صحيفة المثقف

حكم الحقب وحلم النخب.. إشكالية التغيير بلا تدبير

رائد عبيسعرفت أنظمة الحكم في بلداننا العربية بما يمكن أن نسميه "حكم الحقب" وهو ما ألفته أجيال العرب منذ الخمسين سنة الماضية والى يومنا هذا, فنشأت أجيال وكبرت وعرفت ان هذا النظام أشبه بما يكون حكم متوراث وهو الذي كان يحمل صفة الجمهورية ولاسيما بعد ثورات الاستقلال لأغلب هذه البلدان والذي استمدت الأنظمة الحاكمة وجودها فيها من عدة أبواب يمكن أن نحصرها بــــ :

1- بواسطة الانقلاب العسكري أو السياسي.

2- بواسطة تأييد المؤسسات الدينية واستمداد الشرعية منها اذا لا نجد نظام قد تمت معارضته من قبل مؤسسة دينية وحققت نتائج في ذلك.

3- تأييد الشعب ونصرته وحمايته والحفاظ عليه نتيجة الانخداع بالشعارات القومية أو المذهبية أو السياسية وغيرها أو عن قناعتهم بذلك.

هذه العوامل هي التي جعلت من الحكومات العربية حكومات حقب وحكومات أجيال كاملة تم بها مسخ كل مقوماتها الهوياتيه واختزالها بالزعيم.

فكل الأنظمة العربية قد شهدت حكم حقب تامة ،صنع منها زعامات دكتاتورية نتيجة الإبقاء عليهم وتجديد الولاية لها، وكأن الشعوب لم تحمل وعي كاف, طيلة هذه المراحل التاريخية التي سمحت للحكومات لهم بسحقهم , وتجاوز حقوقهم نتيجة وجود عوامل تؤكد ضعفهم: منها الجهل والطاعة العمياء تحت تأثير أصحاب وعاظ السلاطين ، والفقر والحرمان المتوارث في الشعوب العربية التي شهد هكذا أنظمة, وعوامل سياسية وعسكرية أخرى تساعدت على التحكم بنظام سطحي لا يحلم بعمق التجربة ولا بطعم المعارضة، فقد خيم على المناخ العربي منذ أول دولة تحقق فيها التأمين السلطوي تحت العوامل التي ذكرنا والتي نجد في بعض البلدان اجتماعها جميعا في نظام واحد وإلى حد نظام عمر البشير في السودان, وهذا ما يفسر سكوت الشعوب العربية على حكامها لحقب تاريخية كاملة ,تراوحت من العشرين سنة إلى الخمسين سنة.

وهذا يستدعي منها أن نصنف الجماهير أيضاً على وفق تفسير سيادة الأنظمة ومبررات وجودها.

النصف الأول : فهناك شعب مساهم وصانع للسلطة وهو شريك بها وبوجودها.

الصنف الثاني: هو المعارض والذي يذهب بمعارضته الى مقاومة داخلية أو خارجية أو غيرها من المحاولات كمحاولات الانقلابات, أو الاغتيالات, أو تأسيس أحزاب موازية, أو العمل على تقويض السلطة بوسائل ثقافية, أو اجتماعات وفعاليات مخالفة.

الصنف الثالث: هو المنكفي على نفسه الغير مكترث الى مآلات السلطة والحكم, لا يشارك بكل فعالية سياسية في المجتمع, و لا يحيد عن طريق العزلة, والذهاب والاياب بنفس طريق العمل والبيت.

يبقى حلم النخب اين هو من كل أسس تشبث السلطة بالسلطة والحكم؟ واي تصنيف يدخل حيزه مما تقدم؟

للنخب احلام تسمى يوتوبيات لا يمكن مقاربتها بالواقع, تذهب بهم إلى تصور دولة فاضلة, وحكومات عادلة بعدالة السماء, كما تصورها افلاطون و أوغسطين والفارابي وغيرهم من الفلاسفة الحالمين بالتغيير المثالي ، وهناك فلاسفة واقعيّن الى حد النفعية المفرطة بكونهم نخب استدعى بهم إلى اتباع وسائل انتهازية ووصولية وتبريرات سلطوية نفعية حالمة بالحكم ومنافعه. وهناك ايضا طبقة كبيرة من النخب تتبع سياسة الحياد والانكفاء واللامبالاة والانشغال بمكاسبها كطبقة نخبوية تحمل نفس متعالي عن المجتمع وهمومه.

ما تقدم من تشخيص ينتهي بتجربة تغيير اي نظام في عالمنا العربي الى الفوضى وعدم النظام والالتفاف على مطالب المجتمع المشروعة وسبب ذلك هو انعدام التدبير المنظم للتغير الذي تفتقر إليه اغلب جماهير البلدان العربية, بسبب عوامل كثيرة منها السقوط المفاجئ للأنظمة كما في نظام صدام وسرعة زواله وهروب زين العابدين بن علي في تونس و بوتفليقه, ومؤخرا البشير الذي كان الانقلاب عليه مريحا نوعا ما، هذه المفاجأة بالتغيير وسرعة حدوثة يجعل المجتمع غير مصدق بالتغيير مربكاً نوعا ما في خيارات الأنظمة المناسبة لمزاجه, مثلما حدث في مصر بين الاخوان وازمتهم مع الشعب المصري, وتغير حكم مرسي بحكم السيسي لأنه قريب من مزاج الجمهور، أما في العراق الذي سبق هذه البلدان بالتجربة فهو يعيش في فوضى التغيير الى اليوم بسبب تسلط جماعة نفعية لا تنتمي للعراق كدولة وشعب,  بل تنتمي لأجندات خارجية تمثل لها دور الحاكم في العراق، فالشعوب العربية إن لم تحسن تدبير أفكارها التغييرية سوف تبقى تراوح في أزمات لا تنتهي كما في اليمن وليبيا. وإشكاليتنا الكبيرة هي مع النخب العلمية والأكاديمية التي يراد لها أن تترك اثر إيجابيا على طموح التغيير في مجتمعاتنا, ولكن مع الأسف لا نجد هذا حاضرا عندهم واحد همومهم!! اذ نجد أن أغلب المتصدرين للحراك الجماهيري التغييري هم من جمهور الشعب الفقير البسيط والذي لا يحمل في الغالب رؤى عميقه لإشكاليات التغيير وتدبير, وهذا ما ينعكس سلبا على واقع بلداننا التي ماتزال وستبقى تعيش الفوضى إن لم تشارك النخب المثقفة بوعي وتبتعد عن أحلامها الوردية في التغيير.

 

الدكتور رائد عبيس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم