صحيفة المثقف

ثنائية الموت الرحيم.. الحريق والغريق

رائد عبيسإشكالية المناوبة بلا مقاومة!!

لا جدال على قوة الموت، ولكن نجادل على مقاومته، فيكثر حديث الخلاص بلا مناص، وكأنه حل متاح لكل منا، فنواسي أنفسنا على طريقة تقبله، بين صورة الشهادة الموت برغبة الحياة، وبين صورة الموت الإجباري الذي يسلب منا رغبة العيش، وبين موت مفاجئ لا ينظر صاحبة، وبين موت بطيء ينذر من وقع به ألف صورة من العذاب الدنيوي والآخروي، وبين موت جماعي تهون به المأساة الفردية بالأختيار، وبين موت اختياري تلخصه صورة المعاناة مع الحياة، وبين موت لا نشهيه، وبين موت يشتهينا.

ورد في الأحاديث النبوية أن هناك أنواع من الموت الذي يقع على الإنسان يكون أشبه بموت رحمه عند من يحترم إرادة القدر ومجرياته، وهذا الاحترام عند بعض الأقوام يدفعهم إلى المساهمة به،فاذا رأوا أن هناك غريقا لا ينقذوه بل يغرقون أكثر حتى يلقي حتفه لأنهم يعتقدوا بأن القدر جاء وعلى الجميع الأيمان به والتسليم له، وهكذا مع الحريق وغيره من حوادث الموت.

 فقد ورد في حديث نبوي عن جَابِرَ بْنَ عَتِيكٍ قال: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا تَعُدُّونَ الشَّهَادَةَ ؟ قَالُوا: الْقَتْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ، وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ، وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ، وَصَاحِبُ الْحَرِيقِ شَهِيدٌ، وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ، وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ شَهِيدٌ).

هذا الحديث المنسوب للنبي محمد ص، يشير الى سبع أنواع من الموت الرحيم،ولا يقتصر على ما قصرناه في عنوان المقال، ولكن أشارتنا الى الثنائية فيها ما يؤكد على أفعال تحدث نتيجة مناسبات وظروف غامضة، لها شأن بالحيرة التي تكتف موضوعها وبفكرة الشطر الثاني من العنوان، والذي لا يصدق على غيرها من أنواع الموت الرحيم الأخرى.

تختلف في هاذين النوعين أحاديث الناس والمجتمع كل حسب قناعته وأفكاره، فمنهم من يقول قضاء وقدر، وآخر يقول أمرٌ مفتعل، وثالث يقول أمرٌ بين أمرين.

هذه الآراء لا تنتهي إلى قناعة تامة بين الناس حول طبيعة الأحداث التي تلف ظروف وقوع مثل هاتين الموتتين على الناس. إذ مرت على العراقيين أحداث مريرة مخطط لها تعني بفعل الأحراق الذي بدأ بأستخدام السيارات المفخخة والمواد الفسفورية والحرائق المفتعلة وأمور أخرى تصب بنفس الأتجاه. وهي أفعال أنتقامية جبانة وغادرة، هناك تفكير سياسي يريد أن يحافظ على السلطة يقول التجربة الديمقراطية تستحق الدماء!! أما الأبرياء الذي يقضون حرقاً ويصبحوا رماداً او يصهروا فهم شهداء، يكومون في الدنيا والآخرة، حتى ذكر رئيس الوزراء المالكي ان هذا الأمر لا يينتهي، وكأنما كتبت علينا الشهادة اللا اختيارية حرقاً وبهذه الطريقة المرضية عند الحارق والساكت عليها. بدأت الناس ترى عملية الحرق الجماعي والفردي في مسلسل دامي متكرر ومتفحم مناظر من العذاب والدماء والحراق لم تكن مألوفة من قبل،بدأ الناس يروها كل يوم. وفاجعة هذه الموتة التي باتت كارثية بكل مستوياتها ونحن نرى الأموال والأنفس تحرق كأنها أكوام أنقاض، في مشاهد متفرقة، فقد كان هناك مشهد من هذا العذاب كرر العمل به داعش وهو حرق الأسرى في أقفاص في مشهد مرعب جدا، وغيرها من المشاهد الصغيرة التي لم تولي اهتمام المتابعين، فكان هناك مشهد كبير مروع و هو تفجير الكرادة الدامي الذي حدث في أواخر شهر رمضان والناس كانت وقتها تستعد للعيد،وما زالت أثاره حريقه شاخصة الى اليوم، كان منظر من عمليات حرق الناس بشع جدا، وكأن حارقهم يريد بهم الرحمة خلاف ارادتهم. وكأنه ينفذ بهم ما عجر به على اقناعهم به، وهو استسلموا لحكم حارقكم وأقبلوا بخلاص الحريق لتنعموا بالجنة، فان الله قد وعد من قضى حرقاً جنة ونعيم.

أما جنة الغريق فقد كانت وعيد آلاف الناس في العراق، منذ حادثة جسر الآئمة التي كانت فاجعة كبيرة، فهي أكبر حادثة أغراق تنتظر أصحاب الجنة من المؤمنين بها. فقد كانت الناس متجهة للإداء الزيارة للأمام موسى ابن جعفر، فأستقبلهم ملك الجنة ليحف بهم جميعاً بفعل واشي أو منافق أو أصحاب الأخبار الكاذبة والدعاية والأشاعات التي صدقها الناس وألقوا بأنفسهم بالنهر فضلا عن وجود ملائكة الرحمة التي اردات لهم موتت الرحمة فألقوا بهم الى النهر، فقك كان الناس يتلاطمون هائمون وكان قيامتهم حضرت ليساقوا الى جنة النهر، ليس اختياراً منهم وعن معرفتهم بأن من قضي غارقاً فهو شهيد، بل اختيرت لهم هذه الموتة الرحيمة من قبل قاتلهم رأفت بهم وخوفاً عليهم ان يشاركوه في النار!! فقد كانت حادثة شاهدة على كل حوادث الغريق في العراق ومثالاً لكل حالة مشابهة وتسترجع بكل ما يذكر الماء ويقف عنده،كانت فعلا قيامة النهر وجنتهم.

وبقيت هذه الثنائية الحريق والغريق منفردتان، حتى وقت حادثة اسبايكر وفاجعتها التي جمعت بين هذه الثنائية في حدث مشترك بفعل واحد، فقد كانوا أغلب ضحايا سبايكر يُقتلون رمياً بالرصاص ويلقون بالنهر، فمقتولون غدراً وبالنار ومن ثم الغريق،حتى ان دجلة الخير أصبحت مياهها حمراء من كثرة القتلى، وبهذا فقد أصبح قاتلنا أشد بشاعة وهو يقع بنا وينفذ بناء قيامة الموت بكل أنواعها فمرة حريق وأخرى غريق، يا له من رؤوف بنا!! يا له من أختيار للقدر يناسبنا !! يناسب طموحنا بالجنة ! فقد بلغنا بفعلته كلا الجنتين، الجنة المخصصة لأهل الحريق والجنة المخصصة لأهل الغريق ! يا له من قدر عظيم يحيط بهؤلاء الذي قضوا بدون تفكير بكليهما وبدون طموح بهما. العدو الذي يختار لك ما يدخلك الجنة ليس بعدوا!! بل من يمنعك عن الإستسلام لعدوك هو عدوك !! يا لها من مفارقة في موت العراق الذي وقع بأهله.

كان بعد هذه الحادثة هاجس آخر وقدر كبير ينتظر الجميع وهو خوف من فيضان كان متوقع بأنهيار سد الموصل الذي بقي سلاح بديل عند أعداء العراقيين واستمر هذا الخوف حتى تجاوزناه وأمنا النهر. ورجعنا به الى قدر جديد وهو حادثة العبارة التي وقت كفاجعة ونكبة جديدة والتي ما زالت مختلفة بها الأخبار عن عدد الذي قضوا بها حتفهم في مغتسل جماعي لموت رحيم لأن مصير ضحاياه الى الجنة كما جاء على لسان النبي، لعلهم لم يعلموا بذلك الخبر ولكنه وقع بهم وجرفهم ليمثل لهم حقيقته.

المشكلة بكلا الموتتين أن لا مقاومة تذكر فيهما، قد تناوبا علينا حتى بتنا أكثر استسلاما لهما لأنهما يبشران بالجنة وإن كنا نعرف الجاني،فهو أكثر رحمة بنا لأنه نفذ حكم رغبتنا بالجنة!!!

 

الدكتور رائد عبيس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم