صحيفة المثقف

وشْمُ الورْدة

انمار رحمة اللهمهنةُ الطب جعلتني أطّلع على حالات كثيرة، حكايات ومواقف وأشخاص لا أستطيع عدّهم، أو حفظ ملامحهم وأسمائهم. ولكن المصادفة الغريبة التي أدهشتني اليوم في العيادة، تفجرت في قلبي كديناميت، ظل خيطُ فتيله مشتعلاً لسنوات!. حين دخل إلى عيادتي شابٌ بان على ملامحه الوقار، ممسكاً بيد امرأة تعيش كما يبدو عقدها الخامس. أجلسها على الكرسي وصار يحدثني عن تفاصيل آلامها وبعض الأعراض. ثم طلبت منه أن يساعدها ويضعها على السرير المخصص للكشف.. تنقلتُ بسماعتي حول صدرها، ثم طلبت منه أن يظهر لي ظهرها. وما إن رفع ثوبها، داهمني اختلاج أقشعر له بدني، وأفلتت من فمي آهةٌ و تلعثمٌ في الكلام... إنها هي..!.. وهذا ابنها بلا شك!!.

***

قبل ثلاثين سنة تقريباً، حين كنتُ طالباً في الكلية، وكان عندي صديق من النوع المولع  بمطاردة النساء. حيث لم تسلم منه شابة أو عجوز، متخذاً من شعار (كله ينفع) جواز مرور لأي جسد يرتمي فوق فراشه. في هذه المرة قررتُ أن أبرهن له فحولتي التي دائماً ما عيّرني ببرودها. حين أبلغني هاتفياً أنه رتبّ موعداً مع إحداهن، وأنها ستأتي إلى منزله عند ضحى اليوم التالي. فاتفقتُ معه على الحضور إلى منزله. مرت الليلة تلك بطيئة، تصارعت في ذهني مئات الصور والأفكار. حتى أن السؤال الأهم الذي ظل يتردد( هل أذهب؟ وإذا ذهبتُ هل أستطيع إنجاز المهمة أم سيداهمني الفشل؟)، ظل هذا السؤال ينهش قلبي كسمكة قرش. وفي كل مرة أبني العزمَ على عدم الذهاب، تجيء معاول الشهوة والفضول لتهدم ذلك البنيان. وبالفعل كانت قدماي تسرعان في اليوم التالي صوب منزل صديقي. حتى أنني صرت أهرول في بعض المسافات الفارغة في الشارع، تدفعني كفُّ الشهوة والفضول دفعاً. دلفت إلى المنزل واغلق صديقي الباب ورائي وهتف ضاحكاً:

- توقعت أنك لن تأتي

سألته أولاً عن الاحتياطات الأمنية في المنزل فرد مطمئناً

- لا شيء يدعو إلى القلق.. نحن بمفردنا هنا، أهلي جميعهم في إجازة

طُرِق الباب بعد ربع ساعة، قفزنا أنا وصديقي من مكاننا، ذهب ليفتح الباب الخارجية، وأنا بقيت أتلصص من خلال النافذة المطلة على الباحة الأمامية، في نوبة من القلق اللذيذ. (لا بأس في أن أمتّع نفسي) هكذا فكرتُ، منتظراً رؤية وجه المومس. تدخل الفتاة، شاحبة بالرغم من كمية الأصباغ على وجهها، تجرُّ وراءها طفلاً صغيراً ثم وقف وراءها صاغراً. عرفتُ لاحقاً أنها أمه. انتبهتُ إلى الحركة التي فعلها الطفل الصغير، اسرع صوب الأريكة ودسَّ رأسه في المقعد القطني، واضعاً يديه على وجهه. ادهشتني حركته تلك، مع رغبة خالطها غثيان لمعرفة سرّ تلك الحركة الغريبة. جلست على كرسي آخر، وصرت أطالع صديقي كيف يتفق مع المومس على المبلغ، ومن سيدخل عليها أولاً فهتفتُ بتصميم:

- أنا من يدخل الأول

 لم يمانع صديقي بل ابتسم ومازحني بكلمات تشجيعية. دخلتُ معها إلى غرفة مجاورة وصورة طفلها مستقرة في ذهني. خلعتْ ملابسها وصارت تستعرض مفاتنها. في تلك اللحظة رأيتْ على ظهرها صورة وشم لوردة سوداء غريبة. ذلك الوشم الذي لم أنسه يوماً، ولم أنس تفاصيل رسمه وشكله المميز. تحايلتْ عليّ لكي أقوم بما دخلتُ إلى الغرفة من أجله، لكنني بادرتها بسؤال بعد أن مسكت يديها:

- لماذا رمى ابنك بدنه على الأريكة مخفياً وجهه بكفيه؟!

 كأن السؤال لم يرق لها، ولكنها ابتسمت وقالت:

- أنا اوصيه بهذا، لكي لا يرى المزيد من الأشياء.

- هل أنت متزوجة؟ (سألتها)

- لا.. هجرني.

- سافر خارج البلد؟

- لا أدري.. حزم حقيبته ذات يوم وغادر.. عرفت هذا حين نهضتُ صباحاً من النوم، ومنذ ذلك الحين أعيش أنا وابني في شقة مؤجرة.. ماذا دهاك؟ هل تريد إفساد متعتك بهذه الأمور؟

- لا أبداً.. ولكنني أمارس هذا الفعل للمرة الأولى فأمهليني قليلاً من الوقت لأتعرف عليكِ

 تبدلت طريقة كلامها وصارت اكثر حزماً:

- لا تضيّع وقتي .. عندي مشاغل يجب إنجازها.. هيا اخلع بنطالك

رفضتُ ومسكتُ يدها وطلبت منها أن تجيبني عن سؤال واحد:

- منظر أبنك على تلك الحالة أحزنني يا امرأة

 عاد صوتها إلى لينه الأول، مستكيناً متوسلاً:

- أرجوك.. لننجز هذا الشيء بسرعة.. أنا أعيش ويعيش ابني من عملي هذا، بالله عليك لا تحرمني من المال، لأنني قد رتبت أموري لهذا اليوم على زبونين فلا تتهرب.. أرجوك

 ملأتني رغبة عنيفة بالصراخ بوجه الفتاة النحيلة. تحاول التحايل عليّ ولكنني فشلتُ في تهييج ذكورتي، إذ فجأة تحول بدني إلى بدن ناسك في عمر الثمانين. خرجتُ من الغرفة وكأن حريقاً شب فيها، محدقاً بصديقي الذي جاء مهنئاً على سرعتي في إنجاز العمل. لكنني قلت له (لم يحدث أي شيء... خذ وقتك بسرعة). يدخل صديقي إلى الفتاة بخفة ويغلق الباب خلفه، وأنا أستمع إلى ضحكاتهما. ما هي إلا دقيقة وسمعت صوت ارتطام جسدين. صوتان أرهقا أذني، صوت شخير الطفل الذي نام على وضعه ذاك، وصوت التأوهات المتسللة كثعبان نحو أذني من الغرفة.. يخرجان بعد حين وهما يضحكان. هي تدلف إلى الحمام وصديقي يقف في منتصف الصالة يشرح بطولاته التي حدثت في ساحة الفراش. لم أستطع الحديث، بل ابتسمت بتصنع ثقيل، ثم طلبت الأذن منه لكي أغادر، ولم أمكث في مكاني بالرغم من دعواته لي للبقاء قليلاً. ناولته مبلغ المال المُتفق عليه أجرة للفتاة فسألني:

- ألم تقل أنك لم تضاجعها..! لماذا تعطيها المال؟

لم أشأ الإجابة على سؤاله، وخرجت من المنزل بلا وجهة محددة.

*** 

مررتُ طرف السماعة على ظهر المرأة، وابنها يطالع نقرات أصابعي على المنطقة التي كانت تحيط بوشم الوردة السوداء. لم أستطع تحسس تلك المنطقة في ظهر المرأة، شعرتُ أن الوردة ستدب فيها الحياة وتعض أصبعي كحيوان متوحش. انزلت ثوبها وطلبت من ولدها أن يجلسها على الكرسي. سألت الأبن :

- سأصف لها علاجاً يتوافق مع طبيعة بدنها الضعيف

شكرني الأبن وقال مبتهجاً:

- سلمت لنا يا جناب الطبيب.. لقد تعبتْ كثيراً بعد عودتها من الحج هذه السنة.

أجبته وعيناي ملتصقتان بطرف القلم والكلمات عند كتاباتي الوصفة:

- ارفق بها يا بني..

- بالتأكيد دكتور.. لا أحد لها في الدنيا غيري

هزَّتُ المرأةُ رأسها وتمتمت :

- حماك الله يا ولدي

 ثم أخذ ولدها وصفة الأدوية وخرج من الغرفة ممسكاً بذراع أمه، وهو يصبّرها ويطلب منها التمهّل عند سيرها.. بقيتُ واقفاً طوال المدة التي استغرقاها في الخروج. ثم سرحتُ بعيداً ولم انتبه إلا بعد حين إلى مساعدي الذي كان واقفاً عند الباب، يخاطبني:

- دكتور!!... هل أُدخل لكَ المريض التالي ؟!!

***

أنمار رحمة الله

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم