صحيفة المثقف

فلسفة الفارزة وإشكالية الأخطاء البارزة

رائد عبيسلم تعد الفارزة أحد علامات الترقيم، ولم تعد كتابتها لفصل الكلام عن بعضه واجزاءه، أو بين الشيء واقسامه، أو بين لفظ منادي بآخر، أو بين الكلمات المفردة، أو بين جمل قصار معطوفة، أو بين كلمات مفردة،  أو بين الفاظ معطوفة،  أو بين حرف جواب و آخر، او بين شرط وجزاء أو بين بدل وبديله. و لم تعد تلك العلامة التي تكتب بهذه الطريقة السهلة، ولم تعد فاصلة فقط، بل باتت فعل و ممارسة، على الرغم من أن جميع الكتاب لم يستغني عنها في كتابتهم، ولا فرد أو لمجتمع أن يستغني عنها في بأفعاله! ومع هذه الأهمية إلا أنهم يستغنون عنها بطريقة في كلامهم!

وهنا تكمن أهمية الكتابة، والفعل على الكلام، مهما بلغت فصاحته وحكمته، وهذا يؤكد لنا مبدأ، وهو أن أي فرد اذا لم يكتب ما يجول بخاطره من أفكار وآراء ومشاريع وكل ما هو مفيد وصريح ومنطقي، فأنه يتوارى خلف النسيان ويضيع، وهذا يذكرنا بالوصايا الحكيمة التي تؤكد على الكتابة لا الكلام. والكلام لا بد أن يحتوي على ما يتوجب فصله وافرازه بعلامة فاصلة وفارزة حتى يتحقق نفعه.

هناك كثير من الأشخاص أو أفراد المجتمع العراقي يسعى إلى تحويل هذه العلامة المكتوبة لا المنطوقة الى علامة مكتوبة ومنطقة ومفعولة. سبق وان قلنا إنها تكتب وتفعل ولا تنطق! ولكن الغريب الذي نشخصه هنا هو امكانية ممارسة الفارزة بوصفها فعل، وممارسة لها انماطها الفعلية في الوسط الاجتماعي، تتجسد في ممارسات فردية، وجماعية، وفئوية و شرائحية، وطبقية وغيرها.

لماذا اخترنا الفارزة كمدلول عن هذا الفعل الاجتماعي؟

لأن نمطية الفعل الاجتماعي الفاصل بين فئاته باتت تشكل تهديد على وحدة المجتمع العراقي، وكيف ندرك هذا التهديد؟ لا يمكن أن ندركه ما لم نحسه أو نعيه أو نشعره أو نتضرر به، والمجتمع العراقي الذي بات مقسم داخليا من حيث العشائرية المفرطة، أو من حيث التحزب المقيت،أو الادلجة، أو الاصطفافات الفئوية التي تنافس فئات أخرى من المجتمع، أو القومية، أو الطائفية،  أو الولائية، أو الانتمائية، أو حتى المهنية أو الشرائحية، هذه تقسيمات مجتمعية، في الغالب موجودة عند جميع الشعوب، ولكن ما نخشاه على مجتمعنا العراقي، أو ما نريد وندعو إلى التخلي عنه،  هو تعميق هذه الفوارق التي قد نمارسها بدون شعور وكل عفوية في وسطنا الاجتماعي، خوفا من تجذبها الى حد يترتب على ذلك اختلاف تام بالتوجهات العامة اتجاه مصلحة البلد وقضاياه، وهذا في الواقع موجود ولكن قلنا نخشى من ازدياد أعماقه في أوساطنا الاجتماعي، وهو ما دفعنا ايضا الى كتابة هذا المقال، والإشارة الى إشكاليات كبيرة تترتب على هذه الفاصلة، منها:

أولاً: عنصرية الفارزة التي تعزز الانتماء بين الذوات المنصهرة في بوتقة إحدى التشكيلات الاجتماعية واي كان صيغتها العقائدية أو السياسية أو اقتصادية.

ثانيا: غياب الحس الجمعي العام اتجاه قضايا المجتمع بشكل شمولي،كحس وطني جامع، وهذا ما شخصناه في مسيرات الاحتجاج والتظاهرات والحراك الجماهيري الذي كان يفتقر إلى وجود من هيمنت عليهم الفارزة الفئوية، فنرى قطاعات تتظاهر على مصالحها فقط، ما أن تتم و تُلبى ترجع الى حيث جاءت وخرجت، ولا يعنيها شرائح اجتماعية أخرى أو قطاعات اخرى، وقد رأينا ذلك مؤخرا في حراك نقابة المعلمين والمهن الصحية اتجاه علاوة واستحقاق مادي، بينما الهموم الكبرى غائبة عن طموح أكثرهم.

ثالثاً: الانكفاء الاجتماعي بحيث نجد شرائح من هذه الفئات تقتصر على شريحتها في كل أنشطتها الاجتماعية، مثل المجاملات السفرات أو الشؤون الاجتماعية الأخرى. وهذا ما يعمق نزعة الفرز لدى كل منتم الى هذه الشريحة أو تلك.

رابعاً: تعميق فكرة الانتماء المؤسسي على حساب الانتماء الاجتماعي وهذا ما ينتهي بأفراد اي شريحة أن تشعر بالتعالي أو بالتميز أو بالاختلاف ببعده الطبقي او الاناني. وهناك كثير من الإشكاليات التي ممكن أن نميزها ونشخصها. وكل تلك الإشكاليات وغيرها تترك أثر سلبي على مصاديق أخرى من فعل الفارزة، وما يترتب عليها من اخطاء كبيرة تلم بأفراد المجتمع العراقي المتعززة بهم هذه المسألة، فكيف بمن يأتي ويشتغل عليها وينظر لها ويؤسس لها أبعاد جديدة تسهم بشكل وبآخر الى وجود حالات التنابذ والتراشق والاستخفاف بين أفراد المجتمع على عدة قضايا منها على سبيل المثال، فكرة ابن الأطراف الذي يسمى بالمعيدي في قبال ابن الولاية، وهذا يدخل تحت نظرية المركز والأطراف. أو هذا منتمي لحزب ما أو تيار ما يحكم عليه بالعميل في مقابل ما يسمي نفسه الحزب الوطني. أو هذا تابع لدول الجوار وذيل لها وهذا ابن البلد الحر، أو هذا مرجع ذو أصول غير عربية وهذا مرجع عربي. والمفاضلات على هذه المناكفات قائمة وتزيد من حدتها كلما تثار قضية ما أو تحدث مشكلة في أمر ما، وهذا الكلام واضح جدا و مصاديقه كثيرة في الوسط السياسي الذي يتم الفرز عل أساسه، تبعا لطبيعة الأحقاد والضغائن أو الصراع حول المصالح، فلا وطنية لم يؤمن بمنطق الفارزة ويشتغل عليه. ولا ولاء وطني لمن يدعي نبذ الطائفية وهو يفرز المناصب والاستحقاقات عل أساس من الفرز العنصري. ففي كل مجال من مجالات الحياة ونشاطاتها في العراق توجد هذه الإشكالية، وذلك يرجع إلى سبب رئيس وهو غياب روح الوطنية والمواطنة التي هي بالضد من كل ما يترتب على الإيمان بفلسفة الفارزة ومنطقها وتطبيقاتها المختلفة. ولتعزيز روح المواطنة المتساوية في نفوس أبناء المجتمع العراقي فأنه يأتي من احساس الكل بأن بلدهم يدار من قبلهم، وان خيراته توزع لهم بالتساوي، وان كل الخدمات والمنافع تشمل الكل، وان لا فرق بين مواطن وآخر، بمسافة واحدة من المساواة لا يفارق الفرز الفئوي الضيق والاعمى الذي يفسد قيم المواطنة ومعانيها، فتلك أخطاء بارزة يجب ملاحظتها ومعالجتها مجتمعياً ومؤسساتياً.

 

الدكتور رائد عبيس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم