" مليئة بهذه الانماط التي أفقدت هذه الأمة مسماها الهوياتي والثقافي وعمق اصالتها وقبالة مستقبلها.

 

الدكتور  رائد عبيس

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم