صحيفة المثقف

العمق الحيواني للبشر.. تحليل تمظهرات الحيوانية المستبطنة

رائد عبيسلا تحيط بالنفس وعوالمها مداركنا، أو افكارنا، أو تصوراتنا، أو تحليلنا، أو تفسيرنا، أوفلسفتنا، أوعلمنا، أوتجاربنا، بل وحتى ديننا؛ لان الدين عد النفس او الروح أحد أسرار الخلق الحي، وهذا ما جاء في القرآن ونهي عنه النبي، إذ قطع الجدال حول البحث الدائم عن أسرار لم يرد للبشر الوصول إليها ومعرفتها. فبقي كنها غامض مجهول مبهم لا نعرف مصدر هذا المزيج الروحي والنفسي الذي يتبلور داخل عوالم النفس وما تنتجه من سلوك وتفاعلات مع الجسم الحاوي لها.

السؤال الذي ممكن أن ننطلق منه هو من المسؤول عن إنتاج الأخلاق النفس ام العقل؟

هذا السؤال يدخلنا في نقاشات موسعة عن أمر نجهله، ولكن لا نجهل ما يصدر منهما ونقصد بذلك الأخلاق. فالأخلاق ممكن تشخيص سلبياتها من إيجابياتها وعليها نحكم على النفس أو العقل الذي يحمله الشخص.

لا يمكن لنا أن نرجح انتاج الفعل الأخلاقي بعامل أحادي البعد، بنسبه للنفس أو نسبه للعقل، بل كليهما مسؤولان عن إنتاج الأخلاق، كيف؟ بما أن هناك امر متفق عليه بين البشر وهو الوسطية اي لا إفراط ولا تفريط وهو مبدأ حاكم للسلوك الإنساني بسلبه وايجابه، وهو من يمنحنا القدرة على تشخيص الأخلاق ، متى ما تصدر من العقل أو النفس، أو عبر قناعة ضميرية محاكمة الى مراجعة النفس وحاجاتها، وما تطلبه على وفق مبدأ الوسطية، أو مراجعة حكم العقل، وما يقرره اتجاه بعض الأفعال اي لمحاولات دائمة ومستمرة، لتحقيق توازن وتنظيم بين متطلبات كل منهما. وهذا ما جاء في الحديث وحكم الأولياء وما نقله ابو الدرداء نقلا عن سلمان الفارسي للنبي قوله : " أن لجسمك عليك حق، ولنفسك عليك حق، ولأهلك عليك حق" وهو الحديث الذي باركه الرسول وصدقه عن سلمان.

فالنفس وتوصيفاتها القرآنية وتقسيماتها الفلسفية، والعقل وطاقته المعرفية والمنطقية والخيالية مسؤولان عن إنتاج الأخلاق بدون طرفي الشر. وكل انحياز أو ميل نحو الإفراط في القوى العقلية أو النفسية، يعد انحرافا عن مبدأ الوسطية. وعندها يقترب الإنسان من الحيوانية المستبطنة به وبداخله اذا لم يحكمها بهذه الوسطية.

فالنفس البشرية تربطها بعالمها، سواء كان الكون برمته، أو عالم الطبيعة فقط، أو عالم البشر، أو حتى عالمها الداخلي، علاقات معقدة ممكن أن تفسر تفسير ثلاثي، وينتج عنه تفرعات مختلفة ايضا، منها علاقة النفس بعلم البارسايكولوجي أو علاقتها بالعلم البايولوجي أو علاقاتها بعالم الفيزيولوجي، هذه العلوم والعوالم متحكمة بالنفس الى حد كبير وعميق ومؤثر تفكيراً وسلوكاً وانفعالاً، ينتج عن هذا المزيج أفكار غريبة، وسلوكيات جامحة، ومشاعر منحرفة، وقناعات مزيفة، وشذوذ وغيره، وكل ما يفعله البشر، ويتقبل فعله، أو كلامه إنما يعد من المتجاوزات لحكم العقل و موضوعيته أمام المشارك الإنساني للنفس. فالثوابت الأخلاقية تتذبذب احيانا على الرغم من الاتفاق البشري عليها، ولكن تبقى النفس الجانحة مستثمرة لكل خواص العلاقة مع تلك العلوم بشكل طبيعي وغير مباشر، وهذا ما يفسر تأكيد أهل العلم والمعرفة والحكمة على ضرورة تهذيب النفس وصقلها وتنظيم فعلها، خوفا عليها من جنوح عدائي يخالف الأنظمة الأخلاقية للبشر ، وحتى القانونية، والعرفية، والإنسانية، وما آ كلوا لحم البشر الا مثال على ذلك، أو حتى الشواذ من المجرمين الذين يصرون بلا ندم على فعلتهم وجريمتهم، أو رغبة أحدهم بالعبث الأخلاقي وذلك بتظاهره بطاقاته الجنسية أو العدوانية اتجاه الآخرين والمجتمع بشكل عام.

بعض هذه الطاقات السلبية للنفس البشرية مستبطنات لا يعلن عنها إلا في عالم منفتح آخر، كالانفتاح الذي يمنحه بعض الأشخاص لأنفسهم عند السفر أو رغبة الانحلال والكشف عن طبيعة النفس، والميل للخلاعة، أو إعلان الإباحية، وغيرها من الأمور التي ترتبط بسلوك الشواذ من البشر، والذي يفسر لنا حقائق مهمة عن مكنونات النفس وجنوحها الحيواني، والذي يظهر البعد العميق للحيوانية المستبطنة داخل البشر، وما مناصفة البشر بين حيوانيته وعقلانيته، الا دليل على الصراع الأزلي للتكوين الذي يتغلب أحدهما على الآخر بين مراحل مختلفة من حياة الفرد، منذ سن الطفولة وحتى الشيخوخة والهرم.

وهذه المراحل بحاجة إلى تقييم حقيقي، حتى لا يمتد الندم ويربط بينهما. وهذا ما ذكر في تصنيف القرآن للنفس، بالنفس اللوامة التي تراجع نفسها وتندم على فعلتها، أو النفس المطمئنة لقرارة أمرها بالسوية والاعتدال، والمقاومان كليهما للنفس الأمارة بالسوء والتي تسعى بهذا المرض الى احياء البعد الحيواني الجانح في النفس البشرية وبسلوكها.فكل قوى النفس عندما تضعف تنتهي إلى سطحية وسذاجة وعته وانحطاط كبير، والقوى العقلية كذلك عندما تبدد بعوامل الغريزة يصبح الإنسان حيوان يعمق بسلوكه المشترك الحيواني لا الإنساني.

 

الدكتور رائد عبيس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم