صحيفة المثقف

عودة النبي (إيليا) ما بين الوضوح اليهودي والتخبّط المسيحي

جعفر الحكيمحوارات في اللاهوت المسيحي (41)

يعتبر سفر (ملاخي) آخر أسفار التناخ، الكتاب المقدس لليهود، وبه اختتم العهد القديم، وتحديدا في الإصحاح الرابع من هذا السفر، حيث كانت الخاتمة والتي جائت على شكل توصية مهمة مع نبؤة عن علامة مهمة جدا ستسبق مجيء ملك اليهود الموعود (الماشيح

(اذكروا شريعة موسى عبدي التي أمرته بها في حوريب على كل إسرائيل الفرائض والاحكام

هانذا ارسل اليكم ايليا النبي قبل مجيء يوم الرب اليوم العظيم والمخوف يرد قلب الآباء على الأبناء وقلب الأبناء على ابائهم لئلا آتي وأضرب الأرض بلعن) سفر ملاخي 4/ 4

في هذه التوصية الختامية، نلاحظ التركيز على المحافظة على شريعة موسى بفرائضها وأحكامها

والطريف انه وبرغم هذه التوصية الأخيرة، نجد ان العقيدة المسيحية التي أنشئت بعد رحيل يسوع المسيح، قد ألغت تماما، العمل بشريعة موسى، بل وتم اعتبارها لم تعد نافعة، ولن يتبرر الانسان بالعمل وأحكامها وفرائضها، وإنما يتبرر فقط بالإيمان، حسب تعليمات بولس الرسول والتي جائت مناقضة لوصايا التناخ وتعاليمه !

إِذًا نَحْسِبُ أَنَّ الإِنْسَانَ يَتَبَرَّرُ بِالإِيمَانِ بِدُونِ أَعْمَالِ النَّامُوسِ رومية 28/3

وبالعودة الى خاتمة سفر (ملاخي) فإننا نجد آخر عددين من الإصحاح الأخير . تتحدثان عن رجوع النبي (ايليا) قبل مجيئ يوم الرب العظيم، وكيف ان هذا النبي سيقوم بعمل انجاز خلال فترة رجوعه يتمثل في إرساء الوئام والتسامح ورح الصفاء والالفة بين شعب اسرائيل، بحيث تكون ثمرة عمله واضحة ومحورية في تهيئة الشعب للمرحلة القادمة 

وقد اتفق اليهود مع المسيحيين على فهم العددين الأخيرين من سفر ملاخي على انها نبؤة عن علامة مهمة ستسبق ظهور المسيح المُخلّص، وأن النبي (ايليا) سوف يعود الى الأرض قبل ظهور المسيح ليهيئ الأمور لكي تصبح ملائمة وناضجة للشروع في العهد المسيحياني !

النبي (إيليا) هو أحد الأنبياء العظام لبني إسرائيل، واليه تنسب اسفار التناخ معاجز مهمة، وقد كان يمتاز بالزهد والصلابة في مواجهة الظلم والوثنية، ويعتقد اليهود والمسيحيون ان هذا النبي لم يمت وانما قد رفعه الله الى السماء

وفي العهد الجديد، تشير النصوص الى ان ايليا قد ظهر مع موسى حين تجليا للمسيح على الجبل .

وفيما يخص النبؤة التي اختتم بها العهد القديم، فأن الفهم اليهودي لهذه النبؤة يتلخص بشكل واضح جدا بالآتي

هذه النبؤة تخبرنا عن علامة مهمة جدا، تسبق ظهور الملك المسيح الموعود، وهي علامة عودة النبي (إيليا)، وظهوره من جديد، بحيث يكون ظهوره وانجازه واضحا ومؤثرا في المجتمع اليهودي

وبما ان النبي إيليا لم يظهر لحد الان، فهذا يعني، بكل بساطة، ان كل الذين ظهروا وادعوا أنهم مسحاء- بما فيهم يسوع الناصري - انما هم بالحقيقة مسحاء مزيفون !

...هذه كانت القراءة اليهودية

اما على الجانب المسيحي، فإننا نجد أن علامة عودة النبي ايليا كانت حاضرة في أذهان المعاصرين ليسوع الناصري

بل ان بعض معاصريه توهم ان يكون يسوع نفسه هو النبي ايليا...حتى تلاميذ يسوع، نجدهم في إصحاح (متى) يوجهون له سؤالا مباشرا عن تلك العلامة التي من المفروض ان تسبق مجيئ المسيح.

وسَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ قَائِلِينَ: فَلِمَاذَا يَقُولُ الْكَتَبَةُ: إِنَّ إِيلِيَّا يَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ أَوَّلًا؟)

فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا يَأْتِي أَوَّلًا وَيَرُدُّ كُلَّ شَيْءٍ.

وَلكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ إِيلِيَّا قَدْ جَاءَ وَلَمْ يَعْرِفُوهُ، بَلْ عَمِلُوا بِهِ كُلَّ مَا أَرَادُوا. كَذلِكَ ابْنُ الإِنْسَانِ أَيْضًا سَوْفَ يَتَأَلَّمُ مِنْهُمْ)  متى 17 -10، 11، 12

وهنا نجد ان كاتب انجيل (متى) ينسب الى المسيح جوابا مبهما، يحوي على غموض ومطاطية تسمح بتفسيره على اكثر من معنى ! (ايليا جاء ولم يعرفوه

بينما نجد في نفس الانجيل وفي الإصحاح 11 كلام ليسوع الناصري يتحدث فيه عن يوحنا المعمدان ويصفه بشكل مباشر بأنه هو (ايليا) المزمع ان يأتي

وَمِنْ أَيَّامِ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ إِلَى الآنَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ يُغْصَبُ، وَالْغَاصِبُونَ يَخْتَطِفُونَهُ

لأَنَّ جَمِيعَ الأَنْبِيَاءِ وَالنَّامُوسَ إِلَى يُوحَنَّا تَنَبَّأُوا

وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَقْبَلُوا، فَهذَا هُوَ إِيلِيَّا الْمُزْمِعُ أَنْ يَأْتِيَ) متى 11/14

و يظهر لنا، مما تقدم، ان يسوع الناصري كان يشير الى اتباعه ومعاصريه بشكل مباشر، واحيانا غير مباشر، على ان نبؤة العهد القديم حول عودة النبي ايليا قد تحققت بشخص يوحنا المعمدان !

ويبدو ان هذه النظرة قد انتشرت وسرت في اوساط اليهود وقتذاك !

لذلك نجد في نصوص انجيل (يوحنا) ان اليهود أرسلوا من أورشليم، كهنة ولاويين، ليسألوا يوحنا المعمدان، ويتأكدوا منه حول شخصه… فنفى لهم بأن يكون هو المسيح الموعود

وكذلك نفى ان يكون هو النبي إيليا !! يوحنا 1/21

فَسَأَلُوهُ: إِذًا مَاذَا؟ إِيلِيَّا أَنْتَ؟» فَقَالَ: «لَسْتُ أَنَا. «أَلنَّبِيُّ أَنْتَ؟» فَأَجَابَ: «لاَ»

وبين نفي يوحنا المعمدان ان يكون هو النبي إيليا، وتأكيد يسوع الناصري على ان المعمدان هو ايليا !! حصل التخبّط والتناقض في الفهم المسيحي لهذه العلامة !

ولأن الحاجة هي ام الاختراع! ..كان لابد من اختراع تأويل مناسب يجمع بين التناقضين ويخرج بتفسير يضمن تحقق علامة رجوع ايليا قبل ظهور يسوع الناصري، حتى وان كان ايليا لم يرجع في الواقع!!

هنا نجد كاتب إنجيل لوقا يخرج لنا بأختراع لافت لغرض ترقيع الفتق في القصة المسيحانية

فكان ان ادعى هذا الكاتب ان النبي ايليا رجع على شكل روح حلت على يوحنا المعمدان !!! لوقا 1/17

وهذه التخريجة الطريفة، وان كانت تبدو ذكية، لكنها في الحقيقة، ساذجة وتدعو للسخرية والتعجب !

والسبب هو أن النبوءة المذكورة في سفر ملاخي كانت تتحدث بشكل واضح ومباشر عن عودة (إيليا) بنفسه، وليس عن

روحه، بل وسيكون لعودته وعمله اثار ونتائج ملموسة على الارض

وكذلك نجد ان يوحنا المعمدان عندما سألوه ان كان هو إيليا النبي ؟

أجاب بشكل واضح وقاطع ب: لا

ولم يقل لهم أنا لست ايليا ...ولكن روح إيليا قد حلت عَليّ !!

وفي جانب آخر نجد بعض اللاهوتيين عندما يقفون على موضوعة علامة عودة النبي ايليا يحاولون الخلط بين هذه النبؤة الخاصة بالنبي ايليا وبين عبارة أخرى، تتحدث عن (صوت صارخ في البرية)، ويحاولون من خلال خلط الاوراق، احداث تمويه لغرض إيصال القارئ الى نتيجة بان هذا التوصيف الذي وصف به (يوحنا المعمدان) نفسه هو نبوءة في العهد القديم، مما يؤكد ان (يوحنا المعمدان) هو (إيليا) النبي

لكن هذا نوع من التضليل ينكشف بسرعة ويتهافت من خلال الرجوع الى نصوص التناخ، حيث نجد ان هذه العبارة وردت في الإصحاح الاربعين من سفر (اشعيا)، ولا تتحدث عن النبي (ايليا) اساسا، وانما تتحدث عن علامة أخرى، هي عبارة عن صوت صارخ في البرية !، ولم يشر الاصحاح الى موضوع عودة النبي (ايليا) اصلا !

ومع عدم نجاعة التفسيرات المسيحية المتقدمة، ولخطورة عدم إثبات تحقق العلامة المهمة التي تسبق ظهور المسيح، وتأثير ذلك على مصداقية الادعاء بمسيحانية يسوع الناصري، نجد بعض اللاهوتيين المسيحيين يلجأون الى السلاح الأخير الذي يهرعون اليه عندما تُغلق المنافذ امام تأويلاتهم !! ...وأعني هنا ..اللجوء الى اسطورة المجيء الثاني للمسيح

حيث يتم تفسير عدم تحقق أهم علامة دالة على مصداقية المسيح بأن هذه العلامة سوف تتحقق - لاحقا - عند المجيئ الثاني للمسيح !!.. وقتها سيسبقه النبي ايليا !!

وهنا يأتي الرد اليهودي بشكل واضح ولا يخلو من الدهاء على هذه الازعومة المسيحية الطريفة !

حيث نجد اليهود يردون على هذا الطرح بأنه ليس هناك في نصوص كتابنا المقدس شئ اسمه المجيئ الثاني ولا يوجد اي نبؤة تتعلق بالمسيح تتحدث عن ظهور أول وظهور ثاني !!

ويضيف اليهود:

ان الادعاء المسيحي بان بعض علامات وانجازات المسيح التي أشارت إليها نصوص التناخ سوف ينجزها ويحققها يسوع الناصري بعد رجوعه الثاني لهو أكبر دليل كافٍ على ان يسوع الناصري هو مسيح مزيّف لم يستطع ان يحقق التنبؤات الخاصة بالمسيح الموعود والمنصوص عليها في الكتاب المقدس !

وأما الادعاء المسيحي حول المجيئ الثاني فهو لا يعدو كونه طلب فرصة ثانية لتحقيق ما فشل يسوع في تحقيقه خلال حياته... وهذه الفرصة لو اعطيت ليسوع الناصري ...فمن باب الإنصاف أن تعطى، ايضا لقرابة الخمسين شخصا، كلهم ادعوا المسيحانية ايضا، وانتهى بهم الامر كما انتهى بيسوع الناصري بمواجهة مصيرا دمويا ومشؤوما، حيث كان مصيرهم القتل اما صلبا او بالسيف !!

وبين القراءة اليهودية لهذه النبؤة والعلامة المفصلية حول ظهور المسيح والتي تتسم بالوضوح والاتساق

والقراءة المسيحية لنفس الموضوع والذي تتسم بالانتقائية والتخبّط وخلط المفاهيم تبرز لنا حقيقة واحدة مهمة جدا وخطيرة وهي

ان أهم علامة على ظهور المسيح لم تحدث... لحد الآن

ولازال اليهود ينتظرون تحققها قبل مجيئ مسيحهم الموعود، وبنفس الوقت، لازال المسيحيون ينتظرون تحققها قبل المجيء الثاني لمسيحهم المصلوب !

وبذلك نخلص الى نتيجة خطيرة ومحورية ...هي

ان النبي (ايليا) لم يرجع من السماء ...الى يومنا هذا !!

وان العلامة التي ينبغي أن تسبق ظهور المسيح الموعود.. لم تتحقق بعد !

 

د. جعفر الحكيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم