صحيفة المثقف

الكوكب الخفي (5، 6، 7)

قصي الشيخ عسكرالفصل الخامس

مرة أخرى يحاول الحاضر أن يوقعه في لبس مقابل مايكشفه له ماض عريق من صفحات كانت خافية عنه!

أيتهما الحقيقة أم ايهما الخيال " جوليه" الذي من المفترض أن يكون " بيزاري" أم " ضحى العبد الله" وتساءل ترى أين هي الآن. آخر مايعرفه أنها هربت إلى الإتحاد السوفيتي.. بعد خراب البصرة. هناك في سويسرا سمع أخبارا عنها.. "ضحى" الأولى على دفعتها تقبلها الروس في قسم الفضاء. تلك التي تصغره بعامين عرفها شيوعية متحمسة سمراء يتأرجح الصليب على فتحة قميصها النهدي الأنيق الذي رآها فيه أول لقاء.. الجبهة وإخوة السلاح ثم رفقة الشعارات.. نحن في خندق واحد.. كتب الاشتراكية.. أنغولا اليسارية وكتاب طبعته وزارة الثقافة عن تجربتها نفد أسرع من لمح البصر.. لا للكتب الصفراء .. الرهان في الغرب على بولندا ورهان اليساريين في العراق على السيد النائب.. أول نقطة خلاف ظهرت بينهما بعد تعارف أزال الشكوك فأمن كل منهما للآخر . إنه لايدخل في تفصيلات تخص الحكومة الا معها كانت في السنة الثالثة وقد تقاربا إلى حد بعيد من دون أن يشعرا. شغلهما البحث إلى درجة أنهما نسيا نفسيهما. كانت تعيد التجربة التي أعادها العام الماضي داخل المختبر في تأثير الكيمياء الفيزياوية على الضوء بِعَدِّ حامض الكبريتيك عاملا مساعدا فسقطت قطرة منه على جانب المغسلة وأحدثت ثقبا صغيرا، فتقدم منها وهو يقول مبتسما:

أنت دائما قوية فكيف حدث هذا!

يمكن أن تكون فاتحة خيرمثل انزلاق القهوة!

طبعا هكذا نستطيع أن نثقب الكون فنعرف مغزاه وسره.

لاأدري لم ارتجفت يدي!

وجلسا متجاورين في صالة المختبر، فتطلع في عينيها.. مجرد لمحة عابرة. الآن يكتشف أنه نسي نفسه من أجل البحوث والحلم الكبير.. فيزياوي ثم ماذا بعد وهي نسيت نفسها في الدراسة والبحث لكنها لم تنس السياسة.. مامعنى الحب إذن والحياة بنظرها تتحول إلى تراب. كلنا نصبح ترابا ذات يوم نتحلل مع التربة نصيرسمادا يأكلنا الدود قد يكون الحب شعورا متطورا من مراحل المادة مثلما هو العقل.. حالة تجعلنا نرتاح لإنسان ما فيدفعنا ارتياحنا إليه إلى نفضله على آخرين إذ نود في المحصلة أن نقضي الحياة معه .. قوية عنيدة مع ذلك استهلكت السياسة براءتها. التفتت إليه ودست قطعة ملبس بيده ففتحها وتذوق طعمها من دون أن ينتبه، فغمزت ضاحكة أو ساخرة وقالت:

ألم تقرأ ما في الداخل؟

فالتقط غلافا طعجه قبل دقائق وفتحه ثانية :

مبروك؟

قال ذلك وتساءل:

هل تمت خطبتك؟

فواصلت ابتسامتها :

إنه عيد تأسيس الحزب!

فتنفس الصعداء وقال بجد:

لكن احذري من طلبة الاتحاد الوطني!

قالها وفي نفسه هاجس من أن كثرة لقآتهما قد تلفت نظر طلاب الاتحاد الوطني لكن مايخفف عنه أنه الطالب الأقدم وأن مايسمعه منهافي جلساتهما تردده في أي مكان كان:

أووه البركة بالسيد النائب

فصمت بضع دقائق واسترسلت:

إنه يساري يسعى معنا الآن جادا لتأسيس الجبهة وأظن كما يظن معظم الرفاق أننا سوف نكسبه لديه الاستعداد الفطري والثقافي للتغير ومن خلاله سوف يتغير البعثيون إلى ماركسيين مثلما حدث في اليمن الجنوبي إذ تغير القوميون إلى ماركسيين تصورشعب كامل غير عقيدته من اليمين القومي إلى اليسار الشيوعي!

أنا لاأستسيغ السياسة لكني أقول إن تجربة عام 1963 تثبت أن الجماعة لن يتغيروا بدليل أنهم لم يعتذروا وإنهم جاؤوا بصيغة ثورة بيضاء لكن بعد إيام من تمكنهم أعدموا اناسا بعد أن لفقوا لهم تهمة التجسس!

لقد كانوا جواسيس حقا أنا نفسي خرجت في مظاهرة مع طالبات الثانوية يوم إعدامهم!

يالهذه النمرة تجعل نفسها وحزبها مقياسا عاما تقيس وفقه احداث الحياة والموت:

دعك من هذا لكن الم يتم قتل رئيس الجامعة مع قدومهم أكان جاسوسا!

فقالت بكل برود

هذه حادثة فردية

وعندما لمحت استنكارا يلوح على وجهه ردت متحمسة:

إنك مازلت تعيش في الماضي الديالكتيك نفسه يثبت عنصر التغيير هناك دول انقلبت من مبدأ إلى آخر مصر تحولت من فاطمية إلى سنية وإيران من سنية إلى شيعية إنكلترا والدنمارك تغيرتا من بروتستانت إلى كاثوليك فلماذا لايتحول حزب البعث إلى يساري أممي وفيه كوادر تقدمية لديهم الاستعداد للتغيير ولدينا القدرة على تحويلهم مثل النائب وآخرين!

ربما أفحمته.. فالسياسة لاتعنيه بقدر ما يفكر بغدٍ يوفر له الأمان كي يستطيع إكمال دراسته وتخصصه في مجال علوم الفضاء يحلم في المستقبل بمفاعل نووي ومركز بحوث فضائي قد يكون رئيسه أو باحثا فيه أما عن التاريخ الذي احترفت " ضحى " تفاصيله عن ظهر قلب منذ العصور الأولى فلربما لايتذكر عن نفسه ماذا فعل قبل أسبوع.. وقطع حديثهما دخول الاستاذ الهندي البروفيسور " راجار " الذي أطلق صفيرا حادا حين وقعت عيناه على ثقب المغسلة وأشارت بإصبعها نحوه وهي تمد رزمة أوراق إلىالبروفيسور:

 لقد ساعدني كثيرا في التجربة:

 فهز البروفيسور رأسه مبتسما وعقبت:

لكن مع ذلك حدث ماحدث!

فقال بهاء ملاطفا :

بعض التجارب العظيمة جاءت من أخطاء!

فنطق البروفيسربصوتٍ وقور رزين:

 المهم أن التجربة نجحت!

وغادر الثلاثة المختبر وكان ثقب المغسلة يتوارى في ذهن " بهاء " لمديات ابعد من كونه ثقبا صغيرا نتج عن خطأ في تجربة تجريها طالبة في السنة الثانية من قسم الفيزياء لكن إحدى آيونات الماضي التي لمت داخلها دقائق وثواني ليوم منصرم عصي على الذاكرة أقرب إلى المحال هي التي انتشلته من غفلته.

وهاهو الحلم المخفي أو الحلم الواقع يكشف عن نفسه ليقول إن الحديث بينهما كان أبعد من واقع سياسي لايرغب فيه هو لو منح حرية الاختيار من دون رقيب في وقت بدت زميلته ضحى ترفضه رفضا قاطعا..

كل ذلك ظهر متوازيا مع صوت " دوبيرجوليه" البديل للمدير" بيزاري"!

ففي الليلة ذاتها غشيته وهو يغط في نوم عميق شأنه كل مرة حين يأوي إلى فراشه فيستلقي على جانبه الأيسر ويده تحت خده تلك الليلة رآها تنحني على المغسلة قبل أن تسقط أية قطرة من الحامض. لم يحدث أي ثقب.. والعالم مازال ملقى على الرف الكوني بشكل مرتب فجأة .. سطعت عيناه على ساقيها كان يجلس على بعد أمتار من المغسلة تمعن في ظهرها طويلا وهي منسجمة بعملها تراقب التجربة بحذر والدورق بين يديها كاد ينسى العلم والدرس والنقاش لحظة فخطا بحذر نحوها .. كلما مشى خطوة توقف لئلا تسمعه.. واقفة كالكوكب اللازوردي لكنها راسخة مكانها لاتتزحزح مثله مبتعدة عنه كلما اقترب منها.. دب نحوها اقترب منحنيا على ساقيها وبدأ يقبلهما ثم ضمها إلى صدره وطبع شفتيه على رقبة شعت مثل العاج ظلت منهمكة في تجربتها وأنفاسه خلفها تتلاحق. وحينما انتهى عاد إلى مكانه دون أن تشعر به.. راح يتطلع في ساقيها العاريتين المثيرتين . وارتفع نظره من ساقيها إلى ظهرها وشعرها ثم هبطت عيناه نحو ساقيها كرة أخرى.. هتف ساخرا من نفسه:

لص! سارق!

وسأل نفسه وهو يتجرد من سخريته:

كان يمكن أن تسألها!

ثم محاولا أن يستحسن تطاوله:

ربما لو جعلتها تشعر بك لما عارضت!

وعاد إلى هدوءه ثانية فجأة.. استدارت نحوه ملقية بالدورق على دكة المغسلة.. راحت تقترب منه متهادية كوزَّة مسك بيضاء خرجت للتو من الماء تتبختر.. وحدقت عيناها بعينيه:

التجربة نجحت!

ظل يمعن النظر في عينيها فقالت:

بماذا تفكر؟

بك أنت!

بي أنا؟

نعم بك أنت

قلت لك التجربة نجحت!

أية تجربة؟

الكيمياء والضوء فتح جديد يشذب الزمن فيحوره من ثلاثة أزمنة إلى زمن واحد!

تجاهل عبارتها الأخيرة :

أنا أفكر بك فبماذا تفكرين!

أطلقت ضحكة:

بالعالم!

قال شبه حانق:

أقول لك أفكر بك فتقولين إنك تفكرين بالعالم؟!

تحولت ضحكتها إلى ابتسامة:

أنت جزء من العالم!

أريدك لي وحدي!

لايأخذك الطمع

لمن تكونين إذن؟

 أقتربت منه وحدقت في عينيه قائلة:

هل زعلت مني؟

 ثم خلعت قميصا فارقه صليب ألفته عيناه كلما التقيا..

تجردت من حمالة الثديين والتنورة كل ملابسها الداخلية وألقت بورقة توت تستر عورتها على رأسه الذي مازال يعج بشعر ناعم الملمس كثيف.. وقفت أمامه ثم مدت ذراعيها وطوقت عنقه نسيت تماما حديث السياسة والبحث العلمي وتجربة جديدة قامت بها قبل لحظات من دون أن تخطيء.. كانت بعيدة عن كل شيءإلا منه هو .. هما وحدهما في المختبر بل وحدهما في الكلية لاصوت ولاضجيج ولا زحام.. هدوء مطبق يخيم بظلاله عليهما..

قالت له أووه نحن وحدنا نسيت أن أخبرك أن اليوم عطلة ولم يأت أحد!

جمعة ؟

لاإضراب!

 وفي الصباح لم يتذكر الحلم لكنه وجد آثاره في ملابسه الداخلية ممتزجة بعد سنوات طويلة بصوت قادم من بعيد يؤكد له أن تغييرا طرأ على مركز البحث فوق سطح الكوكب القزم:

أنا زميلك " دوبير جولية " المدير الجديد للمركز سأشرح لك الأمر فيما بعد!

 

الفصل السادس

حين عاد إلى الكوكب القزم توقع أن يرجع في الوقت نفسه زميله " هايفن ميلر " من رحلته في غرب المجرة غير أنه لم يجد له أثرا هناك . كان قد رحل نحو الماضي وعاد إلى الحاضر وسوف يواجه المستقبل. أقر مع نفسه أن هناك تغييرا لابد أن يطرأ على الخطة، فالمدير الإيطالي غادر المحطة إلى الأرض، الحق إنه شعر بارتياح كبير فالمدير الجديد صديقه ويكاد يوازية في الأقدمية العلمية إلا بضعة شهور.. ما ينقصه فقط هو ظهور الألماني إذ لابد من أن يتواجه المستقبل مع الماضي بخط تواز أو تقاطع لئلا تكون تجربته ناقصة المضمار إذ بعد تجربته السابقة استعاد الوعي من ماضيه بشكل أكثر سطوعا من ذي قبل وقد زال تماما خوفه من المستقبل نفسه فهو على موعد معه، لقد ألف الماضي بل أحس نعومته واطلع على أسراره فتيقن أنه يمكن أن يصبح مستقبلا وماتبقى هو الحاضر المبهم.. زمن لا يثير خوفه قط كما كان لأن كل شيء يمكن أن يصاغ من جديد وفق طريقته الجديدة.. دائما الحاضر والمستقبل يطوعان حقيقتهماـ للماضي.. قدرهما أن يصبحا عبدين له.. فلم لانطوعه لهما.. نستدعيه ليصبح حاضرا ومستقبلا فلم تعد هناك أسرار تبعث في نفسه الريبة.. من أيام مضت كان أولها هو ما اطلعت عليه- عدا موضوع الحب الخفي – من أنك لم تكن جادا في التخلي عن "ضحى "ليتحمل مسؤولية متابعة سيرها العلمي بدلا عنك السيد " خليل العمران" الطالب الأقدم الذي أبرزت أناقته ثقته بنفسه ثم استدرك أخيرا أن مظهره عكس بعد عشرات السنين حقده على النظام السياسي وعجرفته كونه شعر وهو الأقدر على دفعته أنه أمام خيار القبول بفكر التبعيث وعضوية الحزب وإلا فلن يحصل على امتيازات من ضمنها بعثة للخارج أو أن يغامر فينزوي مدرسا للفيزياء في مدرسة ثانوية بأحد الأقضية مداريا إخفاقه الذي لم يكن منه بد بزيادة أناقته فكان ينفق جل راتبه متناسيا وضعية أهله ومستواهم في اقتناء ملابس أخفت حقده وكراهيته فضاعت عبقريته الفذة مع مرور السنوات!

كان " بهاء الخالد" محصورا وهو في الفضاء الواسع بين من هو اقدم منه.. طالب عبقري صامت لايتكلم كثيرا ولايعنى بشيء سوى البحث .. يراقب إبداعاته فيرفع عنها تقويما أوليا للأستاذ المشرف وبين طالبة رافقها مشرفا فكانت الأقرب إليه في من الناحية العلمية فهي مفتونة بالفضاء في حين كان مرافقه الأقدم" خليل العمران" يعنى دائما بطبقات الأرض وإن ارتفع قليلا فلا يهمه من السماء شيء إلا علاقة طبقة الأوزون بالتربة وأعماق الألارض!

لذلك كله تجاهل كل علاقة له بالطالب الأقدم – خلال تجربته الجديدة- وانصب سيره المتوازي مع الماضي المتعلق بها وحدها ليكون منطلقا جديدا لتغيير العالم بصيغة زمان جديد يكون خليطا مركبا من عالمي المستقبل والماضي!

قبل أن يدخل أية غرفة من غرف المحطة توجه إلى مكتبه وانكب على الرسومات البيانية والألواح الصفراء التي تلسط أشعتها على خلايا الذاكرة. كان متأكدا من ذاكرته التي رجعت إلى أعوام الجامعة وانقلبت إلى كتاب مرئي وجده في الفضاء الخارجي مخزونا عبر سنين وقرون. لم يقرأه أحد قبله. فهل كان محقا يوم فكر أن يطرح على أستاذه العراقي صاحب فكرة النخبة المتفوقة"برهان الفضل" في أن يتخلى عن التزامه بضحى للطالب الاقدم منه في السنة النهاية " خليل العمران" بحجة أن رفقته لها تجلب عليه شبهة سياسية هو في غنى عنها. قال ذلك مع نفسه ثم تردد في عرض الموضوع على " خليل العمران" الذي رافقه ثلاث سنوات فعرفه شخصية باردة لاتنفعل مع الأحداث أقرب إلى شخصية طالب من طلاب الرياضيات، واليوم جاء الحلم الذي مر ولم يشعر به عبارة عن لزوجة ما في ملابسه الداخلية دلت أن كل مافكر به من موضوع التخلي عن " ضحىالعبد الله" لطالب آخر ماهو إلا هواجس غير حقيقية كان لايجرؤ على أن يفاتح بها أستاذه العالم أو الطالب الأقدم، فيا ترى متى يعود الألماني إن كان هناك نبأ ما عن المستقبل يغيّر قناعات سابقة أو يحوّر حقائق باتجاهات اخرى؟

ألقى نظرة على أفق المجرة الشرقي فداعبت عينيه ظلمة خفيفة ولاحت له الأنجم كما هي كأنه تركها تنشطر منذ أن فتح عينيه إلى الفضاء وعمّق غموضه ذلك الثقب الصغير الذي حدث بالخطأ.. تلك النجوم ماض يقدم إليه من بعيد.. بعضها ماتت وهي معنا حية .. فضاء بارد مظلم لكنه ينقلب إلى دفء ونهار مجرد أن يندس في أعماقنا.. أما ضحى فماض وحاضر حي يراودنا متى يشاء هو فمتى نراوده نحن.. ماذا يحدث لو حاول أن يذهب إليها فكل مرة تأتي هي إليه!

غادر مكتبه قاصدا الحمام فانتعش جسده تحت ماء دافيء ثم استلقى على سريره بضع لحظات . عب زجاجة صغيرة مليئة بسائل حلو وضغط على زر صغير عند رأسه فجاءه صوت زميله" دوبير جوليه"

حسن كنت أراقب قدومك هل من شيء؟

يمكننا أن نتحدث؟

قد تكون بحاجة إلى راحة.

أبدا إني أشعر بنشاط غير عادي!

يمكنك القدوم إذن.

اجتاز الممر الذي ران عليه الصمت سوى صوت المحركات الخفي ثم ارتقى السلم النحيف إلى الطابق العلوي حيث مكتب زميله المدير الجديد للمحطة الذي استقبله معانقا وكان يبدو أطول واكثر نحافة:

لم أتوقع أن يغادر السيد " بيزاري " بهذه السرعة!

 تعني أنك غير مرتاح لي!

أوه أنت تعرف أننا زملاء اشتركنا في البحوث معا وتخرجنا في العام ذاته وكان السيد" بيزاري " من جيل آخر لكن المفاجاة غلبتني لرحيله الذي يبدو ملفعا بالغموض.

لاعلم لي بالتفاصيل سوى أنه طلب تعيين شخص بدله لإدارة المركبة وحين وصلت وجدته قلقا كان محبطا فهو لم ينتظر إلا بضع ساعات بعد وصولي حيث غادر إلى الأرض!

قلت إنه محبط؟

نعم تحدث عن فكرة الاعتزال وقد عرفت أنه فعلا استقال من منصبه وتوجه للعيش في الريف!

ماذا تسمي تصرفه هذا؟

الحق سلوكه واضح لقد قال باقتضاب إنه غير مقتنع بتجربة الماضي والمستقبل ويخشى على نفسه منها لأنه اصبح هو المحور وكان يتوقع للمستقبل السقوط في الهذيان ولتجربة الماضي الموت!

بل العكس التقرير موجود على الالواح الصفراء وذاكرتي تعي الأحداث بإمكاننا أن نقرأ الماضي جيدا ونعي أحداثه نعيشه كما هو وفق حقيقته لا بالشكل الذي تصورناه نحن!

فقال " جولييه " وهو يفكر بعمق:

عليك أن تقنع المركز الأرضي باستمرار البحث!

طبعا سأجعل سويسرا تقبض على اسرار العالم من خلال قراءة الماضي!" كأنه تذكر شيئا ما"

قل لي ألم تستلم إشارة من " ميلر "

رد بلا مبالاة:

أكد في أكثر من إشارة أنه كلما تقدم خطوة كونية صارت حاضرا لذلك هو مضطر لمزيد من الزمن كي يتوغل أكثر في تجربة المستقبل الجديدة.

صدمة أم خبر غير سار .. جواب مبهم غير أنه مازال يثق بالفضاء أكثر من الأرض .. كثيرا ماكان يستشهد بموت " كاكارين" في أي مازق يواجهه. الفضاء ياسيدي لم يقتل أول إنسان سعى إليه بل الأرض:

أما زال يتقدم؟

وفق مابعث إلي قد تكون اللعبة سحرته فاندمج معها معنى ذلك أنه لن يعود أبدا!

أووه لهذا السبب لم يمر بي لأنه على النقيض من الآخرين لم يعش الحاضر فيتأين إلى ماض بل دخل مباشرة إلى المستقبل وكلما صار حاضرا تسرب إلى المستقبل حيث لم يصل إلى الآن!

 محاولا أن يخرج عن سمة الجد:

تقصد أنه تحول إلى زمن افتراضي!

استنكر تأويل زميله ورد ببرود:

بمفهومي الزمن الافتراضي يعني الوهم!

ليس بالضرورة.

لهذا السبب فر " بيزاري " تراجع فقد خشي أن يحول إلى جثة أو وهم إنه لايستطيع أن يبقى حاضرا إلى الأبد!

يبدو لي أن المسالة أكبر من مجرد تجربة!

فرانت دقيقة صمت كان خلالها " بهاء " يلقي ببصره من النافذة فتقع عيناه على العتمة البعيدة التي روَّضها قبل ساعات وتفاعل معها فشعر بحنين إلى تلك الظلمة والألق الشفاف والنجوم التي تبدو كثقب منسي في مغسلة قديمة . كان يواصل قراءته لكتاب الكون ولابد أن يعود إليه ذات يوم:

على أية حال ستجد التقرير كاملا على اللوح لكن أرجو أن تدركه بعناية فعليّ أن أواصل التجربة وسوف أحث مركز الإدارة الأرضي على دعمي للعودة مرة أخرى!

عني أنا لامانع عندي لاسيما أني عشت التجربة معك في آخر دورتها!

فهز كتفيه وقال بحماس:

حين نستطيع أن نقرأ كتاب الكون والآيونات المتتابعة التي تأتي باستمرار من الأرض سنعرف كل خفايا الماضي و تاريخ كل مخلوق هناك فوق كوكبنا من حشرات ونبات وحيوان وإنسان ولاأنكر أن التجربة ربما تدفعني أن أحصل على إعادة اصوات السابقين لنا.. كلماتهم وفق انطباعٍ أوليِّ خطر بذهني مطبوعة في تلك الآيونات سنعيش مع كل فرد من السالفين على حقيقته لا وفق ماسمعناه وقرأناه عنه بذلك ندرك أن كل دقيقة لكل مخلوق تتأين حالما تصبح ماضيا وتندفع من الأرض إلى الفضاء باتجاه شرق المجرة تزيح ماقبلها لتزيحها القادمة التي تأتي بعدها.

ذلك يعني أنك ستقدم كشفا يصدم سكان الأرض جميعهم فهل نكشف عن جبناء صورهم لنا التاريخ شجعانا وبغايا هن قديسات وندخل القصور والبيوت فنعرف خفاياها وماخطط له الأقدمون ومن يعيشون إلى الآن بصورة دقيقة لاغبار من الشك عليها!

هذا هو المقصود إني ألغيت تماما فكرة غاليلو القائلة إن الأرض جزء من الكون بل الكون هو الكتاب الذي تسجل عليه الأرض تاريخها في كل لحظة لكل مخلوق عليها كما هو بدقة متناهية ومن أجل هذا وُجِدْنا نحن سكان الأرض من ناس ونبات وحشرات وحيوانات وحدنا في هذا الكون الذي جعلناه خزانة لنا فلم يكن هناك من مجال سوى أن يصبح غير محدود!

فصمت " جولييه " كأنه يقف عند كل كلمة من كلمات زميلة يتأملها وينعم النظر فيها ثم تساءل فجأة:

لحد الآن لم أتبين أنك تنظر إلى تجربتك بمنظار إيجابي واقعي .

لو قرأت التقرير على الألواح لوجدت أني أشرت إلى بعض الخصوصية الإيجابية فيما يخص المرض.

لكن ذلك ورد موجزا

حين يطلب مني مركز الأبحاث وأكاديمية الفضاء الدخول في تفصيلات سأنبههم إلى أننا يمكن أن نقرأ تطور الأمرض ونشأة البكتريا والجراثيم فنتخلص منها ونعيش عالما من دون مرض!

قال زميله وهو يميل إلى الأمام ويستند بمرفقه إلى المنضدة:

حلم البشرية بخلق جنة جديدة بعيدة عن الكوارث!

سمه ماشئت . أنت نفسك قد تكون تحب الآن ولاتدري والحب أحد الجوانب الإيجابية للتجربة الجديدة!

لكن العالم قد يصاب بالجنون فعلا حين يدرك حقيقته كما هي أو أنه يعيش حالة حب لم يدرها في السابق أو معنى من الكره انشغل عنه بمشروع آخر!!

مثلما أدركت أني كنت أحب ولم أكن أعلم!

لحد الآن لم نتحسس شيئا ملموسا والتجربة العلمية كما تعرف تؤمن بالملموس!

حسنا ماذا تعرف عن الحب؟

ليس أكثر من انفعال أو شعور بالارتياح نحو شخص إلى درجة إحساسك أنك لاتستطيع أن تستغني عنه!

طيب رائع جدا وهذا هو الماضي القريب الذي لاحقته فاكتشفت اني كنت احب طالبة معي في جامعة البصرة شيوعية من عائلة مسيحية تخرجتُ قبلها، فسافرتُ إلى سويسرا ثم غادرتْ بعد إكمال الدراسة الى الاتحاد السوفيتي حيث درست علوم الفضاء واصبحت رائدة فضاء في محطة قد تكون قريبة منا.

فغر مدير المحطة فاه واكد:

 لم تدون ذلك في إشاراتك السابقة؟

انت تعرف ان الاتحاد السوفيتي متطور في علوم الفضاء ومما لا أشك فيه ان لديه الوسائل التي يقرأ بها اتصالاتنا . كان رائد محطة مير خلال تفكك الاتحاد السوفيتي يرسل إشارة سخرية إلى الارض يسألهم فيها أن عليهم ان يحلوا مشاكلهم خلال ستة أشهر فلديه من الطعام مايكفي لتلك المدة فقط وقد ظلت إشارته الساخرة تلك تسيح في اعماق الكون وهي عين الجد ليثبتوا انهم يسيطرون على الفضاء فكان علي التحفظ ثم هناك بعض المعلومات التي من حقي ان احتفظ بها لأناقشها في المحطة الارضية مع البروفيسور هنري مدير مخابرات قسم البحوث.

 في تقريرك الألكتروني تقول هي التي لاحقتك لكنك أيضا لاحقتها عبر موضوع التأين ألا تعتقد أن هناك تداخلا في مسألة من الذي بدأ أول مرة؟

لايهم لكن المهم اني اكتشفت من خلال كتاب الكون والماضي المتأين اني كنت أحب من غير ان ادري لكن البحث والجد والنجاح في الجامعة شغلني عن ذلك " وتأفف ثم واصل" تصور شهادة بكلوريوس تحجب كل عواطفنا فلا يكتشفها إلا فضاء واسع مرعب لانهاية له!

فتطلع اليه زميله بعمق بضع لحظات:

يخيل الي أنك سوف تدخل في سباق محموم مع مخابرات الفضاء الروسية!

سأتوجه إلى الارض ولكل حادث حديث

متى قررت؟

الآن إن لم يكن لديك مانع فالقرار يرجع أليك بصفتك المدير قبل كل شيء!

فنهض زميله المدير من مكانه خلف المنضدة وقال وهو يربت على كتفه:

أبدا يمكنك الرحيل " وعقب بابتسامة هادئة"

لقد التبس الامر على السيد " بيزاري " فظن انك تنتحر بتجربتك الجديدة وحسب أن " ميلر " يصير إلى الجنون والعكس هو الصحيح!

سنرى فيما بعد والعبرة بالنتائج

لكن احذر مخابرات الفضاء السوفيتية

بل الروسية فقد قال الماضي كلمته وانتهى كل شيء

"وضغط على شفتيه" كمن يؤكد شيئا أصبح حقيقة لاجدال فيها:

روسيا فقط كنا مخدوعين هناك وحدهم الروس!

وقبل أن ينطلق في طريق عودته إلى الأرض عانقه السيد"جوليه " بحرارة و كانت علامات القلق ترتسم على وجهه وقال ونبرة من الحزن تخالط صوته:

الحق أني لاأشك في تجربتك لكن قلقي عليك متأت من امرين مهمين الأول إنك خلال تقريرك الذي تابعتُه باهمتمام وشغف أنك لم تقرأ أيونات صديقنا " بيرازي " وهو الأقرب إليك..

فقاطع كما لوكان يرفض أي اعتراض:

الحق كنت أنتظره ثم شغلتني "ضحى" عن كل شيء. كنت أتبع أيوناتها التي استقرت في غرب درب التبانة منذ زمن جامعة البصرة أما ماضي زميلنا فقربه الحالي حينذاك مني دفعني إلى تجاهله وهو الآن في الأرض لو أردت أن اكتشفه في أي مكان لفعلت مجرد أن ارجع إلى شرق المجرة أما زميلنا " ميلر " فلم يصبح ماضيا بعد أنت نفسك قلت كلما تقدم خطوة رجع خطوة أي بقي حاضرا لأنه على النقيض من الآخرين لم يعش الحاضر فيتأين إلى ماض بل دخل مباشرة إلى المستقبل وكلما صار حاضرا تسرب إلى المستقبل حيث لم يصل إلى الآن! آمل أن أراه قريبا!

مهما يكن أؤكد الأمر الثاني قضية الحب زميلتك التي فاجأتك بظهورها الحاضر وفاجأتها بماضيك الحالي هذا امر أقرب للواقع منه إلى زمن افتراضي وهناك لاتنس المخابرات الدولية التي تدخل على الخط دائما!

لاتقلق ياصديقي

وتعانقا. وقد شعر تلك اللحظة بمدى تأثر رفيقه من أجله ثم انحدر بمركبته إلى الأرض!

 

الفصل السابع

كانت فكرة الأستاذ العراقي البروفيسور "برهان الفضل" تقتضي أن يتشكل في قسم الفيزياء مجلس للنوابغ يضم الطلاب الأوائل على صفوفهم اي طلبة السنوات من الثانية الى الرابعة ويبقى اختيار الطالب أو الطالبة في السنة الأولى الجامعية القادمين من المرحلة الثانوية من شأن البروفيسور نفسه فيعين ذلك النابغة أو تلك بعد ستة أشهر من الملاحظة والتجريب والاختبار.

لقد وضع البروفيسور " الفضل "في الحسبان أن يجتمع مجلس نوابغ الفيزياء مرة كل أسبوع ويكون الطالب النابغة الأقدم في صفه مسؤولا عن الطالب الأقل قدما، وعندما التحقت الآنسة "ضحى العبد الله "بالكلية كان مسؤولها العلمي بعد ستة اشهر الطالب " بهاء الخالد " الذي كان في السنة الثانية.. ليس من باب المصادفة أن يتوقع البروفيسور "برهان الفضل " للطالبة ضحى مستقبلا مهما في بحوث الفضاء بل تحدث علنا ذات يوم قائلا:إنه لايشك في ظهور نوابغ جدد لايقلون منزلة عن عبد الجبار عبد الله ولو سارت الأمور على مايرام من حيث الأمن والسلام ولو رصدت مبالغ لبحوث الفضاء لأصبح العراق من الدول المتقدمة في الطاقة النووية وفي مجال البحث الفضائي.

قال هذا عنها بعد استطلاعه مدة الأشهر الستة الأولى ومراقبته الدقيقة لجميع الطلاب والطالبات!

وكان البروفيسور " الفضل " يحظى باحترام وهيبة وسمعة عالية عند الأساتذة والطلاب بصفته مؤسسا لقسم الفيزياء في الجامعة وباحثا يتمتع بسمعة دولية حتى هؤلاء الطلاب اليساريون المتطرفون الذين لايستسيغون أمريكا ويضعون علامات استفهام كثيرة على اي شخص أنهى دراسته هناك كانوا يكنون تقديرا كبيرا للبروفيسور ومن هؤلاء الطالبة الجديدة ضحى عبد الله التي رأت فيه عالما كبيرا وباحثا موضوعيا لايتعامل بالهوى والعواطف بل بموضوعية يفتقر إليها كثير من الأكاديميين.

وازداد إعجابها به يوم اختارها لتصبح عضوا في مجلس نوابغ القسم فلم تخف رغبتها – بعد هذا الإنجاز الذي حققته خلال ستة اشهر من التحاقها بالجامعة- في متابعة دراستها في إحدى الدول الإشتراكية وإن خصت بالأولوية الاتحاد السوفيتي. فلم يزدها تقييم البروفيسور " الفضل" لها غرورا والحق إنها كانت تعتد بنفسها كونها فتاة تعنى بالسياسة أكثر من كونها طالبة علم نابغة في حقل الفيزياء والفلك .. كانت شيوعية تفتخر بريادة الاتحاد السوفيتي للتقدم في تلك البحوث إلا أن حماسها الحزبي الزائد سار بموازاة همتها في البحث العلمي. بدت نشطة في المجالين العلمي والسياسي .. حيث استغلت فترة التقارب الشيوعي البعثي ومباحثات الحزبين في العمل لتشكيل ماسميت فيما بعد بالجبهة الوطنية فعبرت عن آرائها بصراحة ونية صادقة. نشطة صريحة لاتحابي ولاتجامل.. كانت طوال الوقت تراهن على تقدمية النائب والأمل في كسبه وإعادة تأهليه ولم تغفل عن اي مهرجان وأية مناسبة فلبست ثوبا اسود يوم الثامن من شباط ووزعت الحلوى في ذكرى تاسيس الحزب وحررت في جريدة طريق الشعب لكن النقاش بينها وبين صديقها الأقدم لم ينقطع. كانت تثق به ربما تعترض على شكوكه وتحس أنه ينظر أحيانا للسياسة بمنظار قاتم أقرب إلى المتشائم وهي على ثقة تامة من أن العالم سيتحول كله في القريب العاجل إلى عالم اشتراكي تسود الأرض فيه النظرية الشيوعية حيث يعم الأرض السلام والخير وتزول الحدود بين الشعوب فلا يعود من فقر ولاعوز أو جوع..

على الرغم من كل ذلك فإنه يعترف الآن مع نفسه أن هناك شيئا خفيا كان يثيره في أعماقه منظر خصرها الدقيق أثناء وقوفها أمام الدكة أو منظر ساقيها الممتلئين.. الصليب الذي يتأرجح فوق صدرها.. جسد متوسط الطول بشرة حنطية، كل هذا لايهم والأهم: ماهو المستقبل؟.. من حسن حظه أن الطلاب الأوائل قبل تبعيث معظم الميادين والدوائر كانوا يجدون فرصا للحصول على بعثات قبل أن يتم سوقهم إلى الخدمة الإلزامية.. ربما تتغير الأمور بعد سنوات ويخفق مشروع النوابغ مثلما تغض الدولة النظر عن مبدأ الكفاءة فتختار طلاب البعثات وفق الانتماء الحزبي لكن نجم الآنسة " ضحىالعبد الله" لمع أكثر حين تم تشكيل الجبهة فارتفع اسم النائب، في الوقت نفسه وجه الطلاب المنتمون لحزب البعث انتقادا لخطة البروفيسور إذ اقترحوا أن يضم مجلس النوابغ أحد الطلبة المجتهدين ممن له عضوية في الاتحاد الوطني.. يومها قابل البروفيسور الاقتراح بشيء من برود سترته ابتسامة مبهمة، وتعليق إنشائي مقتضب:

كل ما اسسته هو لكم.. للبلد أما أنا فسوف ينتهي عقدي بعد سنتين فأعود إلى الولايات المتحدة عليكم أنتم أن تكملوا المشوار!

كان " بهاء الخالد " في غاية الانفعال وحينما ضمتهما غرفة المختبروحدهما وليس هناك من نأمة سوى بصيص لمصباح أزرق خافت وأزيز دائرة كهربائية يوحي لمن يسمعه بطنين ذبابة قادمة من بعيد:

أسمعت الخبر عن العضو الجديد المفروض؟

وما المانع؟

فاجأه جوابها. لم يتخيل نبرة صوتها ودهشة عينيها. ونسي في خضم احتجاجها مشاعره وإذ رأت دهشته اندفعت :

أهناك من أسرار عندنا نخفيها عن الآخرين؟

فقال ممتعضا من حدتها التي قرأها من خلال دهشة ارتسمت في عينيها:

لا لكن ماذنبك أنت التي حصلت على علامة مائة في كل المواد وذنب الطالب في الصف الرابع وهو بعد جهد فاز بعلامة تسعة وتسعين من مائة أهناك من مبرر ليأتي معنا طالب يشاركنا مجلسنا ومعدله لم يتجاوز السبعين أو الثمانين وربما في غد ينظم من هو دون ذلك!

فنفضت يديها من التجربة أزاحت الموشور والتفتت باهتمام:

أنت الذي تقول ذلك؟

العلم لست انا!

لماذا نحجب العلم عن الآخرين؟تلك تفرقة لاتقل خطورة عن التفرقة الطبقية.. في الاتحاد السوفيتي الآن راتب الفراش أقل بقليل من راتب رائد الفضاء قد نستهزيء مادمنا بعقلية برجوازية لكننا حين نفعل ذلك نروم أن نجعل الفراش والعامل بمستوى رائد الفضاء.

هم بالكلام فلم تمنحه فرصة واسترسلت:

أنت نفسك تبدي انزعاجك من عجرفة "العمران " الفقير وشعوره بالتفوق لأن ترفعه سلوك برجوازي لاترتاح أنت له ولا أنا أو أي شخص آخر وأنت الآن تؤدي الدور نفسه بصيغة أخرى!

خطوة تجر خطى تخيلي النابغة خالد العمران الحاصل على معدل تسعة وتسعين بالمائة لايحصل على بعثة لأنه ليس منهم في حين يتمتع بهذا الحق طالب جاء بمعدل ثمانين بالمائة!

مشكلتنا نحن في العراق أن الجميع يرغب في أن يصبح دكتورا ليقال عنه دكتور يا اخي الاتحاد السوفيتي حتى أوروبا الغربية قامت كلها على الكادر الوسطي!

يعني ذلك انك من مؤيدي الاقتراح الذي قدمه الاتحاد الوطني في أن ينضم إلى مجلسنا أي طالب لايقل معدله عن السبعين!

بل أنا متحمسة له فليس كل مايقترحه حزب البعث باطلا وإلا لما وقفنا معهم في قضية التأميم دع الطالب الجيد معي في المجلس وسأمنحه خبرتي العلمية ليرتفع مستواه فالأفضل ان يكون البعثي عالما بدلا من أن يصبح من الحرس القومي!

وهمس لها كأنه يخشى من الحيطان أن تسمع:

إني لاأثق بهؤلاء قط فهم لحد الآن لم يعتذروا عن المجازر بحقكم عام 1963 بل يعدون انقلابهم عروس الثورات!

فقالت بإصرار كأنها ترفض كلامه:

ياصديقي إنك تكرر هذا الكلام على مسمعي دائما. أنا والدي طبيب معروف من عائلة ثرية وأنت أهلك من ملاكي الأراضي والأجدر بنا أن نتحرك نحن لن نغير الآخرين إذا بقينا في حدود طبقتنا . الرفيق لينين انحدر من عائلة أرستقراطية فتحرر منها ليكون ضمن العمال والآن نحن نفعل الأمر مع النائب ومجموعته في حزب البعث ماقد حدث فيجنوب اليمن فهل أظل أصقل وأعيد!.

حديث يشوبه ملل.. بارد لاحياة فيه ونقاش يتكرر كل يوم. اليمن الجنوبي.. النائب مرشح لأن يصبح شيوعيا .. كان الأجدر أن تكون بولندا بعدالحرب العالمية الثانية ضمن المنظومة الرأسمالية واليونان شيوعية غير أنها الموازانات. الحسابات الدولية التي أوصلتنا إلى هذا فهل نكون مجانين مثل ماوتسي تونغ فنلقي قنابلنا الذرية على المعسكر الرأسمالي لنقضي عليه.. مالفرق إذن بيننا نحن الداعين إلى السلام والنازيين.. في البدء حاججها ثم تحاشى أن يثيرها . كانت تتمسك بكل حرف تقوله.. شجاعة لاتخاف تهديدا أو وعيدا وتنسى أنها فقدته في الأرض وهو الأقرب إليها فعثرت عليه في السماء أو .. لكن العواطف تلح عليه الآن . تتحدث عن حب دفنته السياسة قبل أن يشعر به الطرفان فكشفه الخلاء . لقد سمع بوالدها الدكتور "عبد الله"الذي تعدت شهرته البصرة إلى محافظات قريبة ودول الخليج . . من أفضل أطباء البصرة. خريج بريطانيا أم الإمبريالية. لم تكن خصوصياتها لتهمه. ولم تلتفت إلى طبقته الاجتماعية سوى ما يعرفه الزملاء في الكلية عن بعضهم من عموميات. ويوم تحدثت عن الطبقات بداية انقلاب عام 1968 قال لها إن والده ملاك . صاحب بستان في البراضعية وتاجر، ولعلها حدثته عن سفرها مع والدها شبه المستمر إلى بريطانيا وسألها متعمدا عن الحياة في لندن فأجابت بجرأة: إنها مقرفة بلد الرأسمالية الأم التي كان رأسماليوها يقتلون عمال المناجم بدم بارد.. لصوصية مسعورة قد يداهمك لص في أحد شوارع لندن في أي وقت . هذا الأمر لن يحدث في أية دولة اشتراكية لا في الليل ولا في النهار!

 

د. قصي الشيخ عسكر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم