صحيفة المثقف

9 نيسان.. من جمهورية الخوف لجمهورية الفواجع

قاسم حسين صالحغمر الفرح وجوه معظم العراقيين بنهاية جمهورية الخوف في (9 نيسان /ابريل 2003) بالخلاص من طاغية مرعب مستبشرين بجمهورية الديمقراطية والعدل الاجتماعي والخلاص من الحروب والاستمتاع بالحياة كباقي الشعوب. ما كانوا يتصورون بالمطلق ان ذاك التاسع من نيسان سيكون بوابة الفواجع والأحزان، وما كانوا يتوقعون انهم سيقتل بعضهم بعضا ويخسرون عشرات الآلاف في سنتين(2006-2008) .. وتذهب احلامهم ادراج الرياح وتتضاءل آمالهم حتى من ابسط اصلاح.

وما حصل قدّم دروسا تشكّل وثيقة تؤرخ لواحدة من أصعب المراحل التي مرّ بها العراق في تاريخه الذي ينفرد بقساوة حروبه وحماقة أبشعها.وكان اول درس سيكولوجي- اجتماعي (نيساني) قدمه العراق للمجتمعات المعاصرة .. نصوغه بما يشبه النظرية:

(اذا انهارت الدولة وتعطّل القانون وصارت الحياة فوضى .. شاع الخوف بين الناس وتفرقوا الى مجاميع تتحكم بسلوكهم الحاجة الى البقاء، فيلجئون الى مصدر قوة أو جماعة تحميهم ، ويحصل بينهما ما يشبه العقد ، يقوم على مبدأ الحماية المتبادلة).

وكان هذا هو التحوّل السيكولوجي الأول الذي حصل للعراقيين بعيد مزاج الفرح الذي شاع بين معظم العراقيين بالخلاص من الدكتاتورية. فلقد كان شيئا أشبه بالخيال ان يستيقظ العراقيون صباح ذاك التاسع من نيسان وقد وجدوا انفسهم انهم تخلصوا من كابوس رهيب جثم على صدورهم ربع قرن.ومن شهد ذاك اليوم يتذكر ذلك الرجل الذي مسك صورة صدام وهو يضربها بالنعال ويخاطب العالم بانفعال: (ياناس ياعالم هذا مجرم دمّر العراق وقتل العراقيين) .. وأوصل رسالة عفوية – للعرب بشكل خاص – أنهم لم يفهموا بشاعة ما جرى للعراقيين على يديه.

كان فرح العراقيين معجونا بدهشة أن ما حصل يصعب تصديقه.فللمرة الأولى في تاريخهم يفرح العراقيون بالقضاء على حاكم دمّر وطنهم وأذلّهم وقتل أبناءهم في حروب حمقاء وفي سجون مظلمة، وشرّدهم بين من احتمى بالجبال والأهوار ومن غادر الوطن. وكان هو الحاكم العراقي الوحيد في تاريخ العراق الذي سجل أعلى الأرقام في ترمّيل النساء وتيتيم ألأطفال وفي جعل المهندسين خريجي الجامعات يبيعون (اللبلبي) في الشتاء و(الموطه) في الصيف في صنعاء وعمان وهم أبناء أغنى بلد في العالم!.

ويعلمنا الدرس أن خيمة الدولة اذا سقطت (حتى اذا كان نظام الحكم فيها دكتاتوريا)، ولا توجد خيمة اخرى تجمع أهل الوطن، فان الناس يصابون بالذعر مدفوعين ب "الحاجة الى البقاء" فيتفرّقون بين من يلجأ الى عشيرة أو مرجعية دينية، أو تجمع مديني أو سكني، أو تشكيلات سياسية أو كتل بهذه الصفة او تلك. وكانت تلك هي الخدمة التي وظّفها الطائفيون بذكاء خبيث ليمنحهم (نيسان) فرصة الأستفراد بالسلطة والثروة.

وما حصل كان يحكمه قانون اجتماعي، هو: (اذا انهارت الدوله انهار معها الولاء للوطن وتفرق الناس على ولاءات لطوائف وكيانات تحميها). وتفرّق العراقيون بين من لجأ الى عشيرته، او مدينته، اوقوميته، او جماعة دينه. وكان اقوى هذه الولاءات وأخطرها هو الولاء للطائفة.فالشيعة كانوا مدفوعين بسيكولوجيا المظلومية، وادعاء بالأكثرية، وحصتهم بمجلس الحكم هي الأكبر، دفعتهم الى ان تكون الدولة لهم وبأمرهم، فيما اراد السنّة استعادة الدولة التي كانت بيدهم من عام 1922، مدفوعين بسكولوجيا الضحية .. وكانت الحصيلة عشرات الآف الضحايا الأبرياء .. بينهم من قتل لسبب بمنتهى السخافة .. لأن اسمه (حيدر او عمر!).

الموجع أكثر أن الذين غمرهم الفرح بالخلاص من صدام، صاروا الآن يترحمون عليه، ليس فقط لأن ما حلّ بهم من مصائب وفواجع واحتراب هي اقسى وأوجع مما اصابهم زمن الطاغية، بل ولكارثة أوجع هي ان الذين استلموا السلطة اعتبروا العراق غنيمة لهم فتقاسموه فيما بينهم، وأنهم أساءوا في حكمهم الى اثمن قيمتين عند العراقيين:القيم الأخلاقية بأن حولوا الفساد من فعل كان يعدّ خزيا الى شطارة وانتهاز فرص، فعطّلوا الضمير عن التأنيب وعن اعتبار نهب المال العام حراما ، والى الدين بأن اوصلوا الناس الى ان يهتفوا في تظاهراتهم (باسم الدين باكونه الحراميه).

وخاتمة الفواجع ان بين الحرامية من يضفون القدسية على انفسهم ويحظون بجماهير عريضة في مفارقة ما حصلت!. وان رئيس الوزراء الجديد الذي وعد سلفه بضرب الفاسدين بيد من حديد,,وماضرب .. اعلن هو الآخر ان الأمر قد وصل الى أن من يتقدم بالشكوى على فاسد سيتحول الى متهم! .. وبها أوصل العراقيون الى قناعة بأن التاسع من نيسان صار ولاّد فواجع، وانهم يخشون أن ياتي يوم سيترحمون فيه على فواجعهم كما ترحموا على طاغية زمانهم!.

 

أ.د.قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

أمين عام تجمع عقول

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم