صحيفة المثقف

رأي في العدل (1)

الكلام عن - العدل - والبحث فيه بحد ذاته مُخاطرة وأيةُ مخاطرة لذلك يستوجب البحث فيه وعنه المزيد من الحذر والدقة والتأني، لأن البحث هو رحلة في الكشف عن خبايا المادة وعن مفهومها ومعناها، في ظل التناقض والتساؤل والتفاوت الغالب في الحياة وفي الطبيعة والمجتمع، كما إن الكتاب المجيد لم يُقدم لنا أسماً لهذه المادة ولا مصدراً لها، إنما ترك المجال لنا للإشتقاق والتوظيف من الصفة والفعل ودعانا للتعامل معاهما، ولهذا تبدو مهمتنا ليست سهلة فيما لو أتخذنا أحكاماً أو أستنتجنا قواعداً نبني عليها، وبما إن الجدل المعرفي يدور حول المضمون الفلسفي والكلامي، وما يشتق منهما من معاني وتراتبية وأحكاماً .

إن الإفتراض القائل إن العدل منهج في البحث الكلامي، إفتراض صحيح هذا إذا نظرنا للأمر من وجهة ماهو بالفعل من سيادة الكلامية وسطوتها في الأصول والفروع الدينية المُتبعة، وفي الكلامية أيضاً نتج القول التالي: (إن الصفات عين الذات)، وجر هذا القول ليكون أساسياً في بعض المدارس، وليُقال: - إن الصفات هي الأسماء حين تُنسب إلى الذات الإلهية -، جاعلين من هذا القول أصلاً كلامياً يساوي في درجة المعنى والقيمة له بين التوحيد والمعاد، وتداركاً من الخشية المعرفية تبنوا مقولة - اللطف - كمبدأ وكهبة من الله، والحق إن هذا التدارك ليس دقيقاً ولكنه صار غالباً بفعل (الكلامية السياسية) وليس الكلامية العقلية أو المنطقية، ومن هنا كان لا بد من التوضيح والبيان فثمة ما يحتاج للتصحيح والموافقة بين عالمي التكوين والتشريع، والمزج بينهما والتأسيس على ذلك واحدة من المخاطر التي سننوه عليها في تلابيب البحث ..

ولكن ما معنى العدل ؟

وللجواب نقول: العدل في اللسان العربي يأتي بمعنى: - ضد الظلم -، قال تعالى: - [وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ..] - النساء 58، وقال تعالى: - [وإذا قلتم فأعدلوا] - الأنعام 152، ومنه قيل هو: (القصد في الأمر) -، قال أبن منظور: - والعدل ما قام في النفوس أنه مستقيم -، أي إنه (غير ذي عوج) وإلى ذلك أشار إلى مفهوم التسوية والتعديل بقوله تعالى: - [هو الذي خلقك فسوآك فعدلك] - الإنفطار 7، ومنه الإعتدال والمساواة بل وحتى الوسطية، في إشارة إلى قوله تعالى: - [وأقصد في مشيك وأغضض من صوتك ..] - لقمان 19 .

وجاء في الأثر قوله: - وأما العدل فهو وضع الشيء في موضعه -، من غير تقديم ولا تأخير ولا زيادة ولا نقصان .

ولم يرد اللفظ في الكتاب المجيد بصيغة الأسم أو أسم الفاعل - عادل أو العادل - كما هي العادة الجارية في أسمائه الحسنى الأخرى التي نقرئها في الكتاب، ولكن ورد اللفظ في صيغة الفعل - أعدلوا أو تعدلوا -، وفي صيغة الصفة أو الصفة المشبهة على نحو - العدل أو بالعدل -،، واللفظ لا يكون أصيلاً إن لم يكن مصدراً والمصدر أبلغ في الدلالة وفي التعريف، قيل: ومن العدل أشتقت العَدالَةُ والتي هي: - ملكة جامعة إن حصلت للفرد فيكون المتصف بها أو الموصوف جامعاً للفضائل والقيم - .

 أقول: ولا يبعد المفهوم اللغوي للعدل عن المفهوم الإصطلاحي كثيراً، وفي المفهوم العام أعتُبر العدل من المبادئ الوجودية السامية، لأنه يُحصن الفرد والمجتمع من الظلم إن عُمل به، ومن خواصه إنه لا يكون متعيناً العدل ليست بفرد خاص من أفراد عالم الوجود دون سوآه لكي يكون معلوماً، بل هو يفيد العموم سواء في معناه أو في تطبيقاته، وإن كان اللفظ لم يرد مباشراً في عالم التكوين، وإنما وردت الصفة المتبوعة على نحو إشتقاقي كما في قوله تعالى: - { والسماء رفعها ووضع الميزان } - الرحمن 7، ويُفهم منه إن لفظي - رفع ووضع - أتيآ في السياق دلالة وإشارة على حالتي التوازن والتعادل في نظام الكون والطبيعة (وهو مقتضى العدل) في الصفة والفعل، والتوازن والتعادل شرطين موجبين ومسبقين في صحة النظرية الفيزيائية المادية للكون، وعلى هذا ورد التأكيد في سياق الأثر قوله: - (بالعدل قامت السماوات والأرض) - أنظر التفسير الكبير للرازي ج 5 ص 346، والقياس في ذلك يشبه كثيراً ما بُني عليه عالم التشريع حسب قاعدتي (الحقوق والأولويات) .

وأصل القياس هذا (مبدأ الخاصة الذاتية)، وهو مبدأ فلسفي أقيم على أساس قاعدة التقابل بين الوجود والعدم، ومنه جاء قياس البرهان عن مبدئي الخير والشر،

وقد آمن بذلك مثاليوا الفلسفة الأغريقية القديمة، فهذا بوليمارخس مثلاً قد عَّرف حد العدالة بأنه: (ما يرد للإنسان ما هو له)، ولكن ماذا تعني عبارة - ماهو له - هل تعني المتعلق بتمام الحق لكي يُرد إليه ؟، أم إن المُراد به ما يُرد إليه من كل الحق ؟، أو إنها تعني طبيعة الحق من حيث هو أو المتوقف على طبيعة العلاقة بين المتعاملين ؟ .

وصيغة - بين المتعاملين - وردت في سياق الإشارة للنقيضين، (الأصحاب والأعداء ... الأخيار والأشرار) .. وهكذا، ولفظ الأصحاب في صيغة الأسم الفاعل وردت من صحب، والدالة على معنى (الخاصة) كأصحاب الجنة في قوله تعالى: - (.. ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم ..) - الأعراف 46، وأصحاب الحجر في قوله تعالى: - (.. كذب أصحاب الحجر المرسلين) - الحجر 80، إذن فالوصف يحتمل الإيجاب ويحتمل السلب، (وقيل الأصحاب بالألف واللام هم خاصة الرجل الذين يعتقد فيهم الصلاح والأمانة)، والجمع المُحلى - الأصحاب - لغةً يُراد به العموم، وأما الصحبة من حيث هي هي فلا تدل على الصلاح والأمانة، لأنها في الأصل تدل على مجرد الرفقة في المكان أو في الطريق وخلافه ولمدد متفاوتة، وهذا الأصل يبطل ما ذهب إليه الخبر التالي: (أصحابي كالنجوم بأيهم أقتديتم أهتديتم) من الحجية والإعتبار، وبنفس الإعتبار يبطل الرأي القائل - عدالة الصحابة - .

ولو سلمنا جدلاً في صحة شرط - الأمانة والصلاح - فهذا لا يكون من الملازمات الذاتية لشخصية الصاحب ولا يعني، والتسليم بهذا يقودنا للقول (بعصمة الصحابة) وهذا خطأ بيَّن، لأن ذلك يترتب عليه: - أن يكون لهم ما لا يكون لغيرهم -، وهذا التوجيه مغالطة منطقية وعقلية، ثم إن إطلاق مفهوم - العدالة - على جماعة من الناس بعينها، سيؤدي حتماً إلى توالي فاسدة وهذا ليس من العدل المحكي عنه، كما إن الإيمان بذلك يجرنا إلى مضرة أكبر، تشمل الجميع حتى الصالحين منهم .

ومن أجل تصويب المعنى نقول: (إن من البداهة إنتفاع الأصحاب الأمناء والصالحين من العدالة)، ولكن ما أهمية هذا التقسيم الإيحائي للناس إلى صالحين وأشرار ؟، طالماً نعرف إن ضرره سيكون أكثر من نفعه، والمبالغة بالتقسيم وفقاً لذلك الإعتبار سيجعل من الأشرار أكثر شراً، وهذا ضد العدل ..

ولكن ماذا لوكان العدل في خدمة الأقوياء ؟ .

الأقوياء: جمع قوي وهو جمع مُحلى، ويصح في الوصف مبالغة وتفضيلاً على أساس الكثرة في القدرة والنفو ذ، ودلالة معنى - الأقوياء - مختلفة بحسب الوضع الزماني والمكاني:

فمنهم من قال: - هم رجال السلطة والحكم - .

ومنهم من فال: - إنهم رجال المال والثروة من أصحاب البنوك والشركات الرأسمالية -.

وهناك من قال: - إنهم المرتزقة من رجال الدين والكهنة والوعاظ - .

والحق يمكننا إعتبار هؤلاء جميعاً، المؤتلفين ضمن هذا الحلف الثلاثي القائم بين - رجال المال ورجال الحكم ورجال الدين - فهؤلاء هم أهل السطوة والنفوذ، والعدالة في أغلب المجتمعات قد جُعلت من أجل هؤلاء ومن أجل تحقيق مصالحهم، أقول هذا من وحي هيمنة هذا - الحلف الثلاثي - على صناعة القرارات والقوانين وتنفيذها (فهم من يصنعون القوانين وهم من ينفذونها)، بحيث يكونون هم جهة الإدعاء والحكم وجهة الدفاع في آن معاً، أي هم الجهة الممثلة للعدالة والناطقة بأسمها، ومتلازمة - الحلف الثلاثي - موجودة على طول الخط في الماضي والحاضر (وفي قصة فرعون وهامان وقارون خير مثال)، والمُشار إليها بهذا التعاون والعمل المشترك بين هذه الفئات، وعالمنا يشهد إن الحق يدور مع رأس المال حيثما دار إيجاباً أو سلباً .

هذا القول يقودنا للتعرف: عن مدى خطورة هذا التوصيف، الذي يجعل من الناس خدماً وعبيداً لهذا الحلف فتفقد العدالة مضمونها ومعناها، فالحكومة بكل تفاصيلها ليست مقدسة ولا معصومة أو إنها لا تفعل ولا تقوم بأفعال ليس فيها خطأ، وليس هناك حاكماً في الأرض لا يخلط في قضاياه ورغباته الخاصة وبين حاكميته ؟، ولا توجد حكومة في العالم تسن القوانين دائماً لمصلحة الشعب، كما إن المشرع وجهة التشريع فيها ليست مقدسة لدرجة بحيث لا يجوز عليها الخطأ، وفرق كبير بين تشريع القوانين وسنها وبين مفهوم الطاعة ودواعيها .

وفي هذه الفقرة بالذات ذهب بعض من فلاسفة الإسلام مذهباً مثالياً، حين جعلوا من فن الحكم مقدساً في ذاته مما يستوجب الإنقياد إليه وطاعته، يأتي هذا من معنا مثالي يدور في فلك (إن الحكومة إنما تقيم أحكامها تبعاً لمصالح المحكومين جميعاً)، حسب نظرية الراعي والقطيع وهي نظرية موغلة في القدم، وهي قائمة بالفعل على ما يقوم به الحكام، حتى شاع في التاريخ الإسلامي ذلك القول السيء عن معنى إطاعة الحاكم: - [وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك] - !!، فالضرب والتعدي هنا حرره الفكر المثالي تحت بند المصلحة، في الحماية والأمن والإستقرار والنظام، وقالوا: - يكون التعدي أفضل وأنفع من العدالة -، حال تكون العدالة تضييع للحقوق .

ولكن هذه الفكرة السلبية والتي تبرر الظلم، تذهب مذهباً في جعل المصلحة مرتبطة بهذا الحاكم، وكأن الحاكم هو من يهب للناس الرزق والعيش والحياة، ناهيك عن أن الضرب ليس فيه مصلحة، ولا دليل على أن الضرب من حيث هو عمل يرتبط بإستتباب النظام والأمن، والفكرة وردت مجردة من ضميمة مفهومية تقول: (إن أصل تولي الحاكم للحكم لم يكن بإرادة شعبية، إنما كان بالغلبة والسيف والقهر)، فكيف تصح طاعته والتسليم لأحكامه ؟ .

إن مفهوم الدمج بين العدل والظلم تحت مسمى (العدالة فطرة صالحة والتعدي سياسة حسنة)، ذهبت بنا لتبني مقولة - العادل المستبد - التي ظهرت لدى فئة من الإنتهازيين والوصوليين المروجين والمبررين لغلظة حكم الخليفة عمر وشدته المفرطة، التي بررها القوم على أنها بمثابة العدل الذي ينصف الجميع، فأستخرج من فمهم كلاماً يقود إلى معنى قولهم: (إن الظلم بالسوية عدل)، وهذه محاولة لخديعة الناس في جعل ما يفعله الظالم إنما هو في سياق العدالة العام .

تدعي الميثولوجيا الدينية إن خدعة الظالم هذه تأتي من خلال التبرير الطوباوي عن جهات العدل الأربعة، معتمدين على تمويه مرده إلى القول التالي: - إن كل ذي فن قادر على غلبة غيره فيه -، والغلبة من جهة الوعي وجهة تحريك الدلالات في غير محلها (كالخدع البصرية التي تنطلي على غير أهل هذا الفن)، فالمروجين لفكرة - الظلم بالسوية عدل - هي محاولة منهم لتغرير الصالحين قبل غيرهم، وهي محاولة ديماغوجية يظن أصحابها إنها ستنتج مفاداً وتقريراً على هذا النحو: - (إن الفكرة في حد ذاتها عدل وصلاح وحكمة) -، وبناءاً عليه يكون المُخالف الذي في الطرف الأخر جاهل وشرير ومعتدي، وبهذا يتم التبرير للأعمال الشنيعة والفظيعة كقول البعض منهم: - (قُتلَ الإمام الحسين بسيف جده)، وهذا الوصف يعتبرونه من قبيل درء للفتنة تحت مظلة درء الإنقسام والنزاع وحفظ النظام والإستقرار، وهذه السفسطة التاريخية أعتبرت نوعاً من العدالة التي تحقق الوئام والإتساق، وبنفس الدرجة أو بطريقة اللاوعي تقضي على كل توجه من شأنه حتى السؤال عن فداحة العمل وبشاعته .

يأتي هذا في تحد واضح للعقل وأحكامه وحدوده الحسيَّة والمرئية، والعقل بطبيعته أو بما هو هو لا يعتبر العدالة قائمةً في الأساس على تبرير عمل الحاكم أو تبرير عمل المريدين له، بل العدل هو - ما يتسق مع طبيعة الواقع أو طبيعة الحقيقة بحسب وضعه الأصلي -، ومنه يظهر أن التوجيه الذي تبنته جماعة الحكم لا ينفك يخرج عن طبيعتها المادية تلك ونظرتها، والتي هي الوجه الأخر للظلم، فالتركيز منهم على تبرير الظلم على أنه عدل لا يحقق المصلحة إلاَّ في نظر المتبنين ولفترة محددة تنتهي بإنتهاء المنفعة، والتأكيد على المنفعة أو المصلحة لا يمثل منطق الحق من الوجهتين الطبيعية والمكتسبة، وقياس ذلك على تمام مراحل التاريخ قياساً باطلاً ينتهي إلى الإعتراف بالعجز وعدم القدرة في مواجهة الظالم والظلم .

فإن قلتم: - هذا مقتضى السياسة التي تعتبر الحق متعلقاً بالحاكم - .

قلنا: - إن هذا الإقتضاء قهري ولا أساس له سوى كون الحاكم يمتلك القوة، وهذا ما يجعله فوق القانون والعدل - .

وهذا القول الإفتراضي منهم يجرنا للإعتراف بالفوضى كمنفذ للحق، وبالتالي الإستسلام لهذا المنطق فتفقد العدالة قيمتها ومعناها، ومن أجل إقامة التوازن لا بد من الإشارة إلى هذا الخلل في الفهم، وهذا هو الجانب الأول أو المُقدمة في الموازنة بين العدل والظلم وحدودهما .

لقد عجز أنصار تلك الفكرة في التبرير لما يفعله الظالم ولم يجدوا الجواب الشافي، وكذا لم يجدوا تلك الدرجة التي تؤهل التشريع ليكون منسجماً مع هذه الفكرة اللامنطقية وتوابعها، من هنا نقول: - لا يصح أبداً إدراج الأقوال أو الأفكار التي تروج أو تخدم الحاكم، ولا يصح إعتبارها هي العدل أو من العدل أو أنها المعبرة عنه، لأن تلك الأفكار والأقوال توازي ما تتبناه - المثالية الكلاسيكية - المستسلمة والتي تؤيد الخنوع بحجة الحفاظ على الأمن والنظام، حتى لو أعتبرنا هذا التوجه أو هذا التفسير منها زمني لكن الشيء المهم إن فيه الكثير من الإلزام والخضوع الممنوع .

ومن هنا نُعيد التأكيد من جديد والقول: - إن العدل لا يكون صحيحاً حين يجسد إرادة الأقوياء -، ولا يكون صحيحاً كذلك حين يكون لمصلحة الأصحاب والأقرباء، لأن في ذلك التوجه أو الإيمان شياع للظلم في مسمى جديد، وإقتراحات بعض الفلاسفة المثاليين الكلاسيكيين ليست على مايُرام، ولا ينبغي إعتمادها أو الأخذ بها كما لا يجب تبرير مقولات أهل الفقه التراثي في ذلك، فثمة خدوش كبيرة في متبنيات الطرفين، وثمة تماهي وسيرورة واضحة مع إرادة الحاكم مهما كان وحاشيته مهما تكن، وهذا هو الظلم المنهي عنه، وأما العدل فحقيقته وأساسه ومعناه هو في وضع الشيء في موضعه .

 

 

العدل الإلهي:

في البداية نسأل هل الله عادل ؟، ثم لماذا نفترض إن الله عادلاً ؟

وللبيان نقول: لم يرد لفظ - عادل - لا أسماً ولا مصدراً في الكتاب المجيد مطلقاً، ولكن الذي ورد هو صيغة الفعل والصفة، واللفظ في كليهما ورد في باب التشريع والقانون وبصيغ (أعدلوا وبالعدل) وغاب الأسم وأسم الفاعل والمصدر، وهذا يقودنا للكلام عن أو في أصل التكوين والخلق، وفي هذا الأصل نقول: هل كان هناك قيداً أو مانعاً يمنع من ذكر الأسم ؟، وإذا كان موجوداً، فما هو وما نوعه ؟، والسؤال عن الماهية والنوعية في معنى القيد، يقودنا للجواب الذي ورد تحت معنى (آية أو آيات) كدليل غير مباشر لعدم الذكر، وهذا يعني إن التساوي في الخلق ظلم، ولذلك جعل الإختلاف سُنة طبيعية لتوازن الكون والحياة، لذلك كان من مقتضيات صحة نظام الطبيعة هو رفع حالة التساوي في طبيعة الخلق، لا في الفئة الواحدة ولا في الفئات المتنوعة ولا في الفرد الواحد ولا في الأفراد الأخرين، ومن ذلك أستلهم الفقيه والكلامي هذا المعنى ووظفوه في أبحاثهم، فأهل الكلام مثلاً أعتبروا: - (وجوب العدل على الله) - !!، وهذا الإعتبار منحاز للسياق ولطبيعة الله المعنوية، ولكن كيف يكون ذلك ولماذا ؟

أي كيف يكون العدل واجباً على الله ولماذا ؟، يأتي هذا في سياق المُتبنى عند أهل الكلام في قولهم بوحدة الأسم والصفة، ولكن الإعتبار منهم أُخذ من معنى الصفة، وكما قلنا لا يميز الكلامي في الدلالة بين الصفة والأسم، ومهما يكن اللفظ فيكون دالاً على الأخر، نفهم هذا من مقولتهم الشهيرة والقائلة: - إن أسمه عين صفته، وصفته عين أسمه -، في الإشارة والوصف إلى الله، مع إن هذه المقولة ليست بيانية بدرجة، ولكنها إلتفاف وإجابة من بعيد (على هكذا موارد قد يسأل فيها سائل) .

ولكن كيف يكون العدل واجباً ؟، والجواب: إن الوجوب ليس بما نفهمه من المعنى السلبي المُلزم، ذلك إن الله ليس محكوماً ولا تابعاً للغير بالفعل ولا بالقوة، ولكن الله لما سمى نفسد - الرحيم - وعرفناه كذلك، قلنا هذا: من باب إشتقاق المعنى التضمني لمفهوم الرحمة، والذي بمقتضاه: - لا يظلم عند الله أحدا -، وبناءاً على هذا المقتضى يكون الله - عادلاً -، قال تعالى: [كتب ربكم على نفسه الرحمة] - الأنعام 154، ولفظ كتب يدل على الوجوب وقد مر بيانه في معنى الوصية والميراث فلا نعيد، ويكون المعنى المُراد: - (أوجب ربكم على نفسه الرحمة)، أو بتعبير أخر: - (إن الرحمة واجبة على الله)، قال تعالى: - [وربك الغفور ذو الرحمة ..] - الكهف 58 .

ولكن مامعنى عدم ذكر أسم الله (العادل) ولا أسم الصفة (العدل) في عالم الخلق والتكوين ؟

مع أن المفروض أن يكون الأسم والصفة موجودان في عالم الخلق والتكوين، حتى لا يدع مجالاً للشك أو إتهام الله فيما صنع وخلق وسوى، ونحيل أوراق هذه القضية والكلام فيها لمعنى الإختلاف الموجود في اللسان واللون، وتعلمون كم أصاب بعض القوم من هذا الإختلاف ضرر ومخمصة أدت إلى شعور البعض بالضعة والضعف، بل وأدى ذلك إلى إحتقار الغير لهم وإستعبادهم، فهل هذا التفاوت يدخل في صحة معنى قوله تعالى: - [.. وإختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين] – الروم 22،

تدعي المثالية: - إن ساحة العدل الإلهي من السعة بمكان بحيث لاتدع مجالاً لإتهام الله فيما صنع أو خلق أو شَّرع -، أي إنه لا يمكن إتهام الله في خلقه لبعض الكائنات، وجعلها متفاوتاً باللون واللسان من جهة ومن جهة جعلها متفاوتاً بالعلم ودرجة الإستيعاب ومن جهة الرزق، ولعل الكتاب المجيد أدخل هذا التفاوت في المعنى التكاملي للحياة، إذ بدون ذلك يتعذر العيش والحياة عبارة (آيات الله)، أي إن هذا التفاوت والإختلاف هو من آيات الله المرتبطة بالخق والتكوين، وليس لمعنى الآيات مجالاً في عالم التشريع والقانون، ومن هنا فالربط الموضوعي بين الإختلاف والآيات يرتبط حصراً بعالم التكوين، وفي هذه بالذات لا يعد الإختلاف ظلماً بل هو عين العدل ومقتضاه، فالتساوي في الخلق في عالم التكوين يفقد الحياة معناها، ويفقدها هذه الصورة الجميلة التي هي عليها الآن، والإختلاف وفق هذا النظم عده أهل الحقيقة (بيان في حيوية الخلق) .

إذن فلإختلاف في الخلق تكويناً هو القاعدة التي يُبنى عليها، ويغدو من العبث السؤال عن وحول: - لم يذكر الكتاب المجيد الأسم أو أسم الفاعل ؟، ونقول: إن الله في باب التكوين لم يطرح فكرة التساوي في الخلق، لأنها سالبة بإنتفاء موضوعها، ولكنه رسخ مبدأ التساوي في الحكم والتشريع، أي إن الله حين أستخلف العقل في الإدارة والحكم طلب منه، الإلتزام بالعدل صفة وفعلاً حتى يتم تحقيق الصفة والفعل في الحياة في الحقوق والواجبات، لهذا ورد في الأثر (عدل ساعة في الحكم تساوي عبادة ستين عاماً)، وبهذا الطلب يكون التنفر أو إلقاء التهم على الله في كونه أصل المشكلة، إتهام باطل لأن الله إنما أراد الإنسان أن يكون له القدرة والصلاحية في تحقيق فكرة المساوات في الحقوق والأولويات، ومع ذلك لم يترك الله الإنسان وحده في سن القوانين والتشريعات بل ساهم معه في ذلك، عبر تشريع القوانين والنظم في مجالات الحياة كافة، وتبقى فكرة إتهام الله منشأها نفسي ومزاجي، تقوم على الملاحظات البسيطة والكسل والتخاذل في عدم القدرة والإستطاعة على مجابهة المشكلات التي تصنعها الحياة والإنسان، فيُنسب هذه الخلل إلى الله ثم يُتهم مع إن المنطق العلمي يقول: - إن الأصل في عالم الوجود قام على أساس مبدأ الإنتظام الطبيعي -، وهذا المبدأ هو عينه الذي قامت عليه ودلت مقولة إن العدل هو: - (وضع للشيء في موضعه) - .

ومنذ بدايات الخلق لم يخرج مفهوم - العدل - عن كونه الدليل الدال على النظام وحفظ الحقوق للأفراد والجماعات، ولا ينفصل هذا المفهوم وجوداً وعدماً عن مفهوم الحرية كشرط في تحققه وديمومته، فالحرية شرط سابق ليكون العدل في محله وموضعه الصحيح .

ونعود للتأكيد بأن - العدل - لا يعني التساوي في عالم التكوين، ولكنه في عالم التشريع يكون مطلوباً كذلك في مجال الحقوق والعمل، طبعاً لا يجب أن يُفهم من ذلك إن التساوي بمعنى التوافق أو الإنطباق في الهيئة والشكل والمضمون وفي العمل والأجور، ولهذا ورد القول التالي: - لكل حسب قدرته ولكل حسب حاجته -، وهذا القول هو الذي يجيزه العقل ويقره، بمعنى إن العقل لا يسمح بتساوي الأجور مع تفاوت العمل وساعاته، إنما يجيز العقل التساوي في الحقوق المشتركة كقضية التأمين الصحي والتعليم وإن يكون لكل فرد أو عائلة مسكناً يؤون إليه، ولكن في مجال العمل تتفاوت القدرات والجهود المبذولة في ذلك، لذلك نقول: - لا يكون ممكننا المساوات في العمل وفي الأجور، لأن ذلك مدعاة لوقوع الحيف على البعض -، وهذا ممنوع بل ليس من العدل بشيء، ثم إن أسم الصفة - العدل - يتضمن ويدل على - إعطاء كل ذي حق حقه -، ولا يدل ذلك على معنى التساوي في كل شيء، إنما يدل على عدم تضييع الحقوق كثيرها وقليلها .

وهذه دالة العدالة ومضمونها المعرفي، وفي هذا المجال تطرح هذه الإشكالية في صيغة إعتراض، عن الجدوى من تأصيل الفوارق في الرزق وفي العلم وفي الصحة، والتي وردت بصيغة (هل يستوي ..)، التي يفهم منها اللامساوات والتي يجد فيها البعض كما قلنا، وسيلة في التشكيك وإتهام الله وبأن ما حاصل بالفعل إنما منشأه عدم العدل وتأصيله وتشريعه، سواء من جهة الخلق أو من جهة القابلية والقدرة والإستطاعة، من خلال ذلك النظام الظالم الذي رفع بعض الناس على بعض، وقد أستُغل هذا الوضع من جهات وأفراد ليميزوا فيه أنفسهم على غيرهم، مدعين الحق وناسبين ذلك إلى الله وإرادته، التي أفتقدت للعدل حين لم تساوي وفرقت في الخلق وفي الصنع .

وقد أبطلنا هذا القول من جهة (إن الله لم يجعل هذا التمايز لما هو سيء وقبيح)، بل أدخله في مجال وميزان التنافس والعمل طارحاً مبدأ: - (كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك) الإسراء 20، فمن جهة جعل الناس شركاء في أساسيات الحياة المعروفة، ومن جهة دفع حالة اليأس والقنوط التي قد يظن بها البعض، ومن جهة أخرى جعل من التمايز سنة طبيعية وجعل من مواجهة الجميع للحياة بنفس الدرجة، ثم أتبع ذلك بقوله: - [ليبلوكم أيكم أحسن عملا] - هود 7 والملك 2، ومفهوم البلاء هنا ليس مفهوماً سلبياً إنما هو تكليف، ورد في صيغة التحدي ومواجهة قوى الطبيعة والحياة، يظهر ذلك في الربط بينه وبين لفظ - أحسن - الوارد في صيغة المبالغة أو لنقل المفاضلة، وبذلك يكون قد حدد طبيعة المواجهة وشكل التحدي لها، معتبراً العمل هو القيمة التي تحدد معنى الأحسن والأفضل في مواجهة الصعاب والمتاعب، إذن هو موضوع طرح على نحو إيجابي طالما كان القصد منه درجة الإعمار والبناء: - (هو أنشأكم من الأرض وأستعمركم فيها) هود 61 ...

وللحديث بقية

 

آية الله الشيخ إياد الركابي

25 رجب 1440 هجرية

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم