صحيفة المثقف

الهوية الوطنية وثنائية اللغة

رائد عبيستساؤلات في الاغتراب الذاتي عن الآخر الشريك

التفكير في طقس شديد البرودة ليس كالتفكير في طقس شديد الحرارة، والإحساس في أول الصباح ليس كالإحساس في غسق الغروب وتنهداته، وخصوبة الربيع، ليست كالخريف، أربعة فصول لا تمر على سنة المواطن العراقي، بل تمر على يومه أيضاً ! فهو يعيش هذه الأجواء في يومه وهو يعدها لسنته، متغيرات باتت حتمية كونية تعتري حساباته المستقبلية، وتجحده بالإيمان والإرادة، فيكون اليأس، والمرارة، والشعور بالتفاهة، إحساساً يخالج أنفاسه، وهو يستنشق هواء هذا الوطن الذي أصبح به أكثر اختناقاً على الرغم من صفائه ونقائه.

الهواء والهوية الوطنية أصبحا ليسا كما ينبغي في علاقتهما الأزلية. فالانتماء لا يعني أنك تملك شيئا، والتنفس الطبيعي لا يعني أنك صحيح بلا علة، وعلى ذلك فالهواء الوطني لا يعني أنه متاح للجميع، ولا يعني أنك قادر على استنشاقه في كل وقت !! إن الإشكالية التي تضمنت في معاني ما تقدم تكمن في العلاقة بين الأنفاس و اللغة، الشهيق يعني علامة التعجب، والزفير يعني الحسرة الدائمة، كل هذا ممكن أن نعبر عنه من دون استعمال اللغة.

السؤال الذي يجدر أن يطرح هنا، كيف بك أن لم تنفعك لغتك وهويتك بين أبناء جلدتك ؟ عندما تحاور أهلك مساءً ليس كما تحاور الغرباء صباحاً، هذا يعني إنك عندما تمسي ليس كما تُصبح !! كان هذا حال الملايين من العراقيين الذين نزحوا من مناطقهم و محافظاتهم، بعد أن احتلت من قبل داعش أمسوا بحال وأصبحوا بحال آخر، كانوا مساءً في محافظاتهم، وقراهم، ومناطقهم مع أبنائهم، ونسائهم، وجيرانهم، وأقاربهم، وأبناؤهم يتحدثون بلهجتهم، ولغتهم، ووسائل تعبيرهم الخاصة التي لا تكلفهم عناء الشرح، والتوضيح، والبحث عن بديل من أجل ذلك. وهذا ما أضطر أغلبهم أليه بعد النزوح.

النازحون الذين جاءوا إلى مدن الفرات الأوسط مثلا، أغلبهم من الطائفة الشيعية ومن قومية التركمان والشبك كثير منهم يعرف العربية، وقليل منهم من لا يتحدث بها. العربية تمثل له لغته الثانية فالتركماني او الشبكي – يجيد العربية، ويتحدث كل منهم بلغتين لغة الأهل، ولغة النزوح التي أضطر للحديث بها. فلقاؤهم اليومي في ديار النزوح يكون بلغتهم الأم، ولقاؤهم مع المجتمع الذي نزحوا إليه يكون باللغة العربية بوصفها لغة بديلة لكثير منهم . وهناك من يحاول أن يتجاوز لهجته، حتى لا يشعر الآخرون بأنه من النازحين وهناك العكس أيضاً.

هل أن امتلاك اللغة الأحادية كافٍ لتحقيق الهوية الوطنية، لإنسان نازح في بلده إلى بيئة مختلفة عن بيئته اللغوية ؟

وهل هو قادر على إنتاج اللغة مع الحاجة؟

وهل اللغة الثانية سمة هوياتية في بلد مثل العراق لأغلب أقلياته؟ أم ماذا؟

 وهل الكردي أو الشبكي او التركماني او أي من يملك طائفة ولغة مختلفة قادر على الاندماج في المجتمع العراقي ويشعر بهويته الانتمائية، لو شاء عليه القدر إن ينزح إلى مناطق عربية؟

كل هذه الأسئلة هي افتراضات استفهامية - لأجواء قسرية، يضطر لها الفرد في حالة حصول أزمات ومشكلات، مثل الذي تعرض لها النازحون من مدن مثل الموصل وغيرها - لا تتضمن السلوك الاندماجي الحر الذي يحدث في السياحة، أو الدراسة، أو العمل، وغيره ؛ لأنه في الغالب اختياري، تسبقه بالعادة استعدادات شخصية، لمعالجة أية مشكلة تواجه اندماجه.

فهناك تساؤلات أخرى حول مشاعر المشاركة عبر اللغة والهوية مثل:

هل وجود العربي بين الكرد يشعره بهويته الوطنية و بإنتمائه الوطني الواحد قبل وبعد إعلان الاستفتاء والاستعداد لمشروع الانفصال الذي أجَهض ؟

وهل وجود التركماني بين العرب يشعره بهويته الوطنية و بإنتمائه الوطني الواحد ؟

وهل وجود الكردي بين العرب يشعره بهويته الوطنية وبإنتمائه الوطني الواحد ؟

وهل وجود التركماني بين الكرد يشعره بهويته الوطنية وبإنتمائه الوطني الواحد ؟

وهل وجود العربي بين التركماني والكردي يشعره بهويته الوطنية وبإنتمائه الوطني الواحد ؟

وهل وجودهما معا يمثل انسجاماً في الهوية الوطنية رغم الأختلاف اللغوي و القومي ؟

أم هم بحاجة إلى مشترك ثنائي للغة مزدوجة لكل منهما بحيث إن (الكردي يجيد العربية والتركمانية) و(العربي يجيد التركمانية والكردية) و (والتركماني يجيد العربية والكردية) من أجل امتلاك هوية وطنية جامعة؟

أم أن المختلف اللغوي واستقلال اللغة يتبع إلى استقلال الهوية؟ مثل بعض الأقليات التي تتكلم السريالية وترى أنها مستقلة بها. وهل هذا مشروط في بلد مثل العراق؟

يحتم علينا التنوع العرقي، أو الطائفي والقومي، و الأثني الاعتزاز باللغة بوصفها هوية تعريفية بطبيعة ذلك التنوع و اختلافه .

فكيف نستشعر الهوية الوطنية عند هذه الإنتماءات المختلفة، وهي في حدود انتماءها؟

وكيف يُمثّل الاندماج القسري روح الهوية الوطنية ؟

وهل تجربة النزوح هي تهديد للغة والهوية الفرعية؟

أم إنها عززت من روح الهوية الوطنية على حساب اللغة؟

هل من مشترك لغوي يعزز روح الوجود الوطني؟ أم أن مشترك الهوية الطائفية وتمركزه يساعد على ذلك؟

هذه تساؤلات تكشف طبيعة التفكير لاغترابي للمواطن العراقي، وهو يستشعر غربته بين أبناء جلدته، بفعل سياسة ترسيخ الهويات الفرعية بأساليب ومنهجيات عنصرية وطائفية وعسكرة وعزل سياسي وثقافي وغيرها من الممارسات التي تهدد البعد الوطني ومشاعره في نفوس ابناءه، هذه الأفعال أصبحت بديلة عن سياسة ترسيخ الهوية وتعايشها والتعريف بها عبر برامج ثقافية وطنية وتعيش عفوي بعيدا عن الحسابات السياسية والطائفة والقومية.

وهذه دعوة لكل وطني الى تجاوز كل أنواع الأصطفافات، ليكن بيننا مشترك وجودي يتجاوز الشراكة الهشة ويحقق الحضور الآمن بين أبناء بلدنا.

 

دكتور رائد عبيس

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم