صحيفة المثقف

مقالة في السرّ

أبريقٌ من ذهبٍ مرصعٍ بكريم الجواهر، يسكنه ماءٌ علت وجهَه الصافي مكعباتٌ من ثلجٍ أفشى سرَّه الى الإبريق فكساه ثوبا من ندىً زاده جمالا، كخِمارٍ لبسته فاتنةٌ ما ستر اسرارها التي استكبرت استكبارا، تدعوك جهارا فلا تملك منها فرارا، سرعان ما تكثّـف الندى لؤلؤاً فسال جداول أتعبت مَـنْ يتتبعها ولا سبيل لفك شفرتها.

من أفشى سرّه ذاب كالثلج يبكي أصلَه قطرةً تبادلتها غيمةٌ ونهَر، وشهدتها الشمس والقمر، وشجرة لها الضفاف مُستقَر، " نعمةً من عندنا كذلك نجزي من شكر "، وقطرةً أخرى أرسلتها موجة الى الضفة، فأخذت الأرض منها رشفة، فصارت نخلةً بألف سعفة، هزّت جذعَها تلك العذراءُ البتول خائفةً لا تدري أنّ في حجرها كلمة الرب وقول الحق. 

السرُّ هو المستور الخفيّ، ما حدّث به الا شقيّ، وما كتمه الّا حفيّ وفيّ، والسرّ ُما بينَـك وبين نفـسِك، فما زاد عن ذلك ليس بسر، إنْ هو الّا فعل أو كلام بين اثنين أو أكثر إنْ شاءوا كتموه أو حدّثوا بيه غيرهم.

طوبى لمن كتم سرّه عن نفسه، والكرامة سرّ من الله استودعه عند مَنْ يعرفونه حق معرفته، فمَنْ قصَد الكرامة ـ أي السرّ ـ لذاتها صارت عليه حجابا وصار بها محجوبا عن الحق، لذلك كان كاتم السر وحافظه مدللا يقسم على ربه متى شاء فيبرّ ربُّه بـقَسـمه. نحن نشهد أنْ لا إله إلّا الله باللسان إيمانا، ويقول بولس الرسول في رسالته الى أهل كورنثوس: "لأنّـنـا بالأيمان نَسلُـك لا بالعِيان"، أمّـا كاتم السر فيشهدها عيانا، فمن حفظ السرَّ هُـتِـكت له الحجب. هنالك قال الفتى محدثا نفسه: عندما ظهر سرُّ الثلج تفجر جبلٌ من المعجزات فكيف يكون كتمان السر امرا محمودا؟ على مقربة من الفتى كان العارف بالله قائماً يصلي مرتلا بصوت مسموع كلام صاحب السر حتى وصل الى قوله: " إنّـا كلَّ شيء خلـقنـــاه بــقَدَر "، فهمّ الفتى أنْ يسأله بعد أن ينتهي من صلاته، ولكنّ العارف العابد اختفى، كما ظهر، فجأة، ومازال الفتى يبحث عن إجابه.

والسرّ، الأصل، وسرُّ الأرض أكرمُ موضعٍ فيها، وفلانٌ في سرّ قومه أي في أفضلهم، وفلانٌ سرّ هذا الأمر أي عالم عارف به، وبالقياس يكون العراق سرَّ العرب وسترَهم من الشرّ إذا اقترب، أرأيت قوما عزيزٌ جارهم، مهابٌ جانبهم، مرتعدٌ عدوهم ولا سرّ لهم؟ وهنا أقول:

أكرم به مِنْ فتىً في كل معتركٍ     ما أنزل السيفَ بل قـد جاد بالمُقلِ

أشجعُ أخوته، حادٌّ مزاجه، شحيحٌ صبره، أبيض قلبه، إذا ضرب أوجع، وإذا أطعم أشبع، حاتمي الطبع فلا يجوع عنده ضيف ولو جاع أولاده، أسمعت يوما أنّ أهل بيت حاتم الطائي اشتكوا بخل أبيهم؟ ولو فرضنا أنّهم قالوا بذلك هل حفظ التاريخ سيرتهم أم سيرة أبيهم؟

أبو الأنبياء، شديد الإباء، كثير الأعداء، قليل الأخلّاء، جَسور جَهور لو صاح لأسمع الجوزاء، بلد الكبرياء والشعراء والأدباء والحكماء والعلماء والأولياء والأتقياء، بلد الأشقياء والبؤساء واللقطاء والأخطاء والضوضاء والإقصاء والفقراء والأغنياء والشهداء، هو كلّ الأرض ونصف السماء، هو كونٌ مصغرٌ بين نهرين شماله جبلٌ ذاب واديا فسال سهلا وانتهى هورا.

السلام على أرض الرافدين، السلام على بلد كُــشِـفَ سرّه وكُـسر درعه وفاض خيره إلّا على أهله.

في ذكرى الاحتلال أقول بأنّ المحتلَّ حريصٌ ذكي، اذ ابتدأ قتاله أمة العرب بتدمير بغداد سرّ العواصم وقبلة الأعراب والأعاجم، ولا طاقة للحرّ بمثل هذا، أتونا يجرّون الحديد كأنهم أتوا بجياد ما لهنّ قوائمُ، فأصبح لسان حال العرب: أضاعوني وأيّ فتىً أضاعوا ليوم كريهةٍ وسداد ثغرِ.

ولمّا كان المحتل مطلعا على كل صغيرة وكبيرة داخل بلدنا، بل ويعلم عنه ما لم نعلم، مسخرا أتباعه من الطارئين الذين ابتلينا بهم، أصبحنا في مقام سرّه، ومن هتك سرّ المحتل بتحرير بلده أصبح في موقع السرّ من قومه أي في أفضلهم. والقارئ لكتب تاريخ الأمم شرقها وغربها، قديمها وجديدها، يجد أنّ بداية زوال ملك المحتل تكون عندما يفقد سيطرته على ما يحتلّه من دول. وهنا يصبح من أفشى السرّ أعزّ مقاما ممن كتمه.

ما لم يُقلْ أكثر مما قد قيل، وما قيل ليس بالجديد ولكننا ننسى ونسياننا ليس جديدا أيضا. احفظ السرّ يا صديقي ولا تفشيه الا بحقه، وادعُ صاحبَ السر بفم لم تذنب به علّك تقترب من أعتاب الحضرة، فتشرب الخمر من غير كأس. 

 

د. تميم أمجد توفيق

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم