صحيفة المثقف

الكوكب الخفي

قصي الشيخ عسكررواية من الخيال العلمي

الفصل الأول

تابعت عيناه باهتمام عقارب الساعة الكونية الممتدة أمامه فوق التراتب الضوئي عبر الأفق المترامي الأطراف، وازداد قلقه حين اهتزت المركبة هزة عنيفة ثم غيرت مسارها منحرفة قليلا باتجاه الجنوب. كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحا حسب توقيت عموم الكون المتحرر من نظام الكواكب والتوقيت الأرضي المألوف.قبل لحظات كان مشغولا بما يجري على الأرض من تغيير، وتساءل وهو عائد إلى  هناك ترى ما الذي سيكون عليه شكل الأرض بعد سقوط الكتلة الشرقية وطغيان نظام ذي قطب واحد؟

لم يكن أحد ليصدق أن شعبا بمئات الملايين يتمرد  علىحكم قاس صارم اختاره قبل سبعين سنة وينتفض على نظام أوصله إلى الفضاء قبل غيره من الأنظمة الأخرى فجعل له السيادة المطلقة في أن يتحكم بالكون. لاأحد ينكر فضل السوفيت في غزو الفضاء أو الروس كما يحلو له أن يسميهم لكن العبرة في النتيجة التي جعلت من ثقافة الكابوي والتنس ومنتجات العلكة وورق المحارم تنتصر في نهاية الأمر!

الساعة اللوحة التي تعكس توقيت الطرف الشرقي لدرب التبانة تشير إلى الوقت بدقة وشاشة المركبة الصغيرة المثبتة باتجاه الزاوية اليسرى  القريبة من ساعده لم تشر إلى خطأ ما أو احتمال خطر كبير. فتساءل من أين جاءت الهزات حتى إنه فكر أن يتصل بالسيد" آرنولد بيزاري" مدير المحطة الرئيسية فوق سطح الكوكب " القزم" لكنه لم يستلم الرد ، فراودته فكرة أن يخرج من الوسائد الهوائية ماصة الصدمات  ويتحرر من الكرسي لكن انطباعات صوت دوبير جوليه  جاءته واضحة بعد أكثر من دقيقة:

هل هناك من شيء؟

غموض آخر يواجهه.. .طلب السيد بيزاري في الكوكب القزم وإذا بالأرض تتحدث على لسان جوليه  استغراب يدوم لحظات.لقد ترك في المحطة  الرئيسية المدير آرنولد بيزاري وإذا به يفاجأ بصوت آخر ظنه قادما من جنيف:

من أنت هل السيد بيزاري موجود؟

أنا دوبير جوليه من الكوكب القزم!

فعلت صوته رجفة:

غير معقول

ستفهم فيما بعد إطمئن ليس هناك من شيء!

حقيقة مايسمعه أم اختراق روسي وتجسس مبهم. الروس بلا شك يمتلكون تقتنية فضائية عالية وقد ترك بيزاري في المحطة فكيف حل جوليه محله؟

اهتزاز وارتجاج .

لم ألحظ شيئا.

هل أنت متاكد؟

نعم سطح المركبة الخارجي بخير

أني أراه جيدا عبر المرآة العاكسة هو بالفعل مثلما تقول.

واستطرد مباشرة في سؤاله:

لماذا إذن كل هذا؟

لاتفسير سوى أن يكون الاهتزاز بفعل جاذبية بعض النيازك التي تسير معك في نفس الاتجاه والسرعة.

فجأة انقطع صوت السيد جوليه  وبدا أن شيئا ما يحدث.أمر غامض وإن لم ينبيء عن خطر محتمل.. لم يرد أن يستبق الأحداث فالتفاتة منه إلى المرآة العاكسة لسطح المركبة أكدت له بلا شك أن الجسد الخارجي سليم مائة بالمائة. كان جل مايخشاه النيازك المتناثرة في الفضاء. حذره العلماء منها وهو على الارض وحذره منها السيد هايفن ميلر الذي سبقه في الوصول إلى الفضاء ببضعة أشهر، وعاشرها وهو في طريقه إلى يمين مجرة درب التبانة التي أعادت إليه ذاكرته ساطعة قوية  إلى زمن بعيد قبل أن يعود إلى مركز المجرة ليواصل بحوثه الجديدة في ذلك الطرف الشرقي البعيد.

غير أنه ارتآى أن يخرج ليفحص سطح المركبة الخارجي، فارتدى بدلته الواقية وأطلق نظرة جانبية من النافذة الصغيرة في الجانب الأيمن من المركبة فامتدت عيناه  إلى صورة غريبة لم ير مثلها من قبل. هل ضل الطريق حقا؟ البوصلة.. أجهزة المركبة الحساسة.. الألواح الضوئية ..كل شيء على مايرام هناك كوكب آخر لازوردي اللون هائل الحجم أشبه بالبيضة  يمتد على بعد خطوات ضوئية من عينيه. أمامه على اللوح صفحة الفضاء وخريطة الكواكب ثم التوابع، فمن أين اقتحم عليه الكوكب  الجديد عوالمه أهو من ماض سحيق مات ومازال يعيش حتى وصل إلى عينيه في هذه اللحظة.. ثم ظهور السيد " جوليه " المفاجيء في القاعدة على الكوكب القزم واختفاء صوت السيد "بيزاري  " يعني أن هناك أمرا غامضا في أسوأ حالاته يكون امتزاج المستقبل الذي يقوده زميله " هايفن ميلر " بالماضي من دون أن يترشح في لحظة الحاضر.كانت عيناه مأخوذتين بالدائرة اللازوردية  والشكل البيضوي الرشيق  والدوران غيرالمعقول باتجاه معاكس لحركة الكون.هو الكوكب الوحيد الذي يجري باتجاه معاكس لحركة الكون المتناغمة بمجرى واحد. راودته فكرة أن يتقدم نحوه ويتحسسه عن قرب وربما هبط فوق سطحه فاشار إلى زر اللوح واتجه منزلقا بخطوة كونية ضوئيه في تلك اللحظة  تراجع الكوكب مسافة تقارب ما تقدمه  من مدى نحوه.رجع بمركبته إلى الخلف فتقدم الكوكب ومابين التقدم والتراجع لمحها من خلف الزجاج  الواقي. كانت تقف في الفضاء فظنها ترسل إليه بانعكاس دقيق لصورتها. لم تتكلم، فهتف مبهورالأنفاس:

 ضحى!

لزم الصمت لحظة من هول المفاجأة ثم هتف ثانية:

ضحى!

إنها السنوات الثلاثون الماضية.. زمن قديم.. حركة ..فإشارة من السوفيت. هم الذين دمغوا على المركبة إشارات ارتجاجية ظنها خللا ما، وربما هم الذين غيروا ذبذبات الإشارة فجعلوه يسمع صوت" جوليه   "  بدلا من صوت المدير "بيزاري   " لديهم القدرة على التلاعب في الفضاء أكثر من السويسريين والإمريكان واليابانيين. مع ذلك لم يظهر منهم أي سلوك عدواني إلى الآن، ساوره ارتياح لوجود عالمة عراقية رائدة فضاء بينهم من زملائه السابقين في جامعة البصرة.وفق تلك الافتراضات ترك الفتحة العلوية في وضع انفراج دائم تحسبا لأي خلل يطرأ على الفتحة الجانبية التي تشكل مع النافذة مدخلا يوصله بيسر إلى سطح المركبة وهم أن يرتدي بدلته حين سمع صوتها وهي تهبط من الفتحة العلوية التي أعدها قبل قليل للطواريء:

لاداعي للمغامرة أنا جئتك بنفسي!

لم تلق نظرة على مابداخل المركبة كأن كل شيء لايعنيها أو كأنها عرفت محتوياتها من قبل. هواجس دقيقة تجعله يشك في كونها تسللت إلى المكان ساعة ما في غفلة من أجهزة المراقبة.. كل شيء جاهز واللعبة أصبحت واضحة.. أمران لاثالث لهما إما أن يكون عمل تجسس أو حبا قديما أزاحت تجارب الفضاء النقاب عنه فانكشف المستور وكانت هناك دهشة وسكون....

رهبة..... لحظات بعمق الكون!

خليل العمران  العبقري الطالب الاقدم الذي قال عنه البرفيسور العراقي الأمريكي صاحب فكرة تكوين مجلس الطلبة النوابغ إنه ممكن أن يصبح آينشتاين عصره إذا توفرت له الظروف المناسبة...سوف يحصل على درجة أرفع مما وصل إليها العبقري عبد الجبار عبد الله لكن خليلا  بعد التخرج أنزوى مدرسا في ثانوية..الأناقة لم تخف آثار السنوات المرعبة عن وجهه ولاتعبا تكور بين كتفيه فلاح مثل بعير عجوز يسير في التيه إلى حيث لايدري و...هي هي لم تتغير منذ السنوات الثلاث التي عايشها فيها إلى هذه اللحظة الحرجة الحساسة المليئة بلقاء غير متوقع... هل كنت جادا حين فكرت بالتخلي عنها هربا من عيون طلبة الاتحاد الوطني ليرافقها خليل العمران؟! مازالت تحتفظ بشبابها وحيويتها.السنوات الثلاثون التي أشاعت التجاعيد في وجهه ونشرت الشيب بشعره تركتها كأنها لم تمر عليها.. أنيقة لاتتناسب حدتها وأناقتها، سمراء قبل أن تصبح واحدة من المتجردات .. فهل جارت ممثلات السينما والمغنيات في تغيير الملامح والتطاول على السنين لكن بياض بشرتها وبريق جسدها يبعثان في نفسه هاجسا ثقيلا وشكا يخيم بظلاله على التقنية الروسية وعلم الفضاء المتطور زمن الاتحاد السوفيتي الذي لايستبعد قط بعدما رآى أنهم توصلوا إلى اختراع مادة على شكل بودر لاصق أو زيت شفاف شديد البياض مانع للعوامل الخارجية من حرارة وأشعة وضغط  يطلي به رائد الفضاء جسده فيخرج مباشرة إلى الفضاء من دونما حاجة إلى بدلة يالهذا العملاق الروسي الهائل اخترق الفضاء قبل غيره وتحكم بالفراغ والابعاد فاسقطته رغبة امرأة ودت أن تعلك وشاب حن إلى سروال كابوي:

ضحى هل يعقل هذا؟

رغبة.. لهفة.. شوق إلى ضمها أطاح به ولو إلى حين تغير سحنتها تحت غلاف من الطلاء، فما أشد شوقه لسحنة سمراءأطلت بها  في أول لقاء.. صدمته حقا حين رآى  صليبا يتأرجح من عنقها على فتحة قميصها النهدي.. مفاجأة.. .بماذا يحدثها عن نفسه ؟اللون الأسمر.. الإسم.. لون العينين. ليست هناك من إشارة تدل في شكلها أو اسمها على مسيحيتها هل يقول إنه لم يتزوج وهاهو الآن في الخمسين من عمره. لم يعرف النساء في العراق.. عزف عن الذهاب إلى مدن البغاء و بعد سفره عاشر صديقات اختفين من حياته فاختلفت السنين على وجوهن حتى يكاد  لايعرف أيا منهن حين يلتقيها مصادفة بعد فراق طويل لولا خاطر هنا أو لمحة باهتة هناك  أما هي فمازالت في أوج شبابها على الرغم من أنها تصغره بعام أو عامين.. كاد يحتويها بين ذراعيه قبل أن تتراجع:

ألم تحاول أن تستدعيني؟

هل كنت تحبينني؟

 لحظة صمت ثم أشارت إلى جهة النافذة:

لاتقلق هل ترغب أن تستقر هناك؟

  الكوكب اللازوردي!

هكذا تراه أنت؟

نعم هذا لونه!

قد يراه غيرك بلون آخر!

وهل ترينه غير ذلك؟

دعك من هذا الآن!

الكوكب الجديد الذي أخفيته عن عين العالم كله  فلم يره من قبل في السماء إذ خلت في الظاهر منه خارطة الفضاء .. أية مخلوقة أنتِ؟هل حقا شاء القدر أن تبدأي البحث نفسه في استرجاع الماضي قبل أن أباشره لتلقي  القبض على كوكب ميت تلاشى وانتهى كيف استللته قبلي  من مكان مجهول للعيون وكنت أود لوأطلع العالم عليه وحدي  وأسميه باسمي.والغريب أنك تغالطينني الآن بلونك ولونه كيف حدث الأمر  وكنت من قبل بدأت التجربة على الأرض قبلك يشهد بذلك قسم الفيزياء في جامعة البصرة وثقب المغسلة .. كلماتكِ مازالت ترن بأذني أنت برجوازي .. تفكيركَ برجوازي وهذا لاينفي أنك خارق الذكاء سوف تصبح عالما كبيرا..قاسية أنت وناعمة وأنت الآن تسبقينني في التجربة وتكتشفين كوكبا تحجبينه عن العالم..أقصى مايذهب إليه ظني أنك تدعين النخبة إليه  غرض أن تخلقي فوقه حياة جديدة لامنغصات فيها كما هو الحال على الأرض..دعينا من كل شيء الآن.لقد تصفحت الماضي فأدركت أني أحبك ولم أكن أعرف .كان البحث والدراسة يلغيان أحاسيسي والدرس والسياسة يستهلكان وقتك أما الآن فأقول لك بصراحة إني أحبك!

مازالت تلوذ بالصمت وتتمعن بوجهه. سر مخفي ينضوي بين عينيها لاتبوح به في هذه اللحظة ربما خشيتها عليه من أجهزة الروس الحساسة مثلما كان يخشى عليها وهو على الأرض من مخابرات السلطة ، فانتبه واستدرك:

على الرغم مما حدث فإني تابعت أخبارك فعرفت أنك هاجرت إلى الاتحاد السوفيتي بعد الحملة على الشيوعيين ثم انقطعت عني أخبارك أقول حسنا فعلت فالعرا..

وتوقف كأنه امتنع عن التلميح بسبب  عناد فطرت عليه.رهانها على استيعاب المناوئين..العنف في العراق.. القتل والجرائم..الإبادة الجماعية.. وهاهي ترى البلد الذي هاجرت إليه يتفكك فتأتي إليه لتذهب معه أم ترى قصدته  ليرافقها في مشوار لانهائي فوق كوكب مجهول يراه بلون وتبصره بآخر ، مع ذلك هم أن يضمها ثانية فابتعدت قائلة:

دع الأمر الآن!

انتبه من مشاعر محمومة جرفته بعيدا وتذكر أن للسن حقها فقال:

معذرة الشيء الذي غفلت عنه في الأرض سنين كشفت لك عنه في السماء في هذا المكان اللامتناهي لأن المشاعر غير متناهية أيضا لكني اتساءل كيف استطعتم أن تخفوا عن العالم كله كوكبا مثل الكوكب اللازوردي أو هكذا أراه  فقد ظننت أني أول رائد كوني يستدل عليه حتى فكرت أن أطلق عليه اسمي!

هل تحب أن تعرفه:

بلاشك؟

ويكون لك مكان فيه؟

امرأة عنيدة مكابرة صاحبة مبدأ تستطيع أن تتغلب على عواطفها ذات مواهب عقلية نادرة  ولولا هذه الصفات القوية لما اختارها السوفيات لتقيم في الفضاء شأنها شأن أية باحثة روسية تبعث إليها الأرض بموجات من الرواد الجدد تدربهم في محطة مير أو غيرها من محطات سرية ربما يكشف عنها تفكك  الاتحاد السوفيتي في المستقبل القريب الذي يحاول زميله في رحلة البحث العلمي "هايفن ملر " أن يقبض عليه في الطرف الآخر:

يسرني ذلك

إذن دع ذلك إلى لقاء آخر!

 

الفصل الثاني

كان هناك أكثر من رأي يميل إلى إلغاء البحوث في مجرة درب التبانة ثم العودة إلى سويسرا بخاصة ما ذهب إليه السيد" آرنولد بيزاري" مسوغا ذلك بحجج قد تبدو مقنعة إلى حد ما،فصغر حجم الكوكب"القزم"  الذي يعادل ثلثي حجم الأرض وكثافة الأوكسجين وشحة الأمطار  وتراوح الأشعة الكونية عليه بين الشدة والخفوت خلال اليوم الواحد كلها عوامل يمكن أن تؤدي إلى أعراض لمرض يصيب  القلب وأمراض تنفس وجفاف تظهر على رواد الفضاء بعد عودتهم إلى الأرض على المدى البعيد لكن إصرار إدارة المركز الأرضي الرئيس  في أن استمرار البحوث من على سطح ذلك الكوكب وسط المجرة  يتيح للمحطة مراقبة مجرتنا من الطرفين الشرقي الذي يبدو أكثر سطوعا والغربي المائل للون البنفسجي.ويبدو أن مرونة الكوكب القزم للحياة تكمن في مطابقته لظروف الحياة على الأرض بنسبة السبعين في المائة ذلك ما جعل علماء سويسرا يعتقدون أن الإبقاء عليه بحوزتهم يقودهم إلى فتوحات كونية أخرى بتكاليف أقل فأقروا فكرة الإبقاء على المحطة وقللوا من النفقات وعدد الكادر متمسكين بكون الكوكب يمثل سرة المجرة بكاملها!

  كان السيد " آرنولد بيزاري" مدير المحطة متحمسا للعمل والمراقبة ومواصلة التجارب والبحوث إذ بدا سعيدا بمنصبه الجديد الذي استلمه قبل بضعة أشهر والحق إنه شجع العمل والمراقبة من داخل المركز أو ضمن حدود مجموعة الكوكب القزم لكنه أبدى تبرما حين علم أن السيدين " هايفن ميلر" و" بهاء الخالد" يرومان التوجه شرقا وغربا لمتابعة بحوثهما مما جعله عرضة لانتقاد زميليه العالمين الباحثين في المركز.

كان في البدء - وفق استنتاج الزميلين - يتحمس للبحث في قلب المجرة ومراقبة الطرفين الشرقي والغربي من على موقعه  من دون الهجرة إليهما والانفعال مع معطيات ذلك البعد!

لاينكر" بهاء الخالد" أن بحوثه في مراقبة شرق المجرة من على سطح الكوكب " القزم " استغرقت وقتا اجتمعت فيه التجربة والتأمل..وامتزج العلم بالمنحى الصوفي القديم وإلا كيف يقضي رائد الفضاء فترة طويلة يراقب من دون أن يتجرد ولو لحظات عن محيطه المحسوس وحماسه العلمي الواقعي؟ هذا الغبار كنا نظنه نحن العلماء مجرد تكدس لكويكبات صغيرة بعيدة يخيل لمن يراها عن بعد أنها سحابة تغطي شرق المجرة في حين دلت التجربة الجديدة على أنها تأين الذكريات.. الماضي بالضبط مثله مثل هواء ساكن فوق رمال هادئة ..حين تستطع الشمس الحارقة نراه وهجا  يتحرك إلى الأعلى ونكاد نلمسه بعيوننا عن بعد أما إذا ماوقف العالم الكوني رائد الفضاء أياما يتطلع بعينية المجردتين تارة وتارة أخرى بمساعدة أجهزة يراقب منها  الغبار اللانهائي فإنه يكتشف سطوع الذاكرة وتوهجها نحو الماضي فيذكر كل التفاصيل بحسب قدمها وأيضا وفق هجرته معها في خط متواز فهي بالتالي ليست كويكبات صغيرة تتكدس في درب التبانة أوظلالا لكواكب كبيرة بل هي ماض متأين ولكي يتحقق من تجربته عليه أن يبقى قريبا من مقدمة التأين فيصبح ماضيا ثم يعيد صياغة الماضي بشكل يتفق مع مايطمح إليه!

لقد أدرك تماما بوضح لايقبل الشك أنه في موقعه على الكوكب القزم من خلال يقين التأمل البحت بمساعدة أجهزة الرؤيا والمراقبة والتتبع والتنصت ذات الحساسية الفائقة أنه يقدر  أن يعود إلى الماضي أو يعود به الزمن وفق حسابات دقيقة تقاس بالثواني والدقائق والشهور،كل يوم أرضي في المركبة يعود به إلى ستة أشهر شرط ألا تغفل عيناه وفكره عن مكان التأين أما إذا وقف في شرق المجرة عند تكدس الآيونات الزمنية فإن الزمان يعود به إلى بعد أعمق، وأخصب فترة يستطيع أن يوافيها هي فترة الشباب يوم كان طالبا بجامعة البصرة حيث أيام البحث والدراسة والجد.

زمن إلغاء النفس والعواطف من أجل البحث!

فهل يعود ثلاثين عاما ليكشف عما خفي من نفسه طول تلك المدة الطويلة!

قبل اللقاء الثلاثي انفرد بصديقه الألماني الذي راودته فكرة اكتشاف المستقبل." بهاء الخالد يضع الماضي مكان  الحاضر والمستقبل" و " هايفن ميلر" يرحِّل المستقبل إلى الماضي. عملية تبادل مواقع للزمن. كان حريصا على ألا يستعرض جميع معلوماته والتفاصيل الدقيقة لأي كشف جديد بخاصة مدير المحطة الإيطالي الذي يتحفظ كثيرا على الماضي ولايفضل أن تصبح السنين المتقادمة كتابا مفتوحا يمكن أن يقرأه الجميع:

إني أوافقك في المضي في التجربة فقد نلتقي أنا واياك إن تجربتنا لابد أن تترشح من خلال الحاضر.

قال الألماني ذلك وابتسم وهو يكرع بعض السوائل:

كل مايدهشني أن صديقنا الإيطالي لايحبذ فكرة الخوض في غمار المستقبل ولا الرجوع إلى الماضي!

فضحك الالماني ضحكة ذات معنى واندفع:

أنا أدركت السر ، بالمصادفة استثارني لقبه، أصوله الإيطالية جذبتني فتابعتها  من خلال اطلاعي على سيرة عائلته التي هي نفس أسرة الشهير ألدو مورو الذي اغتالته في الستينيات الألوية الحمراء.

معقول؟

هذا هو الواقع..كان صديقنا خلال الحادث في زيارة لأقاربه فكاد يتعرض لاختطاف أعدت له مافيات سيسيليا لكنه في الوقت نفسه شاهد بعينيه مجازر مرعبة اقترفتها المافيات بحق بعض أفراد عائلته كل هذا جعله يخشى من الماضي الذي ارتسم في مخيلته بصورة قاتل نهم يحب الدماء!

إني أشفق عليه غير أننا بصفتنا علماء نسعى إلى تحقيق أكبر قدر من السعادة للبشرية يلزمنا البحث العلمي في أن نتخلى عن عواطفنا ومشاعرنا " واكد متحمسا" القضايا الشخصية شيء والبحث العلمي أمر آخر مختلف تماما!

لقد دافع السيد" الخالد" عن موقفه بحماس فهو يرى من الناحية العلمية أن الاتجاه شرقا يمنحنا سطوعا أكثر  لتكاثف المغناطيسية الكونية في درب التبانة عند تلك النقطة مما يجعل رائد الفضائد الذي يتوجه إلى  هناك يعيش ماضيه بسطوع تام. كان على يقين من أن جاذبية الضوء تتغلغل في جاذبية الفضاء فتتسرب إلى أجسادنا وتنفعل بأعماقنا إلى درجة أننا نعيش الحدث الماضي كما هو وكلما طال بقاؤنا تحت التجربة عند نقطة الشرق فإننا نوغل في الماضي أكثر وأكثر إذ يتوازى مع حاضرنا ويتوازى فيه،وقد أجرى تجربته في أحد الكواكب بعيدا عن الكوكب "القزم " ظل هناك في مركبته أكثر من شهر وتفاعل مع التيارات والجاذبية فعاش التوازي وكاد يصل إلى مرحلة الاندماج. كان يقول قبل بدء التجربة إن الاتجاه نحو غرب مجرة درب التبانة يمنحنا فرصة لحاق المستقبل لكن لا عن طريق الاندماج كما يحدث للماضي حين نتجه شرقا بل عبر التوازي فقط وهذا ما يجعل محاولاتنا كلها أشبه بالأضغاث لأن تيارات الجاذبية تخف كلما اتجهنا غربا ونحن بحاجة إلى تكثيف الضغط بالضبط مثلما فعل ماركوني في تجربته البدائية مع الصوت حين ضغطه ثلاثمائة مرة في الدقيقة ..من هنا بدت حقيقة اتفاقه مع "  هايفن ميلر" و اختلافه مع السيد" بيزاري  " وقد فاجأه  بقوله قبل أن يحسم السيد هايفن الموقف:

ماذا لو انقلب عليك الماضي؟

ماذا تقصد بكلمة الانقلاب؟

أن يقتلك ينتقم منك يفتك بك؟

عقدة نقص خوف من الرجوع إلى  طفولة عاصرت الموت وتفاد لاحتمال مأساة  :

هذا تأويل خيالي للعلم فنحن بلا شك خلال التجربة يمكن أن نواجه لحظة واحدة متجردة تضم في ثناياها الغامضة في حالة الغياب الواضحة في التكرار مليارات البشر والأشجار والحشرات كل الكائنات على الأرض كل مخفي وظاهر ساكن ومتحرك فنختار مانشاء ونعيد صياغته من جديد!

لكن أي مدّ هائج سوف ينتظرنا من مستقبل وماض يندفع كلاهما نحونا باتجاه واحد؟

تقويم من عالم  أقرب إلى الصدمة منه  إلى أي استنتاج علمي: من يرجع إلى الماضي يواجه الموت ومن يخترق المستقبل يصبح معتوها.تشاؤم  من غير حدود وتحذير في غير محله. صحيح إن ابحاث  رواد الفضاء تعتمد على التقارير العلمية الموثوقة والتجارب العملية التي لاتقبل اي خطأ يمكن أن يؤدي إلى فقدان المليارات فضلا عن الخسائر في الأرواح مع ذلك تبدو بعض التجارب العلمية كأنها تسير بخط متواز مع  الأساطير. السيد" بيزاري  " المشهور بدقته العلمية أسس مشروعا لنفق تحت الأرض في مدينة جنيف حاكى هناك داخله  تجربة تماثل انفجارا كونيا يختص بمجموعتنا الشمية. كان يحاول متحمسا من خلال تلك التجربة الكشف عن كروموسومات الكون. ولم يقر له قرار حتى أقام تجربته.أليست تجربة النفق ذاتها عودة للماضي.. لحظتها بقي الزمن بعيدا عن الانتقام ولم تتحول الدقائق إلى وحش كاسر بل كان "بيزاري " مطمئنا إلى كل شيء وواثقا من تجربته المتعلقة بإعادة الماضي  مادام يقوم بها على الأرض أما زميلاه  فإنهما يغامران لانهما في الفضاء. لااتجاهات تحددهما..لايمين ..لايسار..لاسند لهما إلا قوة الجذب الكوني التي قد تكون- في حالة التجربة-  أضعف من شد جاذبية القمر للأرض التي لاينتج عنها إلا ظاهرة المد والجزر.

بقي الاثنان صامتين ثم ازدرد ريقه  وفتح قنينة ماء ابتلع نصفها والقى نظرة عبر نافذة المركبة على أفق وردي يتماوج من بعيد واسترسل:أما المستقبل فهو بذرة كامنة لم تؤكد حضورها بعد مثل أية بذرة نراقبها وهي تنمو بإمكاننا  نقلها فننهي حياتها أو ندعها تستمر وتلك هي نقطة ضعف المستقبل قد يبدو لنا قويا ماحقا نهابه ونحذره لكنه ضعيف بسبب ازدواجيته تلك وفي الحقيقة هو أضعف من الماضي الذي لانخافه لذلك يكون انتقامه اقل قسوة من ماض خبرنا وعاش فينا وادرك كل مافينا.

قال بهاء : يبدو لي أنك تبالغ قليلا لا أقصد أنك تفتعل المبالغة غير أنك تقع فيها من دون تعمد.

هذه المرة التفت إلى الألماني قائلا:

بأي اتجاه أسير وأنا هنا في مكاني حين تتجه أنت نحو غرب المجرة؟

فهز السيد" ميلر "رأسه بعد تأمل:

الاتجاه متواز لأني أخطو نحو المستقبل وأنت أيضا يشملك المستقبل.

فاندفع خارجا عن هدوئه المعتاد وبرودة أعصابه، واشار بإصعبه إلى بهاء:

أما أنت فتسير نحو الماضي سواء عبر موقعك في شرق المجرة أو من خلال التأمل والتعرض لمختلف الموجات، في هذه الحالة لايمكنك أن تسحب العالم كله نحو الماضي. أنا أجلس هنا حركتي نحو الآتي تضاد حركتك. كيف أعود معك إلى زمن الدراسة.بأية طريقة  يعود العالم كله مع ذلك اقول مادام مركز البحوث يعتمد على رأي الأغلبية في المواضيع العلمية البحتة فلكل منكما حرية الاختيار صوتان مقابل صوت ومعكما المركز الارضي أيضا.

للمرة الأولى شعرا بعاطفة الإيطالي تتغلب على عقله. كان يفكر بالعالم قبل نفسه في حال ما إذا جذب أي منهما الأرض بقوة من زمنها  إلى  ماض أو قفز بها إلى مستقبل قريب..حرق مرحلة قد يؤدي إلى الجنون أو الموت، وهذا تصور سلبي سابق لاضرورة له ..هناك وقع جديد للحياة ظهر الآن تستسيغه أذنك وتستطيبه عيناك فأين يكون العالم  إذا ذهب أي واحد منا وحده إلى ماض أو مستقبل ما؟

للمرة الأولى تتغير ملامح  السيد " بيزاري" بشكل واضح.. بدا اصفرار على وجهه وتعب، ولاحظ زميلاه أنه كرع الماء أكثر من مرة وحرك يديه المرتعشتين حركات غير دقيقة ثم يستسلم تماما:

أنتما عالمان متمرسان في اختصاصكما ورأي اثنين يفوق رأي الفرد هل اتفقتما على أن تبدآ الرحلة معا أم..

قالها وهو يزدرد ريقه كأنه يعاني من صعوبة في البلع،فأجاب الألماني:

سوف ننطلق في وقت واحد!

متى؟

غدا مع نهاية دورة الكوكب القزم!

فغادر مكتبه  إلى قيادة القمرة ليتاكد من صلاحية الأجهزة وكفاءة الاتصالات السمعية والمرئية  استعدادا للرحلة ذات الاتجاهين وهو يتمتم مع نفسه:

هل يجران الكون كله معهما إلى زمن مسخ مركب من ماض ومستقبل حاضر فأكون أنا في مكان آخر عشته من قبل أو سأعيشه كما يرغب السيد"  ميلر "؟

قال ذلك وقد بدأ الإحباط منه مداه!

 

قصي الشيخ عسكر

.........................

ملاحظة

على الرغم من أن رواية الخيال العلمي تعد لا قيمة لها بنظر الكثيرين لاسيما الكبير المرحوم نجيب محفوظ إلا أنني وجدتني أندفع في حقبة ما للتجريب فيها بإطار جديد هو أن أعكس الصراع الذي يعيشه العالم على الأرض في الفضاء فأجعله مرآة لأرضنا، من هذا المنطلق تناولت مسألة القمع ي العراق مابعد عام 19678 وفكرة الرواية أن هناك طالبا متفوقا من طلاب جامعة البصرة يصبح رائد فضائد في سويسرا بعد أن يحصل على بعثة هناك لتفوقه وفي الفضاء يجد طالبة عراقية يسارية متفوقة يعتقد أنها هاجرت إلى الاتحاد السوفيتي وحصلت على هذه المنزلة ومن خلال الفضاء والعودة إلى جامعة البصرة والقمع والتبعيث تمتزج لحقية بالخيال وسوف أنتظر رأي القاريء الكريم بعد أن أتمّ نشر حلقات هذه الرواية التي كتبتها خلال انحلال الاتحاد السوفيتي وتفككه في أن أبقيها فتحل في كتاب ذات يوم أم ألغيها إكراما للكتاب الذين عفُّوا عن الكتابة في الخيال العلمي.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم