صحيفة المثقف

حرية القرار في ما نختار

محمد العباسيتخيلوا معي التواجد في إحدى المجمعات التجارية لشراء بعض المواد الغذائية، حيث نتمشى بين أروقة المعلبات والمثلجات وكل تلك البضائع المعروضة بذكاء العقلية التجارية التي تدفعنا لشراء أكبر كمية من الأغراض رغماً عنا.. نعم، رغماً عنا.. فعرض البضائع أصبح فناً متقناً لدفع الزبائن لشراء أكبر كمية ممكنة في كل زيارة.. فمثلاً، لشراء شيء بسيط مثل التونة المعلبة نجد المعروض أمامنا أنواع عديدة وماركات مختلفة وأحجام شتى.. فهذه تحتوي على زيت الزيتون، وهذه فيها زيت عباد الشمس وتلك فيها ماء.. هذه علبة كبيرة وأخرى صغيرة، وهناك مجموعة من ست علب في كرتونة توحي بأن سعرها أكثر توفيراً من الحبات المفردة.. وهذه من الماركة الفلانية وهذه تحمل اسم ماركة باللغة العربية.. هذه تونة من أعالي البحار وتلك من المياه الدافئة وهذه من بحر الشمال.. وهذه نوعية من القطع الكبيرة وتلك من النوع المفروم.. هذه مملحة وأخرى ممزوجة بالشطة والليمون، وهذا نوع عليه تخفيض خاص وهذه من شركة تؤكد أنها تحمي الدلافين في عمليات صيد أسماك التونة.. وهكذا يمضي من الوقت نصف ساعة من زمان التبضع في عملية الاختيار بين كافة أنواع التونة المعروضة.. فأي نوع سيقع عليه الخيار الأخير الذي سنرضى به بين كل ما هو معروض أمامنا.. فهل سنختار نوعاً واحداً أم الأجدى أن نجرب عدة أنواع منها لنعرف أيها نختار في المرات القادمة؟

لنجرب موضوع شراء هاتف جديد من قسم الإلكترونيات مثلاً، ولكم أن تتصورا كم الموديلات الحديثة من الهواتف الذكية والخارقة الذكاء.. هذا هاتف فيه كاميرا أمامية وهذا فيه كامرتين.. هذا بذاكرة وسرعة تفوق كل الأنواع الأخرى، لكن هذا يخزن عددٌ أكبر من المسجات والصور.. هذا ضد الماء بعمق ثلاثة أقدام ولكن هذا يتحمل الغطس والتصوير تحت الماء بعمق ثلاثة أمتار.. هذا ضد الخدش وهذا ضد الكسر وذاك فيه مميزات الحماية ضد الضياع والسرقة.. هذا فيه مجموعة ضخمة من المميزات التي (قد) نحتاج لها، أو قد لا نضطر قط لها، بل وقد لا نتعلمها أبداً.. هذا الهاتف يأتي بألوان عدة وهذا الهاتف يحتوي على بطارية تدوم عدة أيام ويمكن شحنها بسرعات خارقة.. هذا الهاتف المشهور قد تم تجميعه في اليابان وهذا في كوريا وهذا من ألمانيا.. هذا عليه ضمان محدود لأنه من تجميع الصين وهذا عليه ضمان سنة كاملة لأنه مصنوع في النرويج.. هذا بقيمة كذا وهذا بعشرة أضعاف تلك القيمة.. ونقضي يوماً كاملاً قبل عملية الشراء أو بعد عملية التسوق في البحث عبر المواقع الإلكترونية لمقارنة الأسعار والمميزات والعروض وآراء الآخرين!! 

بغض النظر عن ماهية العملية التي نُقدم عليها في مجمل مناحي حياتنا اليومية نجد أنفسنا أمام عشرات الخيارات والقرارات التي في الأخير تبدو أنها عملية صعبة ومعقدة.. فهل نحن بالفعل أصحاب القرار أم أن قراراتنا واختياراتنا محتومة علينا من جهات أخرى وتختلط علينا الأمور بفعل تعدد الخيارات.. فأنا مثلاً إذا قررت أن أطلب وجبة سريعة أكون قد قررت رغبتي في وجبة معينة من مطعم معين أقصده وأعرف مبتغاي قبل الدخول إليه.. لكن كثيراً ما نجد أناس أمامنا ينظرون إلى قائمة الطلبات وهم يتنقلون من وجبة إلى أخرى ويعيدون التفكير في كل وجبة كأنهم لم يروها من قبل.. يتفقدون المسميات والمحتويات والصور والأسعار والأحجام.. ويبدو الأمر كأن المتعة الحقيقية تكمن في عملية الاختيار والمقارنة وفكرة التبضع ذاتها أكثر بكثير من تلبية نداء الجوع والشبع.. وقد نجد مجموعة من الشباب قد أصابهم الملل من الفراغ فيتناقشون لساعة من الزمن من أي جهة يطلبون وجبة ما، ولا علاقة لطلباتهم بالضرورة بشعورهم بالجوع !

و قد نجد شاباً بدأ يفكر في الزواج مثلاً، وليس لأنه بالفعل راغب في تحمل تبعات الزواج، بل لأنه الوحيد الأعزب بين أقرانه ممن دخلوا القفص قبله.. فنجده يعدد مواصفات "ضحيته" المسكينة.. هل يختار سميرة أو سعاد.. هل يريدها موظفة أو ربة بيت.. هل يترك الاختيار لوالدته أم يستمع لنصيحة زميلاته في العمل.. هل يفضلها بيضاء أم سمراء.. هل يريدها حرة ترافقه في المقاهي، أم يختارها من بين فتيات المقاهي ثم يقعدها في البيت خوفاً وغيرة.. هل تناسبه فتاة ممتلئة سمينة أم يفضلها رشيقة.. ثم تعجبه فتاة متعلمة مثقفة ومنفتحة حرة التفكير، لكنه يخشى على نفسه من شخصيتها القوية.. أو قد تدخل مزاجه فتاة لكنها "دلوعة" أمها وأبيها لأنها وحيدتهم فيخشى عدم استطاعته على تلبية رغباتها وتوفير ذات مستوى المعيشة لها.. فهل سيكون قراره نابعاً من حرية الاختيار أم أن قراره محكوم عليه بكل الظروف المحيطة بالطرف المعني.. هل نحن بالفعل أصحاب القرار أم محتوم علينا الاختيار حسب كل ما يحيط بنا من ظروف وتجارب ووقائع تفرض علينا غصباً عنا السير في اتجاهات ربما تخالف توقعاتنا ورغباتنا الأصلية في الحياة؟

نفس القصة تتكرر حتى في شأن شراء سيارة جديدة أو مسكن .. وقد نرغب في سيارة معينة أو منزل في مكان معين لكن الظروف المادية تحدد قدراتنا وتتحكم في خياراتنا.. وهكذا يكون الوضع في كل أمور حياتنا.. قراراتنا محكومة بقدراتنا.. إذن نحن لسنا أحرار بالضرورة في مجمل قراراتنا.. فكل شيء من حولنا مرتبط بما حولنا بشكل أو بآخر.. فنحن محكومون بأوضاعنا المادية والنفسية وظروفنا العائلية وحتى بمستوياتنا الاجتماعية.. ففي الهند لا يمكن لمن هم من طبقة المنبوذين مثلاً على التقدم للزواج من أبناء الطبقات الأخرى.. ويصعب كثيراً في المجتمعات المسلمة الزواج من غير المسلمين، بل وحتى من المذاهب الأخرى.. وعند بعض العرب لا يمكن حتى التفكير بالزواج من غير العرب وإن كانوا من نفس الدين والمذهب.. وفي كثير من المجتمعات قد نجد أن الاختلافات العرقية قد تحدد وتعيق الاختلاط بين من يختلفون مع عامة المجتمع عرقياً سواء كان في المدارس أو السكن أو المشاركة في الحقوق (كما لا يزال الوضع في فلسطين المحتلة).

كل قراراتنا وخياراتنا محكومة بشكل أو بآخر بكل ما يحيط بنا من ظروف.. بقدراتنا المادية.. بمستوياتنا المعيشية.. بأوضاعنا الاجتماعية.. بخلفياتنا التعليمية والثقافية.. بأدياننا ومذاهبنا ومعتقداتنا.. بألوان بشرتنا وعرقنا وأصولنا.. بتاريخ أجدادنا وأحداث تاريخية مضى عليها غابر الأزمان.. بوساوسنا ومخاوفنا وحالاتنا النفسية.. فأين يا ترى تقبع حرياتنا إذاً في قراراتنا وحياتنا؟  فنحن بحق مسيرون في الحياة.. قراراتنا مسلوبة.. خياراتنا محدودة أو محددة.. وحتى بعد البحث والتنقيب وطول التفكير واتخاذ قرارات معينة كثيراً ما نعود للتفكير في خيارتنا الأخرى التي كانت أمامنا ولم نخترها.. فكثر الخيارات تحيرنا أكثر مما تحررنا.. وأحيانا يكون ضيق الخيارات أيضاً وبالاً علينا.. فحتى "هابيل" لم يرضى بزوجته (أخت قابيل) التي لم يكن له أن يتزوج بغيرها (لعدم وجود غيرها) فقتل أخاه "قابيل" غيرة من زوجة أخيه (وهي أخت هابيل) رغم أن خياراتهما كانت محدودة جداً جداً!!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم