صحيفة المثقف

خيبة امل.. انتكاسة وطن

مهدي الصافيكنت انتقد بشدة تصل حد الرفض المطلق لاي عذر او حجة او مسوغ اخلاقي، ان يقدم بعض الاشخاص وبالاخص النساء بالتعبير عن المعاناة الشخصية او الفئوية عبر التعري في شوارع المدن احتجاجا على التهميش او الاقصاء او التمييز او العنف الاجتماعي او الظلم والفساد عموما، ولكنني اجد نفسي الان متضامنا مع كل المظلومين في العالم، ولن انتقد او اعترض يوما على تلك المواقف العلنية المباشرة الصعبة حتى لو كانت حرقا او انتحارا، مع انني ثابت على موقفي الشخصي الرافض (الذي لن يكون معلنا) لتلك الظواهر، الا انها فعلا هي تعبير كبير عن حالة الياس والاحباط والفشل، الذي قد يصل اليه الانسان في ظروف معينة قاسية جدا، لعدم قدرته على ايصال صوته بالطرق الطبيعية السليمة...

خيبة الامل في بلادنا بعد٢٠٠٣ليس لها حدود، فشل، وجهل، وغباء وتخلف، ونفاق وانتهازية، وفساد، وعنف اجتماعي وجرائم ارهابية وجنائية، وانحراف عقائدي وطائفي وديني(لخ.)، تتراكم المأساة والاخفاقات والانتكاسات وكأنها قدر حتمي اصاب هذه الامة او هذا البلد، لايرى اي امل يلوح في الافق، الكل واقع تحت تأثير دائرة الفساد والعجز والشلل السياسي والاداري والديني والاجتماعي، لا الدولة ولا الاحزاب ولا شيوخ العشائر او القبائل، ولا حتى المراجع او الفقهاء او رجال الدين عموما لديهم رؤية او خطوة او تحرك جاد لانقاذ البلاد والعباد من كارثة الفوضى العارمة، امر صادم وخطير في نفس الوقت، ترى سقوط الدولة والمجتمع في شراك وشباك الفاسدين ويجرفون كالغرقى في موسم الفيضانات، دون ان يردع هؤلاء الاوغاد احد، فهم في قمة التحالفات الشيطانية وذروتها، اجتمعوا واتفقوا وقرروا ان يكون كل شيء تحت ايديهم وتصرفهم، هكذا هم اوصلوا النموذج البائس للديمقراطية الرأسمالية الى نهايتها الحتمية، فكانوا اخر التجارب والامثلة العملية الفاشلة، تماما كما يفعل وحوش الرأسمالية في امريكا، ولهذا نقول للعالم ان مانطرحه في نظرية ديمقراطية النخب هي بمثابة الحل الاكثر واقعية لطبيعة المجتمعات المتغيرة، كي لاتعود الافكار العنصرية واليمينية المتطرفة الى الواجهة من جديد، لتكون سببا محتملا لاندلاع حرب همجية عالمية ثالثة .

اما بخصوص اهمية دور النخب والطبقات السياسية والمثقفة الوطنية في انقاذ البلاد، فهي تكاد تكون مغيبة او شبه معدومة، لان واحدة من اهم مقومات بقاء الفساد السياسي هو اشاعة التخلف والجهل والاهمال والتقصير، ونشر ثقافة اللامبالاة وعدم الاكتراث والالهاء بكل مجالات الدولة والمجتمع، لابقاء الشعوب اسيرة دوامة الازمات والمشاكل والاحداث اليومية المتشعبة، مما يجعل من مهمة المؤسسات الثقافية المدنية المستقلة، والمحاولات النخبوية الشخصية لانقاذ البلاد مهمة شاقة جدا.

خيبة الامل لاتتعلق فقط بالاداء السياسي، وانما بالوضع الوطني العام، وبعجز المجتمعات المتاخرة عن ايجاد مناضلين ثوريين يبرزون للواجهة كقادة اصلاحيين حقيقيين، وبتراجع ثقافة المجتمع، وزيادة نسبة التسرب من المدارس، وانتشار الامية في عصر الحضارة الالكترونية، والفقر والعوز والحرمان، هذه الكوارث الوطنية يمكنها ان تنهي وتحطم مستقبل اي دولة او شعب في العالم، فهم لايمكنهم استيعاب معضلة ومرحلة ان يكون المزاج الشعبي العام كئيبا وحزينا ومثبطا، وغارقا بالمأسي وقصص الموت المجاني، فكيف بهم ان يتنبؤا بالنتائج، ولهذا لايشعر الناس بحجم الكارثة الا بعد ان تنتشر وتعم الاضرار في كامل جسد الامة، حتى بات الانتحار ظاهرة خطيرة في بلادنا، وكذلك تعدد واتساع دائرة ردات الفعل المتطرفة او الحادة، كالتفكير بالهجرة، او بالعزوف عن الاسلام، او انتشار ظاهرة الالحاد، الخ.

الكل يتحمل مسؤولية مايحدث، فالفاسد في بلادنا لايختلف عن الشخص المستجدي البخيل، لايكل ولايمل عن السرقة وخزن الاموال الحرام، وهو ايضا لايرحم في سرقاته وفساده طفلا او شيخا او مريضا او نازحا، يسرق كل مايخطر او يمر على ذهنه العفن او مايقع امام عينيه، المسؤولية ليست عبئا ثقيلا دائما، بل هدف وغاية وامل، مثلما تبني الامم والشعوب اوطانها بضمير حي، وتتعامل مع ثروات بلدانهم بحرص وبحكمة وعقل وعلم ومنطق، على شعبنا ان يفهم ذلك الامر بشكل واضح وجلي، الذي سيتساوى تحت مظلته الجميع دون استثناء، الوطن هو بيت الشعب الكبير، بكل ماتحمل تلك العبارة من معنى، لابد ان

يلمس ويرى الشعب ان الدولة تقوم بالفعل على خدمته وخدمة ابناءه والجميع دون استثناء...

الانتكاسة كبيرة، لأن الحمل والاثار والتركة كبيرة ايضا، فبعد رحيل الاستعمار عن بلادنا، وانهيار الانظمة الدموية الدكتاتورية المستبدة، ثبت ان اكثر ماتواجهه الامة هو التراجع الحضاري القديم والحديث، لاهم في عربة الحضارة القديمة، كي نقول ان السير لازال بطيئا، ولاهم كذلك مع عجلات الحضارة الالكترونية المسرعة، امة تائهة وغائبة عن الوعي لعدة اسباب، منها خارجية(تركة الاستعمار وهيمنة الامبريالية العالمية على الانظمة العميلة لها في المنطقة، وغياب الاخلاق الانسانية والقوانين والاعراف السياسية في التعاملات الدولية)، واخرى داخلية منها مادية، وكذلك عقائدية وفكرية وتراثية، وبدوية، وقبلية، ومعنوية شخصية، لاهوية ولا عنوان، ولا اسم ولاحتى اشارة تمييز، اختلطت الالوان، ثم صارت الامة كما يصفها اعداءها (الاسلامفوبيا)لون واحد "الفوضى ....."...

لاحل لانتكاسة الوطن غير الثورة الداخلية للانسان، بالتخلص من كل المخاوف والخطوكط الحمر العقائدية او التراثية، عبر اعادة اثارة الاسئلة الدفينة والقلقة، اخراج كل مابداخله من تساؤلات بسيطة كانت ام عميقة، او حتى الساذجة منها، يقرأ ويبحث ويفكر ويناقش ويسأل ويجادل، وان يتخلص كليا من نظام التبعية تحت اي ظرف او مسمى او سبب كان، الجدل والنقاش المعرفي العميق غذاء الفلسفة، والفلسفة غذاء الفكر، والفكر غذاء الروح الانسانية العظيمة...

قبل ان تفكر الامم والشعوب بالتغيير والنهضة السياسية والاجتماعية والثقافية عليها ان تحدث ثورة معرفية داخل كل فرد، اعادة انظمة التعليم المجاني، ودعم المؤسسات الثقافية، والعمل على توفير المكتبات العامة في المدن والمحافظات والقرى، وفي جميع المدارس والمؤسسات التعليميةبالمعرفة ونشر الثقافة والوعي يمكن ان يبحر الناس الى شاطئ الامان والازدهار بسهولة وبزمن قياسي، لا ان تغرق في وحل التراث الديني المنحرف، وفي الازمات، والفتن الطائفية، وقصص التاريخ المشكوك بمصداقيتها، فيصبح كالدرويش على سبيل المثال كل ايام السنة، لا هم عنده غير الاعمال والافعال والممارسات والجلسات الدينية او الطائفية، وكأن الحياة لاطريق فيها غير طريق الدين والعقائد والشرع والقضاء والقدر، والحدود والجهاد، والطقوس والشعائر  (الخ)، تجد اغلب الناس مشغولة بالافكار والاساطيراللامعقولة، وبالامنيات البعيدة عن الواقع، كاقامة المجتمع الاسلامي، وتطبيق احكام الشريعة من الحلال والحرام والحدود، وليس البحث عن اليات تطبيق النظام والدستور والقانون، والتطور العلمي والتكنولوجي، وهي بالطبع من اهم ضروريات الحياة المعاصرة، مع العلم ان الله عزوجل لم يقل ابدا عليكم اقامة محاكم شرعية في الارض، او بناء هكذا مجتمعات دينية مغلقة، انما عليكم بناء مجتمع انساني متطور، قال تعالى في سورة الحجرات: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)

هذه المتاهات لايمكنها ان تسعف الدول او الشعوب الفاشلة او المتراجعة حضاريا على النهوض مجددا واللحاق بركب الحضارة العالمية، اذ هي بحاجة الى مراحل انتقالية متعددة، بالمسير في مشوار طويل مليئ بالعقبات والعثرات والصعوبات حتى تتمكن من وضع اولى خطواتها بالاتجاه الصحيح، بناء الانسان اولا، ثم الدولة والمجتمع ثانيا...

نؤكد دائما على ضرورة فهم نظرية بناء الدولة الحديثة، التي لايكون فيها للفساد والنفاق والانتهازية اي مكان او وجود مؤثر، فالسفينة المخروقة لايمكنها ان تنقذ احدا وسط البحر او توصله الى بر الامان، فكيف ان كان بناءها بهيئة عبارة الموصل (الغارقة)..عبارة الفاجعة....

 

مهدي الصافي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم