صحيفة المثقف

الأصالة والضحالة الاستجابة العمياء للتاريخ وأقواله

رائد عبيستمثل العلاقة المتلازمة بين الدين والتاريخ علاقة عمق بين الديانات السماوية من جهة، والديانات الارضية من جهة اخرى، فهناك نماذج من التدين، كالدين التاريخي والدين المجتمعي، والدين السياسي، والدين العلمي، والدين الأكاديمي،والدين المعرفي، والدين الفطري، والدين التعليمي، والدين التقليدي. كلها أديان عند معتنقيها بغض النظر عن قيمتها ومدى فاعليتها، وعلاقتها بالسماء وبالحقيقة، جميع هذه الأديان ونماذجها تبحث عن أصالتها وان كانت أصالتها موجودة فهي متخيلة أو متصورة لأنها تظهر تمسك من أعتنقعا بها.

اذا ما الأصالة؟ وما علاقتها بالحقيقة؟ وما علاقتها بالمنطق؟ وما علاقتها بالعقلانية؟ وما علاقتها بالواقع؟ وما علاقتها بالمخيال الجمعي؟

هذه الأسئلة، والإجابة عنها تمثل معرفة بالمفردة الثانية من المقال، وهي معنى الضحالة، فما معنى الضحالة؟ ومن يحكم بها؟ وما أبعادها؟

هناك إشكالية كبيرة تنطوي على أرتجالية الأحكام تجاه أي قضية، من اي دين، أو فكرة، أو نظام، أو أي شيء بشكل عام. وهذه الارتجالية أما ناتجة من الجهل، أو التعصب، أو القطيعة بين الأطراف الحاكمة والمحكوم عليها .

أحد جزيئات هذه الإشكالية كانت تتعلق بأحكام العامة من الناس، بحق قضية ما سواء كانت دينية، أو سياسية، أو اجتماعية، أو معرفية. وهذا الحكم نابع من التاريخ، وتاريخ هذا الحكم وانتقاله في أذهان الأجيال، مثلا قضية السقيفة كثير من الناس من يرجع كل الإخفاقات السياسية والمؤامرات والخيانات الى تاريخ السقيفة، وقصتها، وتداعياتها على الفكر الجمعي الشيعي، وكذلك حادثة مقتل عثمان التي جيرت، وأصبحت مثلا للخيانات السياسية، وما زالت عالقة في أذهان العامة من المجتمع السني، أو حادثة واقعة الجمل أو غيرها من الأحداث التي تمحورت ذاكرة التاريخي حولها. وكثيرة هي الأحداث السياسية والعسكرية والفتن التي أخذت طابع ديني، وحولت الدين الى تاريخ وحولت التاريخ الى حكاية مجتمعية، تتناقل بين الأجيال شفاهياً، ويرافقها حكما تجاه الآخرين بل واتجاه القضايا والواقع والسياسية، وغيرها من المجالات الأخرى التي ممكن أن توصف بها هذه الحادثة أو تلك. فأصالة الحادثة أو الفكر أو الايمان لا يرتهن الى التاريخ، ولا يمكن للتاريخ أن يختزل أصالتها.

فكل شيء اصيل يجب أن لا يختصره التاريخ، او نختصر التاريخ به، فمجتمعنا مازال يتغنى بأطلال أجداده وماضيه، ويعد نفسه هو الأصل في كل شيء حضاري، حتى بات يختزل الحضارة وبدايتها أو أنها تنتهي إليه، في قراءة استشرافيه منه للمستقبل، فأصالتنا المتوهمة بدأت لا تقتصر على التاريخ الماضي فقط بل باتت تستقدم المستقيل أيضا، وتحوله جزء من ما تملك، فالذي يمتلك التاريخ ليس بالضرورة أن يملك المستقبل ونهايته، هذه مسائل يجب أن تخضع لتقييم العقل والمنطق والحسابات العلمية، وفي حالة عدم توافرها فإن أحكامنا على مفهوم الأصالة تبقى حاضرة مع الاوهام والتصورات الفارغة التي لا تنتمي إلى العلم والمعرفة. وهذا سوف يدخلنا في محيط الضحالة، فالضحالة في الدين تنتج لنا امثال داعش ونسخها التاريخية أو المستقبلية، والضحالة في الثقافة تنتج لنا وعي زائف ومتخيل وسطحي، والضحالة في العلم تنتج لنا علوم عقيمة غير نافعة، والضحالة في السياسة تنتج لنا مثل سياستنا الحالية وساستها، والضحالة في المعرفة تنتج لنا زيف، والضحالة في الشعر ينتج لنا شعر متحلل من قيمه، والضحالة في الأخلاق تنتج لنا أمراض اجتماعية لا شفاء منها، والضحالة في القيم ينتج لنا النفاق، والضحالة في الفن ينتج لنا الانحطاط الذوقي، والضحالة في الذوق العام هو جراء الانقياد وراء الموضة الباهتة،كل هذه الضحالات تنافس الحديث عن الاصالة،فالاضداد لا تجتمع، وان انفرد منها ما حقق تقدم في مجال ما كما هو الحال مع الغرب الذي تطور تكنولوجياً وعمرانياً وعلمياً، على حساب قيم أخرى جرفتها الحداثة والعولمة وتم التفريط بها لصالح ما تقدم، فهذا يعني أن الضحالة تنتج الى جانب الأصالة وربما تتأتى تبع بها ومخلفات منها. وهذا ما هو معروف في فلسفة التاريخ بانهيار الحضارات و أفولها.

فالضحالة القادمة اليوم في أوساطنا لا يمكن لها أن تنتهي الى احياء بعد اصيل مبتكر، أو احياء ما يمكن احياءه من الأصالة التاريخية لنوازي به مجال ما من مجالات المعرفة الكونية اذا تعذر سبقها وتصدر مشهدها.

وهذا متأتي بحسب وجهة نظرنا من الاستجابة العمياء للتاريخ وأحداثه وتشكل الوعي على أساسها.

 

د. رائد عبيس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم