صحيفة المثقف

ليلةُ فِرار الحَراميّ

انمار رحمة اللهلم يحدث في حياتي أن أحلم ثلاث مرات متتالية، وأصل إلى منتصف الحلم فيداهمني شبحٌ يرتدي وشاحاً أسود، يخفي نصف وجهه السفلي بلثام، ولا تظهر سوى عينيه اللتين تتسرب منهما نظرات حذرة. يسرق الأحداث المتبقية، ثم يشق جدار الحلم بحربة صقيلة ويختفي. فأستيقظ هلعاً كأن واحداً من أبنائي سقط من نافذة عالية. أخفيت الأمر عن زوجتي، وعشتُ حياتي بشكل طبيعي، حتى فاتحني صديقٌ في العمل عن حالة شبيهة بحالتي. فهو لا يستطيع العثور على حلمه أيضاً. وحين سألته عن تفاصيل ضياع حلمه، تمتم: "لا أدري.. ولكن ذلك الشيء يسلبه مني". حاولت الوصول أكثر من خلال الحديث إلى سر هذا الشيء، ولكن صاحبي شاء أن يقطع الحديث، بحجة أن المسألة كلها سخيفة، وأنه مجرد كابوس يتكرر. في حينها توقعت أن الشبح الذي يسرق بقية حلمي قد زار زميلي أيضاً!. في الليل رتبت الأمور كما يجب، شربتُ اللبن، قرأت كتاباً، ولم أثقل على معدتي بأكلة دسمة، أو أعكر مزاج عيشي بتفاصيل أخرى مرهقة، قد تسلب من غفوتي العمق والراحة والنوم الهانئ. متوقعاً أن قضية الشبح الذي خاتلني لثلاث مرات في النوم، هي مجرد كوابيس على رأي زميلي، وستنتهي مع مرور الوقت وتغيير طفيف في وظائف البدن وأسلوب العيش. وبالفعل نمتُ نوماً عميقاً وحلمتُ أيضاً. حلمت أنني على وشك صعود مركبة فضائية، والسفر خارج الغلاف الجوي مع إحدى رحالات وكالة (ناسا). صعد الطاقم كله إلى المركبة، ولم يتبق سواي، وما إن اعتلت قدمي منصة المكوك الفضائي، وإذا بالشبح اللعين يخرج من إحدى زوايا قاعدة الانطلاق العلمية. هذه المرة قررت مباغتته والإسراع في صعودي إلى المركبة قبل أن يسرق شيئاً، وحدثت الكارثة. لقد أخرج من تحت وشاحه كيساً (كَونية) ذا لون غامق، وضع فيه المكوك والقاعدة والسياج الشائك، وقاعدة المراقبة والعمليات. ثم أخرج حربته الحادة تلك، وشقَّ جدار الحلم وهرول مسرعاً. وقفت في مكاني فاغرا فاهي، وقررت بحالة من الغضب الشديد أن أتبعه من خلال الشق الطويل الذي أحدثه في جدار الحلم. لكن يد زوجتي التي كانت تضرب على كتفي، نبهتني للنهوض من نومي هذه المرة، فأفقتُ ولم أكن أشعر بأي نعاس أو خمول، كأنني كنت أمارس رياضة الركض منذ ساعات. في العمل سألت زميلي: هل نمتَ جيداً البارحة؟. فأجاب وعيناه محشورتان في كومة أوراق: لا بالطبع... اللعين افسد حلمي مرة أخرى. عندها تيقّنتُ أن زميلي يعاني مما أعاني أنا أيضاً. فسألته والجرأة تقدح من عيني وعلى لساني: تقصد الشبح ذا الوشاح والحربة . رفع زميلي رأسه من على الورق وصرخ: كيف.. كيف عرفت؟!. نعم إنه هو ذلك اللعين. تشاركنا الحديث بعدها، وأخبرته كل شيء، ثم حكى لي عن حلمه الذي سرقه الشبح، لقد كان زميلي في الحلم على شفا أن يُنصب ملكاً لبلد غير موجود على خارطة العالم، وكان صديقي في الحلم يتحدث بلغة غير معروفة ولا موجودة أصلاً، وكاد أن يتزوج بفتاة لم ير مثلها على وجه الأرض. ولكن قبل مراسيم تتويجه وفي الحفل بالتحديد، دخل – كما يقول صديقي – الشبح الملثم، فوضع الحفل كله في (الكَونية) تلك، وشق جدار حلمه وهرول.. سألت صديقي: هل داهمك خاطر أن تتبعه من خلال الشق الذي أحدثه في جدار الحلم؟!. لم ترق الفكرة لصديقي، بل ضحك ساخراً مني، فهو ما يزال متيقناً أن الأمر كله مجرد كابوس سيزول مع قادم الأيام.. أما أنا كنتُ مصمماً هذه المرة على اللحاق بهذا اللص.. جرى الترتيب كما هو معتاد، شربتُ اللبن، قرأتُ كتاباً، أنهيتُ الأعمال البيتة، أطفأتُ الضوء، التحفتُ جيداً، وضعتُ رأسي على الوسادة. كنت أنوي وضع سكين تحت وسادتي لعله يساعدني في قتالي المحتمل مع الشبح، وبالفعل نهضتُ مسرعاً إلى المطبخ. اخترتُ سكيناً طويلاً حاداً، وعدت إلى سريري. سألتني زوجتي: ماذا تفعل؟!. اجبتها : لا علاقة لك.. سأنهي كل شيء الليلة.. خذي حذرك واعتني بالأطفال جيداً فكل شيء محتمل. نظرتْ زوجتي إليّ نظرة غير مريحة، ثم أعطتني ظهرها وغطت في نومها. حشرتُ السكين تحت وسادتي وغفوت. حلمتُ بمدينة كبيرة، أضواء وشوارع مكتظة بالبشر. طوابير تقف على باب قاعة فاخرة مزينة بالأضواء الملونة. وصورة كبيرة دعائية لفيلم كنت أنا بطله. صورتي هي التي وشت بهذا، في لوحة الفيلم الدعائية كنت أقف حاملاً سكيناً، وفي "الباك جراوند" لصورتي يظهر الشبح ذاته. اما عنوان الفيلم كان (ليلةُ فِرار الحرامي). والمصادفة كانت أنني أحضر يوم تكريمي وافتتاح هذا الفيلم الذي من خلال مظهر الناس وتكالبهم على الدخول لقاعة الاحتفال، أنه أحدث ضجة في العالم. دخلتُ إلى القاعة والكاميرات تصفعُ عينيَّ بفلاشات الضوء الساطعة. كان الناس متجمهرين صفين يرحبون بي تصفيقاً. وكانت لجنة التكريم تقف على باب القاعة منتظرة وصولي. لابساً بذلة سوداء، وربطة عنق رفيعة متعطراً بعطر غريب لاذع. في الحقيق كنت أخفي سكين المطبخ خاصتي تحت البذلة، هذا ما شعرتُ به وأنا أتلمسُ سترتي. ولما بدأ الحفل وقدمني المضيف للجمهور عجت القاعة بالتصفيق، وحين نهضت من مكاني المخصص في الصف الأول من كراسي القاعة الباهرة، ظهر الشبح من وراء ستارة المسرح. اللعين كان يتلصصُ ويتابع خطواتي. لم يكن منشغلا بي على الأكثر، بل كان يحسب عدد المتجمهرين ويطالع هيئاتهم وأحجامهم. صرخت في منتصف الطريق إلى منصة التكريم: خذوا حذركم .. إنه هنا.. لا تبرحوا نحوه لقد ظهر اللص اللعين. نظروا إلي وعلى رأسهم لجنة التكريم والمضيف. وحين شهرتُ السكين الذي كنت أخفيه تحت ملابسي، علت صرخات النسوة، وحاول تهدئتي بعض القائمين على رعاية الحفل. وأنا أصارعهم وأحاول التملص من أكفهم التي كانت تمسك بي بإحكام. في تلك اللحظة باغتهم الشبح من وراء الستار، وصار يستلّهم الواحد تلو الآخر ويضعهم في الكيس ( الكَونية) اللعين. حتى أنهى عمله ولم يدع في القاعة سوى المنصة. سرقها هي الأخرى، وسرق الستائر والكراسي وتركني وحيداً في المكان كصخرة على طريق صحراوي. ثم شق جدار الحلم كعادته وفرَّ من خلاله. ركضتُ صوب الشق بكل قوتي، دخلتُ وصرت أتبعه صارخاً: أيها الوغد.. لن تفلت مني هذه المرة. ركضتُ وراءه طويلاً، تعبتُ ولم يتعب. بدأت ألهثُ وتدلى لساني على صدري من شدة الإرهاق. المشكلة الفادحة التي وقعت فيها، أنني تحيّرت بين أمرين في ليلتي المنحوسة هذه. فلم أفلح باللحاق به في هذا الفضاء الخالي من كل شيء.. ولا زوجتي نبهتني كعادتها لكي أفيق من نومي. 

 

أنمار رحمة الله

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم