صحيفة المثقف

العاطفة والتاريخ والإيديولوجيا

رائد عبيسيعد المجتمع العراقي من المجتمعات التي تستوطن بها عواطف التاريخ وإيديولوجيته، وهذا يرجع إلى عوامل تكوينية بلغ بها الزمن مبالغ الكمال مرة والنقص مرات، اذا يتضح من كل مرحلة وحقبة وعصر إرتهان جديد لصورة التأثير الثلاثي هذا في ضمائر الأجيال ونشأتهم .

العاطفة ترتكز بهم على الذاكرة والخيال والمشاعر التي تعزز بهم عمق انتماؤهم لذات تاريخ العاطفة التي أصبحت لهم تاريخ وجزء منه.

فالعاطفة المتكونة من فكرة الانتماء والهوية والوعي المتبلور أزاءها هي من تعرف بشخصية الفرد وقدرته على الاعتزاز بها وتبنيها. وهي تمتد معه زمنياً وسايكولوجيا، ومعرفيا، وثقافياً،وعمرانياً، وسكنياً، وبيئياً ليس باتجاه المستقبل فقط، بل تمد له باتجاه الماضي ان استعار منه و التفت إليه، فالحركة المستقيمة للتاريخ لا تضعف دور العاطفة في تجسيدها عند حامليها . بل تمثل لهم فكرة تمحور عاطفي لا يستطيع أحيانا النفاق فيه او الصبر على قدحه أو عنف نقده.

ربما يتغاضى عن جميع مناقصه ويتشبث بكمال عاطفته عنده، فالعيوب لا تمثل له سبة على تاريخه او تجرد عاطفي اتجاهه، بل تولد عنده فكرة التبني التي يرفض بها كل معارضة او مجاورة بعيدا عنه.

وهذا الانقياد الاعمى صوب احداث التاريخ عاطفياً وما تشكل به من تاريخ فردي وشخصي او جماعي لا يمثل البته أي طريقة تفسير لكل ما مر وكل ما يمر وبناء على ما مر، لا يمكن قراء التاريخ بهذه الزاوية، ولا يمكن ان نحمل منه حكماً ينتهي الى موضوعية منصفة للذات وللجميع، فالعاطفة تحجب أفكار الحياد، وترفض المغادرة بعد التجرد إزاء ما يمكن إن ينتهي إليه من تجارب، بما تسهم فيما بعد بتغيير حكمه إزاء واقعه وتاريخه.

فالمجتمعات أكثر انقيادا لفكرة الانتماء وما يعززه من عوطف ومشاعر وأحاسيس الوجود الأولية التي غرست بمعاني المكان، والذاكرة،والمعاشرة، والتجربة، والحياة الأولى .هذه جزء من مكونات الهوية التي لا تفارق عالمها، لذلك يصعب الحديث معها عن حقيقة تشاركية مع حقيقة المعرفة العلمية. فهي مكون آخر من مكونات التاريخ وبعد أهم في الأيديولوجيا. ولكن ما نخشاه على أجيالنا في العراق، هو تملك هذه العاطفة صبغة عقائدية وسياسية ومعرفية تفصل الفرد عن واقعه وترجعه إلى عوالمه الماضية بطرقة مرتهنة ومقيدة.

فتاريخنا الديني كتب بطريقة عاطفية، وتاريخنا الاجتماعي كتب بطريقة الحتوتات وبقى هكذا في ذاكرة الأجيال قرأته وتصحيحه، وتاريخنا السياسي والعسكري كتب بطريقة البطولة المتخيلة والمراجل الفارغة. والاشكالية الأكبر من كل هذا هو تحولها إلى إيديولوجيا عند متبنيها.

التاريخ، يمثل التاريخ لأمة أو لشعب مثل الشعب العراق الذي ما زال لم يفارق أطلاله، أمر في غاية الأهمية، وذلك لعدة أسباب لعل منها :

1- أنه لم يشعر يوم أنه استثمر هذا التاريخ لصالح واقعه ومستقبله .

2- أنه لم يتعرف جيد على تاريخه ويشعر ان فيه مكنونات مجهولة لم يتسن له ان يكتشفها.

3- إنه يدرك إن تراثه وتاريخه بات نهباً على يد من أحتلوه منذ القدم والى يومنا هذا، فهو يعيش هاجس استرجاعه.

4- إنه شاهد على ما طمر من تاريخه تحت أنقاض المدن ومخلفات الحروب والدماء الذي لحق من جراء ذلك.

5- إنه يعلم إن كل حكوماته المتعاقبة لم تولي اهتمام بأحياء هذا التراث او التعريف به.

6- إنه يدرك إن تاريخ حضارته لم يقدم ويعرف به كما يجب.

وقائمة الأسباب ممكن أن تطول بحسب مبررات كل شخص تجاه تمسكه بتاريخه من عدمه، هذه الأسباب التي تقدم ذكرها ممكن أن تكون عوامل اعتزاز وممكن أن تكون عوامل تجرد.

وعلى الرغم من ذلك، يبقى للتاريخ تمثيل في نفوس أبناء الشعب العراق تاريخ هوية وليس تاريخ أحداث،فالأحداث التي ممكن أن يتغنى بها بمعنى إيجابية تدخل ضمن البعد التمجيدي اما الاحداث السلبية فيتم تجاوزها. بمعنى نذكر - وهذا شعور نفسي في بعده - الأشياء الجديدة من التاريخ ونستبعد غيره، وهذا خلاف الموضوعية في احكامنا اتجاه قضايانا وما يصلح منه ان يعبر عن هوية امة او شعب او فرد، فالتاريخ البابلي او الاشوري او السومري لم يحتف به عند من ينبذ هذا البعد من التاريخ، بل بعض أبناء هذا الوطن لا يحتفون به ولا يمجدوه، على انه تاريخ لا يعبر عن هويته الدينية المتبناة من قبله مثلا عندما تطغى على هويته الوطنية. او العكس، فهناك من لم يحتف ولم يعبئ بالتاريخ الديني ويغلب عليه البعد الهوياتي الوطني بكل أبعاده الحضارية. هذا ميل لا يبلور حكم مشترك تجاه تاريخ مشترك وهذا هو جوهر الإشكالين بين من يسعى للحفاظ على الهوية التاريخية وبين من يتنازل عنها.

لماذا تم التنازل عند بعض أفراد الشعب او شرائحة عن هويتهم التاريخية؟ ولصالح من؟

جواب هذان السؤلان يُدخلانا في المفهوم الثالث من هذا المقال وهو الأيديولوجيا التي يسعى الى التوظيف الكامل لكل من العاطفة والتاريخ وتسخير مقومات القوة و استثمار الضعف لأحياء أمر آخر في ضمائر ونفوس وعقول المُتأدلجين، وهذا يعد بالنسبة لهم حقيقة جديدة، تظهرها مقومات كل من تاريخهم وعاطفتهم، أتجاه مسائلهم وقضاياهم السياسية والدينية والاجتماعية التي باتت هي الأخيرة رهينة طغيان كل من السياسة والدين عليها. فالعلاقات الاجتماعية والفردية وحتى العائلية أصبحت متأثره بهذا البعد فيها، فضلا عن المواقف العامة تجاه قضايا المجتمع نفسه والدولة والخدمات والشأن العام، فهناك شرائح كبيرة وفئة كثيرة من المجتمع يعيشون خارج هموم الوطن ومشاكله، تحت توجه او حاسبات متعددة الأهداف بين حركية، وبين سياسية نفعية او دينية او طائفة او ولائية لدول مجاورة او أخرى.

فالأيديولوجيا الفردية تعد اليوم محرك قوي تجاه قضايا الوطن او تسخير العاطفة اتجاها او أتخاذ موقف سياسي، مثلما وجدنا أناس يتباكون على أحد قادة الأحزاب وهو عمار الحكيم، لان أصحابه بالحزب تخلوا عنه عندما انفصل عنهم ولم يكونوا معه في خطوته، فكانت العاطفة تتملكه والتاريخ الجهادي والسياسي اختزل به، هذا مثال يظهر حجم التفاف هذه المفاهيم على وعي الأجيال دون أن يعلموا ولكن بعلم من يتبعوا !

 

الدكتور رائد عبيس

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم