صحيفة المثقف

تجلياتُ الرؤيا الصوفيّة ضمن فضاء النصِّ الشعري في: أطفئيني بنارك للشاعر يحيى السماوي

اياد خضير الشمريتعدُّ تجربة الشاعر يحيى السماوي في ديوانه (أطفئيني بناركِ) تجربة ذات مستويات متعدّدة فالنص الشعري ليس مجرد نفثات وجدانية تعكس لنا تجربةً ذاتية بل هو ناتج عن تفاعلٍ موضوعي بكل سياقاته التاريخية والمعرفية متفاعل مع ذات الشاعر التي تشاكلت مع هذه البنى لتكوّن منظومة معرفية بتحويل التجربة الذاتية للشاعر إلى موضوع تأملي يتحول إلى مفهوم ويكون امتداداً أصيلاً متواشجاً مع إرث الشاعر الثقافي الذي حلّ واتّحد بأيقوناته الشعرية التي هي امتداد ملتزم تعكس انتماء نصه الشعري لمن سبق ونمو متناغم مع مسيرة الحداثة والحياة فالقصيدة عند يحيى السماوي بقيت هويتها المرجعية منتميةً إلى الجنس الأدبي الذي انبثقت منه فهو شاعر متمسكٌ بتقاليد الشعر وروحه وموسيقاه وكأنه يجسد قول تِ- سِ- أليوت: (الشاعر الكبير هو الذي يذكّرك بسابقيه) فنصوص الشاعر كانت ذات ذخيرة فاعلة بما يضيء في هيكلها من خطوط سياقية مألوفة لدى القارئ الواعي لذلك تجعل من فعل القراءة تفاعلاً بين ذات الشاعر وذات القارئ من خلال هذه الذخيرة التي تشكل منطقة مألوفة في النص بِدءًا من عتبات عنونة قصائده إلى بعض ما يشترك فيه الشاعر مع معاصريه من وعي بثيمات تراثية غنية الإشارات الدلالية فجاء النص الشعري ممتصاً للكثير من السياقات التراثية التي تضيء إدراكنا بفهم المغزى البعيد والذي يكون بعد تأويل وتفسير مما يعكس غنى نصوص الشاعر وثرائها المعرفي على الرغم مما فيها من حسّ شعري مرهف وموسيقى تفتح من قاعدة النص أفقاً إيحائياً وتكون هذه النصوص الشعرية ذات لغة صوفية من خلال القاموس الصوفي الذي تجلت عباراته العرفانية في بنى القصائد اللغوية لتكون نقاطاً دلالية مضيئة تتجاوز معانيها العميقة حدود النص الشعري:

أطلقتُ قلبي..

وانتظرتُ..

فلم يعد!!

خارت قواي

وكدتُ أرميني إلى حيث القرار..

فصاح " صوفائيل " بيْ

انهض وغذّ النبضَ

نحو ظلال نخلتك الأمينةْ

.

وأقم حضارتك الجديدة

حيث لا ماء سوى الصلواتِ..

لا خبز سوى القبلات..

لا حربٌ

سوى حرب المحبة والضياء

على الدياجي والضغينةْ

ص92/93

804 سماوي

إنّ الوحدة العضوية للقصيدة تتمحور حول بؤرة مركزية تربط النسيج الشعري في القصيدة ببناه اللغوية المكثفة وتكون هذه البؤرة في جلّ قصائد الديوان هي (المرأة) التي تتجلى بهيئات متعددة تتشاكل معها بثيمات دلالية فهي النخلة الطهور والمدينة الفاضلة والملاذ فمفهوم المرأة يتخطى معناها الوجودي ليحل ويتحد مع كل موجودات الشاعر بهذا التماهي الصوفي في رؤية المجرد من خلال المرئي وهي تتجسد في قصائده علة فاعلة ومحدثة وبذات الوقت يكون وجودها في وجود الشاعر علة غائية لذا انفرد الديوان بعتبة عنوان مكثف(أطفئيني بنارك) يعتمد على الإزاحة والمفارقة التي تثير الدهشة وتهيئ القارئ لانفتاح مخيلته واندماج وعيه مع تيارات الديوان النصيّة وكذلك أن توظيف الشاعر لمجازية (فعل الأمر: أطفئيني ) والذي خرج من معناه ( الحقيقي: أي طلب القيام بالفعل) إلى معنى (مجازي غير حقيقي وهو يعني: الإلتماس والرجاء)، واللافت أنه لا توجد من ضمن قصائد الديوان قصيدة تحمل هذا العنوان وكأنه عنوان وشفرة مركزية لكل الديوان فقصائده المتعددة تجتمع وتتمحور حول هذه البنية النصية فالديوان رؤية كلية متكوّنة من أجزاء ليكون الجزء يدل على الكل والكل يدل على الجزء وهذا مفهوم رؤيوي صوفي يشرح تفاصيل الوجود وفق هذا السياق الذي يجعل من نصوص الشاعر وحدات تعبيرية تسبر لنا أعماق الذات الإنسانية وصراعاتها بخطٍّ زمني متعدد الاتجاهات لذلك كان خطاب الشاعر في قصائده وحدات عضوية حية ترتبط بالسياق الزماني والمكاني والاجتماعي فقصائد الشاعر اعتمدت على فكرة التطبيع وذلك باحتلالها مكاناً في العالم الذي تحدده ثقافتنا فثيمات قصائده جعلت من قصائده مألوفة لدى المتلقي في وسط الشاعر الثقافي:

حاولتُ أرسمُ نخلة الله الجليلةِ

فانتهيت إلى سطورٍ

لستُ أفهم ما العلاقة بينها

مكتوبةٍ بالضوء في ورق الهواء..

النخلةُ:

العشق الحنيف / الماء / سدرة واحة الملكوت/

واللغة الجديدةْ

.

أحيتْ رماد الصوت في تابوتِ حنجرتي

وأنبضتِ القصيدة ْ  ص54/55

أو في قوله في قصيدة (عيناي نائمتان لكن النوافذ ساهرة )

فوجدتُ

أن ألذها كان احتراقي في مياهكِ

وانطفاؤكِ في لهيبي..

واكتشفت خطيئتي كانت صلاتي

قبل إدماني التهجد في رحابك

كافرةْ

.

وعرفت أن جميع آلهة المدينة

والدعاة إلى الصلاة سماسرةْ

.

والقائمين بأمر أرغفة الجياع

بدار دجلة والفرات

أباطرةْ ص8/ 9

 

لقد تمظهرت في بنى قصائد يحيى تجليات احتشاد ذاكرته الشعرية بالمفردات والصيغ السياقية التي تنتمي إلى المعجم العرفاني الصوفي ذي المنظومة الترميزية الذي أزاح المفردات والتراكيب من معانيها المعجمية إلى معانٍ اصطلاحية ذات إشارات متعددة المستويات المعرفية فنجد الشاعر باستخدامه لهذه المفردات والتراكيب كان على وعي بوظائفها الدلالية وتوهجها الرمزي لتتمظهر ذات الشاعر العارفة والمتلاشية بدوامات الامتزاج الكوني، فلقصيدته بنيتان (البنية السطحية ) التي تقودنا بتأملها وإدراكها إلى مغزى (البنية العميقة) ولكل بنية دور فالخطاب الشعري عند الشاعر حينما يتمحور في إطار الرؤية الصوفية نجد أن القاموس الشعري يختلف ليتجه نحو التراكيب المتعددة المستويات ويكون هناك معانٍ كامنة تشكل وجوداً موازياً لخارطة النص الكتابية ويتجلى الوجود الإستنباطي من خلال تزاحم البناء الشكلي بالإشارات الترميزية التي تحمل شفرات متعددة تحيل القارئ الواعي إلى أفق متخيل:

أنا أنتِ .. أنتِ أنا..

كلانا

“ الدّالُ " من " ياءٍ " و " نون”!

.

أنا أنتِ .. أنتِ أنا..

كتابُ السرّ

مفضوح المتونِ..

.

أنا أنتِ .. أنتِ أنا

حروفٌ لم تزلْ

في طورِ سِينِ! ص 110/109

أو في التراكيب المتفرقة من قصيدة الشاعر ذات البناء الصوفي (قديسة الشفتين:

(  فأنا بها

المتهجدُ .. الضلّيلُ..

والحرُّ المكبّلُ بالهوى القديس .. والعبد الطليقْ

.

وأنا اللهيبُ البارد النيران..

والماء الذي أمواجه

تغوي بساتين اللذائذ بالحريقْ:

.

فلتنجدي حلاّجك

المحكوم بالصلب المؤجّل..

أنجديه عسى ينشّ السعفُ عن صحن الفراتِ الجوع..

والقنديل في ديجور دجلة يستفيق ص /59/60

إنّ الوعي بالتراث يختلف من شاعر لآخر لأنّ هذا الوعي يجعل من تجربة الشاعر أكثر عمقاً وتأثيراً في المتلقي فالتراث هو إرث معرفي تكاملت فيه عناصر المقدمة والنتيجة لذا يلتقط الشاعر من تراثه ما يتطابق ورؤيته الآنية لواقعه وتكون المعرفة الجمعية بالحادثة التاريخية نقطة توهج دلالي تمنح النسيج الشعري تماسكاً وبعداً يمتد من الماضي إلى الحاضر ويستشرف من خلال التقاط ثيمة تراثية معينة آفاق المستقبل وهذا ما يجعل العمل الإبداعي فسيفساء نتجت من أثر سابق واجتمعت فيها مؤثرات الموروث الظاهرة والكامنة لتحقق أثراً لاحقاً وتفاعلاً نصيّاً بنصوص لم يخلقها الإبداع الذاتي سواءٌ كانت لذات الشاعر أو الذوات التي ستتأثر بتجربته لهذا ندرك التجليات التراثية في تجربة الشاعر ومطابقتها لمقتضيات بناء النص الشعري لتشكل نقاط حثٍّ دلالي في بنية النص فنجد توظيف الشاعر لبعض الثيمات التراثية من قصص الأنبياء مثل قصة النبي يوسف الصديق وغدر إخوته به:

فالطريقُ معبّدُ بالجمر

ترقبه الضباعُ

وما تبقى من سلالة "إخوة الصديق يوسف "

والذئاب الغادرةْ  ص6

أو من خلال التناص مع قصة النبي موسى مع بنتي النبي شعيب:

سأزيد بالربح الوفيرِ

فجرّبي أن تؤجّريني..

.

سأكون "موسى" كِ الجديدَ

وخير ناطورٍ خدينِ..  ص 120

إنّ الشاعر يحيى السماوي شاعر ممتلئٌ بفيوض الشعر المقدسة وينتمي بأصالة إلى وادي عبقر وشيطان شعره حاضر في تجربته الشعرية فهو يمتلك جذوة الشعر وعمق التجربة الحياتية مع الوعي والمعرفة الواعية بالصنعة الشعرية ومدرك لأسرار اللغة وكيفية تشكيل التراكيب الشعرية المموسقة التي توضع في نوطات عروضية لتشكل جملاً شعرية نغمية غنية المعنى عميقة الدلالة فهو شاعر يحمل وعاء الشعر المقدس ليقدم فيه معانٍ إنسانية ونفثات ذاتية وقصائده ذات بصمة وراثية تنتمي في جذورها لفن الشعر كجنس أدبي له هوية تمايزه عن فن النثر ليكون الشعر عنده شكلاً أصيلاً لا ينفصل عن جذوره الضاربة في أعماق إرث الشاعر الثقافي ومعبراً عن صراعات الشاعر الوجدانية التي تشترك بثيماتها مع تجارب المتلقي ويحقق قصدية الكتابة من التأثير والتأثر فإيحائية الجملة الشعرية تجعل لكل متلقٍ تأويله لما في الجملة الشعرية من طاقة إيحائية متعددة المستويات والتي تشترك مع تجارب المتلقين المختلفة وتلتقي معهم في نقاط وصل وجدانية وهذا ما يعكس غنى النص الشعري من حيث ذخيرته المألوفة لدى الذوات المختلفة التي تتفاعل مع النص والشكل الشعري ببنائه المعماري الذي حمل كل مكونات الشعر المضمونية والشكلية وكان الشكل الشعري ذو بناء عضوي متماسك يتكون من تراكيب ومفردات مكثفة تختزل الكثير من المعاني وذو صيغ موجزة ذات إيقاع وزني يتناغم مع الحالة الشعورية لفاعل النص وتكون ذات طاقة تأثيرية في المتلقي فامتدادات بحر الكامل وترددات الرجز النغمية جاءت ضمن منظومة أسلوبية وصيغ بلاغية تتطابق مع ملامح الشعر الحقيقية فقد أورد الشاعر معانية بطرق بلاغية متعددة من استعارات موحية وكنايات معبرة وتشكيل متقن للصورة الشعرية التي ضمنها يتحرك الجامد وتتراسل الحواس وتنتقل الوظائف الحسية وفق المفارقة والإدهاش اللغوي:

هيّأتُ في سرداب ذاكرتي

سريراً بارد النيران مسعور الندى..

ومن السفرجل والأقاح وسادةً..

وملاءةً ضوئية

طرزتها بهديل فاختةٍ..

ومبخرة من الشبق الأثيمْ ..ص 41/42

أو في التشكيل الشعري الذي يولّد معانٍ جديدة تتوالد بواسطة منظومة تركيبية تعيد تشكيل معاني المفردة وتطبيعها ضمن بنية النص الشعري:

شمسٌ خضّبت بالضحكة العذراء

أوتار الربابة

فاصطفاها القائمون إلى صلاة العشق

مئذنة..

وشمسٌ نورها الصوفيُّ

أكثر خضرة من بُردة الفردوس

أسرى بي شذاها نحو مملكة الرحيق  ص 57/58

يضاف إلى ذلك التكنيك اللغوي الذي يقوم على صياغة وحدات لغوية تتمظهر في تشكيل شعري يعتمد المفارقة من خلال إزاحة التضاد القاموسي إلى الترادف الشعري وتشكيل تركيب مألوف شعرياً ضمن الأفق المتخيل من قاعدة النص ولا يعتمد وجوده على ما يقابله في العالم الواقعي بل يكون مألوفاً ضمن الوجود الشعري الذي يكسر توقع المتلقي الإدراكي وقدرته اللغوية:

الماءُ أعطشني

فهل لي من سرابكِ رشفة

تحيي رمادَ غدي؟

الشواطئُ أوصدتْ أنهارها..

والنبعُ فرَّ...

وليس من حبلٍ لأدلوَ

من سلافة بئر واديك العميقْ  ص60

لقد كانت قراءتنا النقدية لتجربة شعرية مرّت بمراحل متعددة وتفاعلت مع أحداث ماضية في عقود سابقة تركت ظلالها على حياة الشاعر والبيئة التي ينتمي إليها وسطعت تجلياتها في نتاج الشاعر وأكسبت تجربته الشعرية وعياً ونضوجاً إبداعياً ومنحته رؤية وجودية للحاضر من خلال ذخيرته المعرفية والإبداعية التي تشكّلت عبر السنين الماضية لنجد انثيالاتها في إيقوناته الشعرية ونلمس انزياحاتها ضمن بنية نصه الشعري فالاغتراب الوجودي والتماهي الإنساني مع جراحات وعذابات وطنٍ ذبيح يتوحّد ويحل في وجدان الشاعر ويحمله الشاعر أينما حلّ ويشعر بنبضات أنين بنيه المعذبين وإن كان المتلقي يجد للوهلة الأولى طابع الغزل والعشق الصوفي المتوحد مع المعشوق عنصراً محورياً في نصوص الشاعر لكنه عندما يستغرق في تأمل أبعاد النص يجد عشقاً ممزوجاً بوجع وطن ومشبعاً بنفثات الغربة والحنين إلى مرابع بغداد ونخيل السماوة وكأنّ كل ما يعشقه الشاعر ويصبو للقائه يتجسد في (ثنائية المرأة والوطن) الذي تتموضع في وجوده كلّ موجودات الشاعر التي حفرت في وهاد روحه أطلالها ودمنها لذلك كانت تجربة الشاعر يحيى السماوي تجربة شعرية ذات مغازٍ عميقة تستحق القراءة المتأملة والمدركة لأبعاد نصوصه الشعرية الوارفة والمختزلة لأزمنة وأمكنة بقيت حاضرة في وجدان الشاعر النابض بالأسى.

 

أياد خضير الشمري

................................

ديوان (أطفئيني بناركِ) الطبعة الأولى 2013يقع في 162صفحة من الحجم المتوسط ويضم 22 قصيدة صادر عن دار تموز للطباعة والنشر دمشق - سورية.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم