صحيفة المثقف

التصوّف والموسيقى (1-2)

احمد الكنانيالتصوًّف بالمعنى المتبادر يرادف الزهد والأعراض عن الدنيا وملبسها الحريري الناعم، وبهذا اللحاظ جاءت التسمية متناغمة مع خشونة الصوف وملبسه، مستأنسة مع الحزن ومبتعدة عن ألوان الفرح والسرور .

الصوفي مهتم بالروح قبل الجسد ويسعى لتقويتها بكل الطرق على ان لا تخالف الشريعة، والموسيقى احدى تلك الطرق، فهي غذاء الروح وبأمكانها ان تحقق بعض أغراض الصوفي للوصول به الى ذاك السمو المطلوب بلوغه، إذن لابد من طريق الألفة بين الزهد والموسيقى بشرط التوازن بينهما بما لا يغضب الرب .

الزهد والحزن ليسا توأمين اذ لا تضادّ بينه والفرح بل هو الفرح كله ولا وجود للحزن، هو فرح مستدام الى ما بعد الموت، يقول مولانا جلال الدين بما معناه بالعربية:

حين تقبل زائرا قبري ستجد ضريحي المسقوف يرقص

فلا تأتي يا أخي دونما دف إلى قبري

فليس هناك من مكان للحزين في الوليمة.

يرجع الفضل في التحول الفكري الصوفي الحر وادخال الموسيقى في العبادة الى ابو الخير .

ابوسعيد بن أبي الخير بشخصيته المؤثرة حاول ادخال الموسيقى الى الخانقاه التي أسسها كمكان لممارسة الطقوس الصوفية حين اتخذ بيته مكانا للعبادة، وهي محاولة جريئة منه رغم انها ليست بالمستوى المراد اذ مازال الطريق وعراً، وبحاجة أكيدة الى شرعنته وهو غير متوافر عند ابي الخير، اذ لم يك فقيها بالمستوى الذي تركن اليه النفوس، بعد إقباله بكله الى التصوف وانصرافه عن علوم الدين والفقه.

سأقف قليلاً عند هذا الرجل العظيم …

ابو سعيد هذا هو فضل الله بن أبي الخير ولد في  7ديسمبر 967 في ميهنه من ضواحي خاوران بخراسان وتوفي بها  12 يناير من عام 1049 للميلاد،بعد مروره بمرو وسرخس لدراسة علوم الدين وانتهاءا بنيشابور حيث مجالس الشعر وحلقات الرقص والسماع الى جانب مجالس الوعظ  والإرشاد .

هكذا كان ينشد ابو الخير ما ترجمته بالعربية:

يرقص الصوفي في السماع

ليطفئ نار القلب بحيلة

والعاقل يعرف بأن المربية

تهز المهد من أجل سكون الطفل

 

كان فناناً موهوباً عارفا صوفيا شاعراً عذباً يكتب بالعربية والفارسية معا، ذو نزعة إنسانية عميقة جعلته مدارا لبحوث المستشرقين، فكتب عنه المستشرق المعروف إتى في رسالته التي وضعها عام 1878، والمستشرق إلروسي زوكوفسكي في "اسرار التوحيد في مقامات الشيخ أبي سعيد "، وكتب عنه المستشرق الانگليزي نيكسون عند بحثه موضوع التصوف الإسلامي، والمستشرق إدوارد براون في "تاريخ الأدب الفارسي".

النزعة الإنسانية التي أرسى قواعدها ابو سعيد ابو الخير سرت الى أئمة الصوفية حيث نقل عن شمس التبريزي الاستاذ والملهم لمولانا جلال الدين : لست بمسيحي ولا يهودي ولا مسلم،  وهذه النزعة هي ذات النزعة الإنسانية التي توصل إليها متصوفة أوربا في القرون الوسطى. ثم المذهب الإنساني الفلسفي الذي تمثل فيما بعد في كتابات الفيلسوف هيردر وعلى لسان الفلسفة الإنكليزية ثم الأوربية في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر للميلاد.

لا فرق إذن بين أن يكون الإنسان مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً عند ابي الخير وائمة الصوفية ما دامت الغاية الاتصال بالله عن طريق المعرفة فالتصوف وحده هو الكفيل بذلك.

ينسب إلى أبي سعيد أبي الخير القول : ما دامت المساجد والمدارس باقية لا تتطرق إليها أيدي البلى فإن عمل الدراويش لا يتم، ومادام هناك مؤمن وكافر فإنه لا يمكن أن يظهر على سطح الأرض مسلم حقيقي أبداً

وفي أقوال أبي سعيد وأشعاره مواضع أخرى تشير إلى هذا النوع من التفكير الحر.

وأبو سعيد أبو الخير من المبرزين في الشعر الصوفي، ويمتاز عن غيره من شعراء الفرس بابتداعه الشعر الصوفي بمنهج  جديد في النظم حذا حذوه أكثر شعراء الفرس كفريد الدين العطار وجلال الدين الرومي وعمر الخيام.

وإذا صحت نسبة الرباعيات الفارسية إليه فيكون بذلك أول مؤسس لرباعيات المتصوفة وأول مبتكر لطريقة جديدة هي الطريقة الرمزية في الشعر.

در ديده بجاي خواب آبست مرا

زيرا كه بديدنت شتابست مرا

گويند بخراب تا به خوابير بيني

اي بي خبران چه جاي خوابست مرا

*

هناك ماءٌ بدلا من النوم فى عينىّ

غيرُ صابرٍ أنا لرؤيتك

يخبرونى أن أنام حتى أراك فى حلمى

غير مدركين أنه لا مكان لى لأنام **

*

إذن ابو الخير كان ممهدا لدخول الموسيقى الى مجالس السماع الصوفية، الاّ ان امر الموسيقى بات محتوماً عندما حسم  امره الإمام ابو حامد الغزالي في بحثه الفقهي المفصل في كتابه " احياء علوم الدين "، وهناك اشهر رأيه في اشد المسائل الشرعية خلافا بين الفقهاء :

"من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج"

"ومن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية، زائد عن غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور، بل على جميع البهائم، فإنّها جميعاً تتأثر بالنغمات الموزونة"

وبعد نقله لآراء أئمة الفقه المتشددة إزاء الموسيقى والرقص أجاز الغزالي الموسيقى لبعض دون بعض، تفاصيل رأي الغزالي الذي فتح باب الخانقاه واسعاً للموسيقى تأتي الإشارة اليها .

 

احمد الكناني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم