صحيفة المثقف

النفس من الأمر بالسوء الى فعله

رائد عبيسإشكالية الإنحراف الذاتي وسلوكه: قبل الشروع في تشريح علاقة النفس بعالمها، ليكن في البال ان النفس مرتبطة بسر وجودها لا احد يعلم كنتها ولا ننتهي بها الى رضا تام عن ما نبحثه عنها. وصف الله النفس على انها أمارة بالسوء، وهذا الأمر له عوامل منها ما هو فطري ومنها ما هو مكتسب، ومع ذلك هناك من السلوكيات التي نعجز عن تفسيرها، غير مرتبط ارتباط مباشر بفعل النفس، سواء بما كان فطرياً او مكتسباً، بل يرتبط بعوالم مجهولة، كجهلنا بكنتها.

وهذا يعني أن لا نظرية تحيط بتفسير عالم النفس وما تنتجه، بل كل ما قُدم هو تفسيرات فلسفية وعلمية وروحية، تقترب من التصورات الصحيحة او تبتعد، بحسب قدرتها على تحليل الموضوع.

فكل عوامل تشكل السوئية في النفس ترجع الى التركيبة الطبيعية الأولية للنفس، والتي رجع الفلاسفة فيها إلى قوى النفس ومكوناتها الطبيعية المزاجية المرتبطة بالعناصر الأربعة، او بما يتعلق بالأخلاق التي تتكون من جراء هذه القوى وهذه العناصر، فمرة نجد شخص يحكم على ان لديه مزاج صفراوي، وآخر يحكم عليه بأن له مزاج ناري او ثالت يحكم عليه بأنه هواءي، وهناك أيضا تقسيمات تتعلق بتأثير الأفلاك والطبيعة والفضاء والرياح والرطوبة والحرارة والبرودة والاعتدال والتقلبات والخسوف والكسوف والرعد والزلازل وغيرها من الأمور الطبيعية أو الكونية بشكل عام، بمعنى لا يمكن فرز أو عزل النفس وما يصدر منها من تفكير سلبي أو إيجابي عن محيطها، سواء كان محيطاً طبيعياً أو اجتماعياً أو تربوياً أو علمياً.

هذا واضح من خلال تأكيد العلم والعلماء على تهذيب النفس وصقل قواها وتأديبها وتهذيبها وإرشادها وتقويمها ومحاسبتها ومراقبتها، إذ أن النفس من الداخل لها كيانها الخاص بحيث لنا الحق في الحديث عنها ككيان مستقل، أما من الخارج فهي كيان أيضا خاضع للتقييم الموضوعي للآخرين، فمرة يجد الآخرون في أنفسنا ما لم نعلمه منها . ومرة أخرى نجد في أنفسنا عندما ننظرها من الداخل ما لم يجده الآخرون فينا. بمعنى أننا ليس ملزمين بأن نظهر من أنفسنا ما ليس فيها تصنعاً ومحاباة للآخرين، فهذا يسمى نفاقاً، والنفاق هو من أخطر الأمراض النفسية التي يصعب السيطرة عليها والحد من جماحها.

يقول علي بن ابي طالب : سُوْءُ الخُلْقِ لَيْسَ لَهُ دَوَاءُ، وهذه السوئية ناتجة بالأساس من تذبذب آني بين قوى النفس، بحيث تنتج أفعال غير محسوبة ولا إرادية، فالفعل الإرادي للنفس داخلياً، قد يكون أقوى من فعلها خارجياً، اذا أن العقل هو شريك في التحكم بزمام النفس خارجياً، مرة يتوازن فعل العقل الضابط لها مع النفس، ومرة أخرى تفلت من زمامه وتخضعه له بتوفير قناعات مزيفة تجاه الأشياء وهذا ما يخلف الندم. ومرة ثالثة يتحكم العقل بالنفس ويسيطر عليها ويقودها، وقد تكون قيادته لها متزمتة فتنزع صوب الأحكام المتطرفة على الأشاء، ومرة قيادة معتدلة تتحكم برغباتها وفق إراداته. وهذا ما يحقق توازن سلوكي.

إشكاليتنا في هذا المقال تنطلق من البحث الذاتي عن الإنتاج الذاتي لفعل النفس الذاتي السوئي، فأنتجاها للسوئية يتعلق بالتربية بالدرجة الأساس أم بالرغبة الذاتية أو بالرغبة البايولوجية أو بالروحية أو الشذوذية.

لا يمكن ان ننتهي من أحصاء اختلاجات النفس، وحديثها عن نفسها، فالنفس لها حديث مع النفس، مطول وهو أكثر صراحة من الكلام اللساني، فالكلام الباطني هو الكلام الذي يراد له ان يظهر، والكلام الساني هو الكلام الذي يجب ان يكتم، وهذا ما ينتج الكذب، فأي حديث لا يرتبط بالتفكير النفسي و يرتبط برغبة الكلام ينتهي إلى أخلاق قصص كاذبة، ربما تدعم في ما بعد الحديث النفسي المنتج للسوئية على المدى الطويل.

اذا ما الذي يجعل النفس تميل لإنتاج السوء؟ وهل هناك سوء داخلي فيها لم يظهر بالضرورة بصيغة فعل؟ أم كل فعل سيء هو نتاج تفكير نفسي سيء؟ اذا ما علاقة التفكير بالفعل النفسي؟ هل يعني أن العقل شريك النفس في انتاج السوئية؟ وهل العقل السوي هو من يكبح سوئية النفس أم أنه يجاريها لأنه غير قابل للسيطرة علها؟ هذه اسئلة تحتاج إلى إجابة، والمشكلة الناتجة من ذلك لا يمكن بها ان نرتكن الى إجابة نهائية وحاسمة بشأنها البتة. لأننا في حالة المقارنة مع الأفعال السوية سوف نجد هناك أيضا أفعال سوية موازية، تأبى الاعتراف وتحقيق الموضوعية المشتركة.

اذاً ما الحل؟ هل لنا أن نحاكم انفسنا بعد تأديبها لتكون نفس جماعية، يتشبه بها الكل؟ نعم طمح الفلاسفة من قبل لهذا الأمر، فقالوا بان النفس العاقلة تتشبه بكمالها وبأفعال الله وصفاته، أي ان النفس التي تتأمل الكمال تجده لا شعورياً بأفعالها وأقوالها، وهذا التأمل اللا مباشر سوف يسهم في تهذيب النفس وتقوية قرارها اتجاه أمرها وافعالها الجانحة نحو السوء، فما الذي يجعل النفس تجنح نحو السوء؟ هل هي الرغبة؟ لماذا النفس المكبوتة تظهر كل قواها السلبية؟ لماذا كل النفوس السجينة تجنح نحو حريتها الداخلية لتعوض ما فقدته بالحرية الخارجة؟ وهذا ما نجده عند السجناء الذين يطلقون العنان لأنفسهم وشهواتهم ورغباتهم الشاذة. اما الأفعال المشابهة فهي تحمل البعد العكسي من ذلك، تجده حر من الخارج وسجين من الداخل، فيعوض ذلك بذلك . فالذات المتلونة بألوان مختلفة ربما يصعب معها الحديث عن الكبح الذاتي لإشكالية الإنحراف الذاتي الناتج عن الرغبة بفعل السوء دون التفكير فيه أو التخطيط له، فمن النادر أن نجد نفس ثنائية اللون، أما بيضاء او سوداء، أو ألوانها المعبرة عن صفاءها فقط. فالنفس لها لونها الذي يلون به فعلها النفسي، كا الرسام الذي يتخذ من لون ما لون لجميع لوحاته او يضمنه بها كلها على أنه لونه النفسي المميز. فالسلوك العفوي الناتج من الممارسات اليومية للفرد، تظهر شيء كبير من تلك الحقيقة المتوارية خلف المجاملات والكذب المقبول، والروتين، والرتابة وغيرها. هذه الأفعال أصبحت في مجتمعاتنا أفعال مقبولة إلى حد ما؛ لأنها تتعلق بنظام المعاملات، والتفاعلات،  والمصالح،  والتجارب، والاعتياد. ولكنها في الواقع تعلن عن أمراض اجتماعية جديدة، تخلف على المدى البعد انهيار للمنظومة القيمية المحصنة، بمحاكاة الأفعال والصفات المثالية التي دعونا إلى التشبه بها....

 

الدكتور رائد عبيس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم