صحيفة المثقف

تحليل في النوايا والأهداف

بكر السباتين"الكونغرس الفلسطيني الاقتصادي العالمي" ما بين الجديّة والعبث..

قبل الحديث عن الكونغرس الفلسطيني الاقتصادي العالمي لا بد من التنويه إلى أن الشعب الفلسطيني تعب من خفافيش الظلام التي تخرج عليه من رحم الأزمات ليكتشف هذا المغبون آخر المطاف بأنها مجرد هيئات أو منظمات لا تخرج عن نطاق ما يحاك حول القضية الفلسطينية من مؤامرات باتت تتلخص في صفقة القرن.

لذلك يجب ألاّ ينخدع الفلسطيني بالبريق الإعلامي لأي منظمة مستحدثة تبحث لنفسها عن موقع تمثيلي في العمق الشعبي الفلسطيني بدءاً من طرق أبوب المخيمات واستغلال ظروفها أو محاولة اختراق العقل الفلسطيني بإطلاق الوعود من أجل مستقبل مزدهر وحياة رغدة ومستويات معيشية عالية.. وكأن قضيتنا عبارة عن أزمة اقتصادية وإنسانية لا توجد لها أبعاد سياسية وقانونية، دون حديث تلك الجهات عن موقفها من الثوابت الفلسطينية في بياناتها الرسمية وميثاق العمل الذي يبرمج أعمالها ورؤيتها التي تنبعث منها الأهداف بكل مستوياتها.. تلك الثوابت الفلسطينية التي تقوم على مبدأ أن فلسطين تمثل المكان المركزي لحقوق الشعب الفلسطيني.. وهذا بحد ذاته سيسهل على الفلسطيني تقيم تلك الجهات المعنية حتى يدرجها في مكانها الصحيح.. فإما أن تمثل الواحدة منها مشروعاً وطنياً فلسطينياً حقيقياً، يكون من شأنه أن يسهم بفاعلية وبكل طاقاته المتاحة في إحياء منظمة التحرير الفلسطينية واستعادة ميثاقها الوطني من جديد، أو أنها تعتبر جزءاً خفياً من آليات تنفيذ صفقة القرن على المدى البعيد.. حيث تتجلى تلك الثوابت بالموقف من الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينية المحتلة وتنظيفها من المستوطنات، واعتماد خيار المقاومة إلى جانب النضال السياسي الحقيقي، وأن القدس الموحدة عاصمة أبدية لفلسطين.. والمطالبة الحثيثة بحق العودة وحماية الأونروا التي تمثل جزءاً من الهوية الفلسطينية حتى تحرير الأرض والإنسان، والمطالبة أيضاً بفك حصار غزة والتعامل مع القطاع كأرض فلسطينية محتلة أسوة بواقع الضفة الغربية..  ودعم المقاومة فيها بكل أشكالها المتاحة، وحماية سلاحها المقدس وتعزيز موقف مسيرات العودة الرمزية.. كذلك تعزيز روح المقاومة الإيجابية لدى الأجيال الفلسطينية المتعاقبة وعمل برامج مقاطعة اقتصادية من قبل الشركات الفلسطينية للكيان الإسرائيلي المحتل في إطار المقاومة الاقتصادية.. بحيث لا تسهم تلك المنظمة الطارئة في إخماد شعلة الثورة الكامنة في كل فلسطيني شريف، والتي تزداد جذوتها على وقع صاروخ ما تطلقه المقاومة من قطاع غزة نحو تل أبيب، أو بفعل عملية ناجحة ينفذها شاب فلسطيني أعزل مثلما فعل الشهيد عمر أبو ليلى الذي أعاد ملف القضية الفلسطينية إلى مكانته على صعيد عالمي وأوقد النهار في ليلنا المظلم الكئيب.

 وعليه ينبغي على الفلسطيني المستهدف من قبل تلك الهيئات أن يتوخى الحذر الشديد في قبول برامجها والتفاعل معها اجتماعياً وفكرياً قبل اتخاذه قرار الدخول في عضويتها أو رفضها.. لأن مبلغ الخطورة يكمن في عدد تنامي أعداد المنتسبين من الفلسطينيين إلى تلك الجهات المبهمة الأهداف ومن كافة المستويات، الأمر الذي سيكسبها شرعية قانونية، فتصول بيننا وتجول بعد ذلك دون رادع.

قبل أيام عرض علي أحد المثقفين فكرة الانضمام إلى الكونغرس الفلسطيني الاقتصادي العالمي.. الذي سجل كمنظمة فلسطينية أمريكية غير ربحية عام 1995 من أجل مساعدة الفلسطينيين في المجتمع الأمريكي، في تنسيق وتنظيم شؤونهم الثقافية والاجتماعية. واعتبارًا من يوليو 2008، أصبح لدى الكونغرس 21 فرعًا في مختلف المدن الأمريكية كما جاء في موقع إيلاف الإخباري.

ثم انطلق المشروع المسجل أمريكياً؛ لينفذ على نطاق عالمي، بجهود مؤسسه الدكتور عدنان مجلي ليغطي أماكن تواجد الفلسطينيين في إطار 140 جنسية عالمية.. وهو مشروع كنت قد تطرقت إلى فكرة مشابهة به منذ عشرة أعوام من خلال كتابي: "الفلسطينيون عصاميون في تجربة النماء عبر العالم" ولكن رؤيتي التي تضمنها الكتاب تقوم على الثوابت الفلسطينية وتعزيز الطاقة الاقتصادية الفلسطينية لدعم المقاومة بكل أشكالها من أجل خلق لوبي فلسطين عالمي متنفذ على اعتبار أن الشعب الفلسطيني لديه مقومات ذلك بكل اقتدار.. وتطرقت حينئذْ إلى التواجد الديمغرافي الفلسطيني وقدرته التنموية وثقله النوعي في ربوع العالم من خلال دراسة المئات من أبرز الشخصيات الفلسطينية ومشاريعهم الريادية الفاعلة وثقلهم المعنوي في كافة المجالات، وكان من بينهم الدكتور عدنان مجلي الذي لن أشكك في نواياه حتى لو اختلفت جذرياً مع مشروعه الذي لا أتوقع أن يكتب له النجاح لظروف موضوعية وفوق طاقته.. وجاء في كتابي أن "الدكتور عدنان مجلي طبيب فلسطيني نال جائزة رجل العام في الولايات المتحدة لعام 2008، وهو مؤسس ورئيس شركة (ترانز تك) المتخصصة في إجراء الأبحاث والاختبارات لاكتشاف دواء هام وفعال لعلاج مرض الزهايمر. ومن المفيد أن نذكر بأنه وفور الإعلان عن الاكتشاف الجديد RAGE ، وبعد مفاوضات طويلة تمكنت شركة (فايزر لصناعة الأدوية) من توقيع اتفاقية مع شركة (ترانز تك) بقيمة حوالي 155 مليون دولار حصلت بموجبها على الحقوق الكاملة لتصنيع وتسويق الدواء الجديد" (صوت العروبة).

وهذا يعني أن هذا العالم الفذ يتحرك من خلال خبرته الاقتصادية التي شكلت لديه رؤية استشرافية لتعزيز طاقات الفلسطينيين المهدورة عالمياً، وخاصة أنه صارع في أمريكا للحصول على مكانته المتميزة في ظل سيطرة اللوبي الصهيوني على القرار الأمريكي بكل تفاصيله؛ لذلك من الممكن اعتبار أن فكرة الكونغرس الفلسطيني الاقتصادي العالمي إيجابية لو ظلت مندرجة تحت عنوانها الاقتصادي رغم التحديات الكبيرة.. أما أن تتوسع في إطار منظمة فلسطينية تمثيلية شاملة الأهداف فهنا يستوجب ربطها عضوياً بالثوابت الفلسطينية التي تستهدفها صفقة القرن وتسعى لطمسها وإصابة الهوية الفلسطينية في مقتل. فموقع إيلاف لخص أهداف الكونغرس الفلسطيني الاقتصادي العالمي في "تجميع قوى الفلسطينيين في الخارج وفي الداخل الى جانب المؤسسات الفلسطينية وعلى رأسها منظمة التحرير الفلسطينية والرئاسة الفلسطينية".

ولو أمعنت النظر في هذا الهدف لوجدته إيجابياً فيما يتعلق بتجميع قوى الفلسطينيين ودعم منظمة التحرير الفلسطينية ولم يقل بأنه بديل عنها.. ولكنه مقابل ذلك ابتعد عن الثوابت الفلسطينية فيما يتعلق بدعمه للرئاسة الفلسطينية؛ لأن ذلك يعني تأييد هذا الكونغرس للسلطة الفلسطينية التي تعتبر من أخطر مخرجات أوسلو حيث تبين أنها وجدت لحماية أمن الكيان الإسرائيلي من خلال التنسيق الأمني.

في لقائه مع قناة دنيا الوطن الإخبارية تحدث الدكتور عدنان مجلي عن غزة باعتبار أنها مجرد منطقة منكوبة إنسانياً، وتشهد فقط كارثة إنسانية ويعاني شبابها من البطالة وقال بأن الحل يكمن في فتح أبواب التوظيف لهؤلاء الشباب دون الإشارة إلى جوهر الأزمة المتمثل بحصار القطاع من قبل الاحتلال الإسرائيلي وبمساهمة من مصر والسلطة الوطنية الفلسطينية للضغط عليها كي تتخلى المقاومة عن سلاحها النوعي وهذا يعد خروجاً عن ثابت مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال، وربما تحرج مجلي من الخوض في التفاصيل كون القناة التي أجرت معه المقابلة موجودة في رام الله.

وأضاف بأنه يسعى من خلال الكونغرس الفلسطيني إلى رفع مستوى معيشة فلسطينيي الداخل في ظل اقتصاد مزدهر وكأن الضفة الغربية غير محتلة، حيث تجاهل الحديث عن جوهر القضية القائمة على الاحتلال الإسرائيلي غير الشرعي.. وفي سياق المقابلة أضاف مجلي بأن الكونغرس الفلسطيني يسعى إلى ربط الاقتصاد الفلسطيني بشبكة الاقتصاد العالمي الذي يتواجد فيه الفلسطينيون (كما ذكرت في كتابي أعلاه) من خلال شركات فلسطينية ممتدة عبر القارات من خلال 140 جنسية تكون قادرة على دعم الإنسان الفلسطيني وتثبيته على أرضه. وهذا في الظروف الطبيعية، ولكن في حال القضية الفلسطينية ألا يعد هذا الطرح تكراراً لأهداف صفقة القرن حتى لو افترضنا حسن النية في ذلك.

إن حديث مجلي (العام) دون الخوض في الآليات والتفاصيل وما قد يواجه الكونغرس من تحديات، حول اعتماد الشعب الفلسطيني على نفسه للارتقاء بالاقتصاد الفلسطيني من خلال تنمية مستدامة في القطاعات العشر، وتعزيز الشراكة الفلسطينية بين الداخل والخارج، يعتبر كل ذلك أمراً حيوياً. ولكن في واقع الأمر هل سينجح الأمر دون تحرير الأرض الفلسطينية من نير الاحتلال وفق قرارات الأمم المتحدة المتعاقبة منذ القرار 242.. أو حتى بالقوة!! لأن العلاقة الفلسطينية مع الاحتلال باتت عضوية وفق سياسة الأمر الواقع التي يروج لها القائمون على صفقة القرن، وأي حديث خارج الثوابت الفلسطينية سيقدم الدعم المفتوح إلى تلك الصفقة المشؤومة.. أما فيما يتعلق بالانقسام الفلسطيني الداخلي فقد دعا مجلي إلى قيام حكومة إنقاذ وطني منتخبة وهذا بحد ذاته دخول في السياسة حيث يناقض مجلي نفسه بعد أن قال بأن علاقته مع السلطة وحماس جيدة؛ لكنه ذهب بعد ذلك إلى أن الكونغرس الفلسطيني لا يتدخل في السياسة!! لأن هدفه تنموي واقتصادي فقط.. وهذا بالطبع خروج عن المألوف لأن الاقتصاد يشكل عصب السياسة.. صحيح أنني اعتذرت لصديقي عن قبول عرضه في الانضمام إلى الكونغرس الفلسطيني الاقتصادي العالمي، بذريعة أنني أفضل أن أبقى في مربع الناقد الإيجابي دون التزام جهوي.. وعلى اعتبار أن الكونغرس الفلسطيني لم يتحرر بعد من كنف الغموض..  لذلك على الدكتور عدنان مجلي أن يحدد موقفه الرسمي من الثوابت الفلسطينية أعلاه، وينبغي في سياق ذلك عقد ندوات مفتوحة يشارك فيها خبراء فلسطينيون لمناقشة الممكن والمستحيل في هذا المشروع بعيداً عن التجاذبات الداخلية والخارجية.. وليس على الفينيق الفلسطيني إذا خَرَجَ إلاّ أن يقولَ كلمته العليا وفق ثوابت الحق الفلسطيني المكفول دولياً.. لأن إرادة الشعوب أخيراً هي القول الفصل، وتظل آخر المطاف مرتهنة إلى النوايا في عالم يعاني من أزمة الضمير.. 

 

بقلم بكر السباتين 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم