صحيفة المثقف
التأمل الذاتي والضياع إشكالية مجتمع مرتهن لتاريخه
يعاني الفكر البشري من قدر كبير من التأملية السلبية، تنتهي به الى تجربة قاسية، في كثير من الظروف، لأنه يشغل نفسه في تأملات وهمية بعيدة عن الواقع و مُجرياته، إذ لا عقلانية حاكمة في تفكيرنا المتغلبة عليه النرجسية، بسبب رفضنا النتائج النسبية بوصفها مبطلة لذاتها، وبوصفها تعبر عن انهزاميتنا. إذ أن بوسعنا أن نتعلم من اخطائنا، مازال في نصف ذلك الفكر شيء من الواقعية، ونتمكن به من انتاج افعال مشابهة للواقع، بوعي تام حتى نتجاوز اخطائنا عبر نقد ذواتنا، وما أن تمكنا من نقد ذواتنا نكون قد حاكمنا نرجسيتنا، وازلنا ستار الوهم لنرى شمس حقيقتنا المخفية بفعل سراب احلام نراها على سطح ماء، وهذا يعني اننا يجب أن نغادر عوالمنا الذاتية، ونفكر به بطريقة علمية لمعالجة اخطاءنا الجماعية وليس الفردية فقط. فالنرجسية التي تكونت دواخلنا،صرنا نراها على كل جدراننا المحطمة ومياهنا الآسنة، فتأملنا لها في شاطئ نرجسيتنا انسانا مخاطر ذلك النهر، فبدل أن نتأملها فيه صرنا نغرق به، وبدل أن نرى صورة الحياة من جديد،صرنا نرى صورة الموت ورأيناها، وبدل أن نستنشق صفاء هواءها، صرنا نبحث عن متنفس جديد ينقذنا من الغرق، وبدل أن ترينا صورتنا الحقيقية ضخمت لنا صورتنا،حتى عدنا نرى صورتنا اكبر من الزمن، ويعكس لنا جمالٌ وهمي، متناقض مع قبحه المخفي عندما يلتهمنا بمدته وجزره.
بقي مجتمعنا يتأمل ذاته زمن طويل، بكونه مجتمع له ميزات حضارية، وقيمية، وإنسانية، وأخلاقية، وعلمية لا يجارينا بها احد، وهذه جزء من احكام المجتمع على نفسه، حتى أن منا صار يقول: نحن العراقيون معروفون بالكرم عربياً، وآخر يقول نحن مجتمع معروفون بالشجاعة، أو القوة أو الأصالة الحضارية، أو غيرها من التفاصيل التي ترتبط بالمقارنات مع شعوب ومجتمعات أخرى.
إن اشكالية تعميق الذاتية مع عمق التاريخ والأصالة، هي اشكالية كبيرة، لان لا تقابل بين الاثنين، الا في التفاخر في الماضي والتغني به، فهذا يعني أن المجتمع النرجسي لا يتمكن من تسخير تراثه بما يليق به، بل كل ما يتمكنون هو حسن نقل صورة تاريخه لا استثمارها، وهذا غير علمي البته، فالتوظيف الحقيقي للتاريخ والتراث لا يستوجب اظهار صورته على سطح نهر، لأنها صورة ذاتية فحسب، لا تمكن المجتمع كل المجتمع من رؤية نفس الصورة وبنفس الحجم او الأهمية. وبهذا نعده مجتمع غارق في نرجسيته،غير متأمل لذلته، وغير مدرك لضياع ذلك التأمل النرجسي لمستقبل بدأ متسارع، سباق لأفكار التصور لحقيقة ماضية أو حقيقة تعكسها الطبيعة، فالتاريخ لا يرتهن الى صورة ذاتية أحادية بل يؤمن بالفعل الجمعي، وهنا ربما يشتهي تجاوز نظرية البطل المحرك له، فيما لو كانت هناك قناعة بإرادة المجتمع نحو تحقيق طموحة. فالصبر على الخيال كالصبر على حلم ينتهي دون رغبتنا بذلك. فحجم الصورة المتأملة لا يتناسب مع حجم واقعنا، بل يشكل مفارقة واضحة بذلك؛ لان كبر الضياع الذي بدأ يجرفنا ونحن نعيشه وهو النرجسية انسانا حتى قيمة وجودنا، في حضارة العالم اليوم،اذ لا مساهمات لنا بها تذكر وتعزز من ذكر حضورنا فيها. هذه تجربة لا تناسب من يريد يتخطى الجمود بالحركة، أو يريد يصحح اخطاء الماضي بحاضره، أو اخطاء حاضره باستثمار ماضيه. المجتمع الفاقد لروح التجديد لا يتمكن من مغادرة الصورة المثلى التي تمتلكها عن نفسه سابقاً، وكأنه يريد أن يستنسخ تجربة جديدة ولا يتمكن. فيبقى متأمل من الآخرين ذلك، ويفضلون بذلك تجارب لم يسمعون بها من قبل عسى أن تبهر مسامعهم لا فهمهم، وهذه السطحية أبرزت مشاكل كبيرة وأفرزت في واقعنا الاجتماعي، والسياسي، والاقتصادي، والخدمي، وغيرها من القطاعات الأخرى، اذاً بقي المجتمع يحلم بتجربة قد عانى أشد قسوتها وما زال يحن اليها، أو أنه يدرك أن لا قيادة تتمكن من إدارة الدولة بنفس الطريقة التي كان يتصورها انها ناجحة، أو يأمل من أطراف دولية وإقليمية كانت قد عاشت تجربة النرجسية وخرجت منها بنجاح، لغرض استثمار تجربتها من جديد على واقعنا.
تناقضات في مشاعر التأمل الذاتي تظهر حجم الضياع وأساليبه، من جراء ذلك التأمل السلبي الذي هدر وبدد قدرة وقوة المجتمع على مواجهة مشاكله وتشخيصها.
بل وأثبت فشل ذريع في إدارة نظام الدولة في كل قطاعتها، بالأمس القريب احترقت مستشفى المشردات، وقبلها احترقت ردهت الاطفال الخدج، وقبلها احترقت وحدة العقود في وزارة التخطيط، وقبلها في أمانة العاصمة، وقبلها في وزارة المالية، وبعدها تلف الأموال بالأمطار، وبعدها كارثة الاسماك في بابل، وبعدها و بعدها حتى وصلنا الى كارثة غرق عبارة في المدينة السياحية في الموصل، ويستمر مسلسل الدم والخراب بسبب الإدارة القبلية والعائلية للدولة بل والاستخفاف بها وبإدارتها. وهذا واضح في كل مشاريع الدولة وما يُستثمر منها من مجمعات سكنية مضى عليها عشرات السنوات وهي هياكل غير مكتملة، فضلا عن المدارس،فضلا عن المستشفيات، وغيرها من قطاعات الدولة كافة.
وهذا كله ومجتمعنا مازال ينادي بأنه شعب البطولة والفداء!! وشعب الكرامة والاباء!! وشعب التحدي والصمود،والكرم والجود!! وعلى أنه مخ العرب وأنه و أنه.... الشعب العراقي اكثر شعب يتغنى بذاته، حتى بات يرى صورته النرجسية في انهار بلده الأسنة والضحلة، ولكن المفارقة الكبرى أنه بقي يتأمل صورته على جرف النهر حتى صعد منسوب المياه واغرقه، يا له من ضياع !!!
الرحمة والخلود # لشهداء العَبّارة التي # لا تختصر فاجعتها عبارة.
الدكتور رائد عبيس