صحيفة المثقف

تروبيكالية (١) رواية: ليلة سقوط جلولاء

صفاء الصالحيعلى غرار الروايات مابعد الحداثية وبتقنية الميتا فكشن قدم الروائي العراقي تحسين كرمياني منجزه الإبداعي الحادي والعشرين، والتاسع في حقل الرواية بعنوان " ليلة سقوط جلولاء "، الصادرة عن دار سطور للنشر والتوزيع عام2019، اربعة أعوام (دسمبر 2014- اكتوبر2018) أستهلكت من وقت الأديب ومجهوده ليحكم نسجها في الصياغة والإحكام، وإخراجها بهذا الشكل الحداثوي، وقبل التنقيب عن الثيمات المطمورة التي دفنها الكاتب لنبحث عنها، واقتحام اغوار النص وفتح مغاليقه لابد من التحليل السيميائي للعتاب الاولى (الغلاف، والعنوان، والإهداء)، كيمياء الصورة لغلاف الكتاب : لوحة تشكيلية لباب ذا صبغة تاريخية، موصد متين رغم خشبه المتهري دلالة على شموخ وعراقة السجل التاريخي للوطن المفقود . أما العنوان " ليلة سقوط جلولاء " فيه إشارات لافتة تلقي بظلال سلطتها على المتلقي وتثير العديد من علامات الأستفهام في ذهنه وتدفعه الى الدخول في عالم النص بحثاً عن إجابات لأسئلته، كما يفصح عما في النص ويدل على محتواه العام، ويحيل القارئ الى الفضاء الجغرافي للرواية مدينة جلولاء بيئة الكاتب وواقعه المعاش التي يعتبرها المصدر الرئيسي في إستلهام افكاره الحكائية قبل ان يدخلها معمل الخيال. وفي الإهداء (الى جلولاء .. كولالة .. قرغان ..أرضاً أناساً بلا إستثناء .. قديماً، حاضراً، مستقبلاً سواءً بسواء .ص5)، فيه محاولة من الرواي أحياء قيم الأنتماء والولاء لمدينة جلولاء في نفوس من توطن فيها الأجيال من عرب وأكراد وتركمان، ومحاولة منه في معالجة أزمات متفاقمة حلت بها . وقبل بلوغ نوافذ الولوج الى غرفة الحكاية يستهل الكاتب روايته بمقولات متنوعة لمشاهير عالميين فيها من الإشارات لمضامين الرواية .الثيمة المحورية للرواية التشبث بالوطن واحياء روح الانتماء اليه وتجلى ذلك بعد إعلان السارد الأول بطل الرواية "زوراب الأحدي" (لذا سأعلن ولائي ومن غير تردد أو تأجيل، لما سيقره عقلي، ويجب أن أطيع، سأسكن المسحيل.. سابقى عاشقاص وعشيقا للمكان ص30) . وتدور أحداث الرواية حول شخصية زوراب الأحدي من مواليد يوم الأحد والمتزوج يوم الأحد، وفي يوم الأحد فقد زوجته وابنتاه، وبذات اليوم استشهد . وزوراب الشخصية الأصيلة التي المتجذرة التي عاشت في المدينة، ورفضت مغادرتها حتى بعد إستيلاء المسلحين عليها، بعد ما فقد بسبب الحرب عائلته المتكونة من زوجته (كولالة) التي دفنها في مقبرة المدينة ومعها أبنتاه الوحيدتان (نداء، ورواء)، وفي محاولة منه الانعتاق من أغلال الواقع القهري لجا الى جزء من شهوة الحياة عنده "الكتابة"، وقرر تدوين ما يعيشه ووأن يكتب ما حدث، وما سيحدث وقبل أن تنهي حياته بالمصير التراجيدي المفجع حينما وضعت رصاصة صديقة حداً لحياته، وثمة شخصية ثانية رئيسية تأتي بالمرتبة الثانية بعد شخصية زوراب الاحدي هي شخصية السارد الثاني ويبرز دوره بعد ما تلاسنت الألسن عن تخلف زوراب الأحدي عن قوافل الخارجيم من المدينة، وعثوره مع جثة زوراب على كشكول مفكك الأوراق قد أكلت بقع الدم الكثير من أوراقه، فيلملم الأوراق ويقرر أن يخوض أنقاذ حكايته، فيعيد السارد الثاني أنتاج نصوص السارد الأول بطريقة فلاش باك يعود فيه بالمتلقي الى ماضي السارد الاول البطل الرئيسي للرواية ويشكل مستوى سردي جديد عجائبي غرائبي لاسيما في في حكاية كابوس النهر (وقبل بيان الخيط أول الفجر، تدافعت الجموع البشرية، وربما رأيت كما رأيت كم نَفَر كان يرفع سكيناً، أو هراوة أو منجلاً، أكتاف تضرب اكتاف والغبار بدأ يلف البلدة، تناهقت الحمير، وتنابحت الكلاب، وتصريحات الديكة، قيامة غير مسبوقة، كأنها أعلنت بيعتها، أو نفخت اْبواق النفير لإدامة زخم الغيرة في الأبدان العاطلة من الخطوط الخلفية، ص١٧٥)، بتقنية "الميتافكشن" وما وراء القص، ومن غير أن يتخلى عن العالم الواقعي مقابل المتع النرجسية للخيال، وهو ينتقل من خلال فعل الذاكرة وبناء المشاهد الحية بين ازمنة متعددة وأمكنة واقعية مختلفة، ويوهم القارئ بأنه يقرأ احداث حقيقية واناس واقعيين حينما يشير الى فعل الكتابة والى حياة الكاتب مما يترك أنطباعات لدى القارئ بان الحياة االواقعية قد أنزلقت الى عالم الرواية لاسيما بإدخاله ضمن بنية المتخيل السردي شخصيات واقعية حية معروفة على الساحة الادبية أمثال الشاعر والمترجم جلال زنكابادي (حزمة نور سحبتني وأوقفتني أمام نافذة متهالكة، ألقيت نظرة، وجدت كاتب البلدة وباحثها، ذلك الكاتب العجيب، جلال زنكابادي منكباً على طاولته ..ص167)، وكذلك يمارس السارد الثاني النقد داخل النص السردي تنظيراً ونقداً، والحديث عن الكتاب وهمومها وتحدياتها داخل فضاء الرواية ص9، ويمرر من خلال لعبته السردية خطابات متعددة تحمل في طياتها نقداً للواقع السايسي والأجتماعي الذي اغرق الوطن في عرض الفوضى . وبالإضافة الى الشخصيتين الرئيسيتين هناك شخصيات ثانوية تعطي القصة بعدها الحكائي وتعتبر أداة ووسيلة الكاتب للتعبير عن رؤيته، مثل شخصية (عباس، وابو حازم) التي تقع ضمن شخصيات ثانوية فاعلة إستذكارية يكمن دورها في ربط اجزاء العمل السردي، وأداة من تنشيط ذاكرة القارئ، وأيقونات جيل الطيبين المعروف بالطيبة والغيرة وحب الخير وحب الوطن، وشخصية الاخرس الشاب الموهوب من أهل البلدة الذي عشق القرآءة والماركسية، فعقر لسانه في سراديب الأمن، لكن ظل قلماً ناطقاً، وكان نافذة الكاتب في اقحام وتدوين تغريداته في السوشيال ميديا الة عالم الرواية، وكذلك شخصية الاستاذ هاني مدرس التاريخ الذي اقحم في الرواية ليكون نافذة الكاتب التي أشر فيها الى العلاقة بين التاريخ والمكان، وبالإضافة الى ما ذكر من شخصيات هناك شخصيات غير مؤنسنة في الرواية مثل شخصية " خمبابا " وهي محكاة لشخصية خمبابا في ملحمة كلكامش (الكائن الاسطوري الذي كان يحمي غابات الأرز)، ويبرز في الرواية كناية عن الرأسمالية المتعددة الجنسيات " أمريكا " صاحبة النزوات العدوانية التدميرية الساعية الى السيطرة على الكون والتلاعب بالسلوك الانساني، وبالإضافة الى خمبابا كائن خيالي آخر غريب يسكن داخل بطل الرواية ويظهر على شكل أمرأة عمد الكاتب إدخالها كصوت أنثوي في لتحقيق التوازن في نوع الجنس في الرواية وكان موفقاً في تحقيق الموازنة المطلوبة في الرواية . وأما البناء الجمالي للنص أستند في تشكيل معماره العديد من التقانات السردية، والوصفية ووالحوارية، وبلغة يسيرة لا تحتاج الى تأمل عميق في محاولة فك رموزها .

أن رواية "ليلة سقوط جلولاء" رواية تروبيكالية بتجسيد جمالي وفني على مستوى اللغة والتعبير تنوعت فيه الأساليب السردية، وبإستكهان لايخيب ستحقق الرواية نجاحاً على صعيد المبيعات والترجمة، كما ستحقق هذه الرواية حضورها على المستويين الأكاديمي والنقدي ووآمل أن تقدم الى جائزة لتنافس وتفوز .

 

صفاء الصالحي

...........................

الهوامش

١- التروبيكالية: مفردة عجائبية توارد في الادب الامريكي اللاتيني وكان يتغنى بها الكاتب الكولمبي غابريل غارتيا ماركيز عندما يريد ان يعبر عن حالة مثالية تعجز الكلمات التعبير عنها، وقد أشار اليها الكاتب في هوامش الرواية .

‏‫

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم