صحيفة المثقف

الكوكب الخفي (8 و9)

قصي الشيخ عسكرالفصل الثامن

تأكد لديه تماما أنها اعترضت طريقه بعد تجربته مع الدقائق المتأينه.وساورته احتمالات ثلاث أولها أن المخابرات السوفيتية الروسية أوعزت لها بملاحقته أو أنها تجري تجربة تتناص مع تجربته وليس ذلك بمستبعد عنها فإنهما في السابق أجريا تجارب مشتركة على الأرض كانت كلها مقدمات لتجربة عظيمة بدأها قبل أيام في شرق المجرة مع الغبار الكوني.

أما الاحتمال الثالث وهو الأقرب إلى الواقع فقد يكون الحب ذلك المعنى الغامض الذي حركته التجربة من جديد مثلما تحرك التربة والماء قوة كامنة في البذرة فتجعلها تنمو وتزهر!

الماضي هو الذي قطع مابينه وبينها يومها كانت الأرض يغطي ثلثها الفكر الاشتراكي ويتلاعب بما تبقى منها فكر رأسمالي ولعله يعذرها لأنها انبهرت بفكر هيمن على ثلث الأرض، فألغت في سبيله مشاعرها وتجاهلت عواطفها هجرت كل شيء ولم تبصر أبعد من ارنبة أنفها..نحن نوابغ في العلم أما السياسة فلا..إن لم تكن بعثيا فأنت عدو.. أنت لست شيوعيا . برجوازي.. متخلف .. جاهل.."ضحى " العالمة غزت السماء وفكرها السياسي تعثر على الأرض.تناقض عجيب.. فماذا عنه هو. لاينكر أن الزمن الذي يأتي إليه من بعيد لو تأخّر ذات يوم لسبقه ولم يعد بإمكانه أن يحقق طموحه ويرتقي إلى مرتبة رائد فضائد وعالم قدير تأينت امامه متجردة أخرى اتسعت من ثانية إلى ساعة فيوم فشهر .. كان يروم أن يسألها عن خطة وضعتها للمستقبل : هل تكمل دراستها أم تسبق ذلك بالزواج لكنها وضعت الكتا ب الذي يحمل عنوان " السديم" على المنضدة وقالت وهي تتنفس بعمق:

ها أنا قدمت إليك مباشرة من مكتب الدكتور " الفضل " !

خيرا ؟ هل هناك أمر ما؟

يبدو أن مدة الستة اشهر انتهت فوقع اختياره على طالبة من السنة الأولى لينيط بي مهمة متابعتها كوني الطالبة الأكثر تفوقا وفق رأيه.!

رائع هذا

قالها ببرود تام .. لالفتة ولاحيرة.. أما المتجردة الثانية.. الشهر.. السنة.. الأعوام المتكدسة فأبدته بصورة غير ماكان عليه صورة لم يكن يألفها بنفسه..الزمن الجديد الذي تلاعب به رائد الفضاء عبر تجرد التأين اشار إلى أنه ارتاح من اعماقه كون " ضحى العبد الله" اصبحت مسؤولة عن طالبة قادمة من الثانوية إلى الجامعة وليس هناك من طالب.. غيرة مكبوتة يكشفها الفضاء الذي لايقبل الكذب والغش والمغالطة والخطأ..كما كشف من قبل أنه لم يكن جادا بعرضه التخلي عنها للأقدم " خليل العمران"

إنها ذكية جدا امتحنها الدكتور " الفضل " أربع امتحانات خلال ستة أشهر فأظهرت تفوقها!

حسنا طالبتان واحدة متفوقة في السنة الأولى والأخرى في الثانية وأنا في الثالثة وخليل العمران في الرابعة شيء ممتاز !

بعد لحظات سألها:

هل هي من الاتحاد الوطني!

يبدو أنها مستقلة!

وكاد يهمس في أذنها:

هذا يدل على أنه لانوابغ في حزب...

ونهض من مجلسه وامتدت يده لتصافح يد شابة قصيرة القامة ذات عينين خضراوين ابتسامة واسعة بريئة.. كانت قدقدمت مباشرة من مكتب البروفيسور"الفضل"باتجاههما فقالت ضحى:

الآنسة " نوال غريب" نابغة السنة الأولى التي حدثتك عنها " والتفتت إليه باسطا يدها " بهاء مسؤولي الأقدم!

فازدادت ابتسامة نوال وعقبت:

نابغة مرة واحدة ياصديقتي هذا لقب لااستحقه!

لاتنسي يجب أن نثبت عبقريتنا فقد توازنت الأمور باختيار الاستاذ لك فقد أصبحنا اثنتين مقابل اثنين

ولم يطل بها المقام إذ استاذنت فاشاع قدومها وانصرافها الراحة فيه. كان يردد مع نفسه وهو في الفضاء على بعد هذا الامتداد الشاسع وسط الظلمة والبرود ورغوة الخلااء الخفية ماذا يحدث لو ساوره قلق بعد اختيار البروفيسور "الفضل" لطالب متفوق. كان عليه أن يعود إلى التجربة واللحظة التي خطرت أمامه من قبل إذ حالما انصرفت "نوال" عنهما التفت من حيث لايدري إلى ضحى ليسألها سؤالا بريئا في الظاهر:

آنسة ضحى هل فكرت بالزواج؟

لم تكن لتهمل نفسها مثل بقية الشيوعيات المسترجلات. كانت تعتني بمنظرها وتصفيف شعرها ولاتنسى طلاء أظافرها..امرأة مثيرة أنيقة.لايخفي حماسها السياسي المفرط مواضع الفتنة فيها:

لا أبدا هدفي بعد البكلوريوس الدراسات العليا!

أتسافرين على نفقة الوالد؟

بل سأسافر على نفقة الحزب!

افرضي أن بعثتك ذهبت لآخر!

لن يهمني ذلك سوف أبحث عن فرصة أخرى لكني لن أذهب على نفقة أبي الذي مازال يلح علي أن أواصل دراستي في بريطانياا

ولو تأخرت سنة أو تاخر سنتين أخريين لما كان بإمكانهما السفر والهجرة نحو غبار المجرة، فبعد عرس الجبهة استحوذت الدولة على سلك التعليم ونادت بتبعيثه وحصر الدراسات العليا والبعثات في طلبة الاتحاد الوطني. كان والده صاحب مزرعة للنخيل وتاجر خضار لايمانع أن يسافر ابنه إلى الخارج ليعود استاذا جامعيا مرموقا يختلف عن اخوته الأربع الذين اقتنعوا بالعمل في مزرعتهم الخاصة على ضفة شط العرب في البراضعية أو بوظائف حكومية وقد استعد للسفر لولا ان قسم البعثات في سويسرا الاتحادية اعلن من مسابقة دولية في مجال الفيزياء فتقدم إليها وأدى الامتحان عبر سفارة سويسرا في بغداد وحاز على مرتبة متقدمة ومن مجموعة متفوقين من مخلتف انحاء العالم تنافسوا وقع الاختيار على الخمسة الأوائل منهم هو وزميل دراساته الدكتور " جوليه" الذي احتل موقعه مديرا لمحطة الفضاء على سطع الكوكب القزم بعد أن تلاشى مديرها السابق" بيزاري"خوفا من التأين في الماضي.

 لكن لم يكن ليهمه بعد الهجرة إلى سويسرا ومواصلة دراسته في علوم الفضاء على نفقة قسم البحوث هناك أن يخضع للتهديد..فبعد سنتين من نهاية الجبهة نهاية ماساوية بادرت الحكومة بخطة التبعيث وأصدرت قرارا يلزم طلاب الخارج بالانخراط في بعثات الحكومة والتخلي عن الدول التي تمولهم أو أن يواجهوا عقوبة الحبس. إنها سمعة العراق ذلك البلد النفطي الزراعي الغني. لانريد صدقة من أحد ولامساعدة. النائب الذي توقعته ضحى شيوعيا في المستقبل القريب تنمر أكثر من أي رجعي يميني وقلب العراق رأسا على عقب!

 كان منشغلا عن ضحى بطموحاته . المهم أنه أنهى السنوات الأربع فذهب في طريقه غير مدرك أن هناك شيئا مخفيا سينفجر في أعماقه يوما ما.. إحساس كتمته عنه تجارب ذاكرته القوية التي فكر في أن يعيدها  إلى توهجها في مكان مناسب ذات يوم لتشمل مديات اوسع من مختبر صغير في جامعة البصرة

لقد انقطعت أخبارها عنه تماما..

ماذا أبعد من أن يغادر العراق وينصرف إلى دراسته العليا وربما عرف بعد حين عبر نتف من أخبار وصلت إليه أنها تخرجت وطوردت من قبل رجال الأمن ثم تسربت إليه معلومات أنها هربت إلى الاتحاد السوفيتي الذي كان على علمائه أن يستغلوا ذكاءها الخارق ويستفيدوا من قدراتها في علوم الفضاء!

لكنه كان على يقين من أن السلطات ضايقتها إلى حد التعذيب بعد حل الجبهة.النائب الشاب المتحمس لليسار سرعان ما انقلب على كل مبدأ رفعه..كان الشيوعيون بمنزلة مروض حيوانات شرسة وقد لمح لها ذات يوم بعد تجربة الثقب قائلا وهو يتلفت شأنه كل مرة كأنه يتحاشى الحيطان:

الآن هم يعاملونكم مثل الصياد والسمكة يتركها عالقة في الشص وهو يرخي لها الخيط حتى تنهار قواها!

فاحتجت بجفاف:

السياسة لاتفهم بهذه الطريقة المباشرة!

إهانة غير مقصودة... تبقى ذات قلب أبيض.الطبيب وعالم الفيزياء والكيمياوي لايضيرهم أن يكونوا ساذجين في السياسة. ألم يكن أبونا آدم ساذجا حين أكل تفاحة نيوتن قبل أن يفكر فيها:

ياسيدتي ألم تذكروا في أدبياتكم أن الأحزاب البرجوازية لايؤتمن جانبها فصدعتم رؤوسنا بالاشتراكيين الخونة والطبقة وشبهتم البرجوازية بالعاهر وأنا من جانبي لاأدري لم أندفع معك وأتحفظ مع الآخرين على الرغم من مساحة الحرية التي يمنحنا إياها الانقلابيون الجدد الذين لم يعتذروا إليكم عن جرائم الماضي!

 ليست قضية التضحيات بجديدة على الحزب والمهم ليس الاعتذار بل المشوار الجديد وفي أسوا الحالات لامناص من الموت فليكن ولتكن التضحية إذا كانت في محلها.

يالهذا الحب الجارف والعاطفة المحمومة التي غطتها سفاسف كثيرة .. السياسة في العراق والجبهة وحزب البعث وغباء الشيوعيين ودفنتها دول عظمى. الاتحاد السوفيتي.. الصراع بين الشرق والغرب حرب فيتنام وتشرين وانقلابات امريكا اللاتينية . العلم وحده شغله عنها والسياسة. أتستحق كل تلك الأحداث مهما كانت عظيمة وواسعة أن تغطي على حب نبض في قلبه ذلك الوقت فغادره ولم يعرفه ؟مسيحية شيوعية لاتؤمن بالله زميلها الاقدم في البحث مسلم ورث الدين عن عائلته لكنه لايؤدي الفرائض. يهمه أن يكون الله موجودا لكنه لايخافه يراه صديقا فيكره الكفر من خلاله ولم يكن ليدخل في نقاش يخص السياسة منذ مرحلتي المتوسطة والثانوية كان يقف على الحياد دائما مثلما فعل أبوه وإخوته والآن بعد كل تلك الانهيارات العظيمة أدرك بلا لبس أنه اندفع معها فكشف عن حقيقته. تعاطف مع ضعفها الذي رآه قوة ذات يوم وتمنى لو أنها آمنت بالله . هل خدعه الحب فانزوى خجلا في نبضات قلبه لتغطيه حوادث السياسة وتجارب العلم التي مهما عظمت لن تكون أكبر منه.. إنه الآن يسأل نفسه عن علم يخدع ويراوغ وكان عليه أن يسأل من قبل لـِمَ يتحفظ مع الآخرين ويكشف أفكاره لها ثم يقنع نفسه أنها زميلة دراسة ثم يتابع أخبارها عن بعد فلا يعرف عنها شيئا سوى أنها اعتقلت وعذبت ثم هربت إلى موسكو فأصبحت رائدة فضاء!

والآن يكشف له الحب المخفي عن قدرته وسطوته فلا يجد نفسه إلا عاشقا ورجل مخابرات.. علم يخفي الأشياء ويحجب المعاني ويغطيها يمكن أن يتحول إلى سلاح خطر.. سحر يدمر العالم..قوة قد تكمن في معان ٍ حجبتها تنفجر ذات يوم مطيحة بكل ما هو خير وجميل!

أيحبها أم يتجسس عليها أم دفعها الحب أو التجسس وربما كلاهما معا لملاحقته عبر الزمن القادم من الأرض ليندس في زاوية من زوايا الفضاء اللانهائيّ؟

الماضي يكاد يعيد توازنه وفق التجربة الجديدة بشكل آخر. من قبل انصهر الحب واختفى في بوتقة الاحداث السياسية والبحث العلمي والآن برز ثانية من غير أن يعرف أن واجبه يحتم عليه أن يوازن بين عاطفته التي كشفت عنها بكل جرأة تجربته الجديدة وشرف المهنة الذي يأمره ألا يثق بها لو كانت تحبه حقا لما ترددت في الالتحاق به. انهار الاتحاد السوفيتي وارتدى الروس الكابوي وتنعموا بالعلكة والبرغر.. لاشيوعية ولا عالم جديد إلا في التجربة العلمية التي سوف تتحقق على يده فلم لاتترك موقعها وتتلحق به مثلما فعل الكثيرون من علماء الاتحاد السوفيتي. على الأقل يستطيع تزكيتها فيتمكنان من أن يواصلا تجربة بدآها في السنة الثانية من دراستهما وخلفت ثقبا صغيرا على مغسلة التجارب فانطبعت في ذهنه بصورة أسطع من حب عاش داخله كمرض خبيث لاتبين أعراضه إلا بعد سنوات طويلة!

فليكن هناك حب ذو عارض جانبي يمكن أن يطلق إن كان ولابد عليه كلمة " تجسس"!

***

الفصل التاسع

شغله سر الكوكب اللازوردي بعض الوقت وتصفح خلاصة آراء علماء المحطة قبل أن يدخل معهم في نقاش جدي حوله. ذهب بعضهم إلى أن الروس استطاعوا ضرب جدار مانع للرؤيا حوله مثلما فعلوه أيام ستالين. ستار حديدي بموانع للرؤيا لم نتوصل إليها نحن السويسريين وربما عجز عن كشفها آخرون غزوا الفضاء مثلنا،وهناك رأي ذهب إلى أن الروس أوجدوا انعكاسا لظل كوكب كبير وكيفوا حركته فجعاوها بعكس حركة الأفلاك في الوجود بالضبط مثلما يتفنن صانع الساعات بابتكار ساعة شاذة تدور عقاربها الثلاث من اليسار إلى اليمين!

غير أن الرأي الذي أزعجه هو ماذهب إليه عالم من اصل كرواتي وجد في الكوكب الجديد ظاهرة تشبه إلى حد ما ظاهرة الأطباق الطائرة التي أقر العلم كونها انعكاسات ضوئية ابتكرها الروس والأمريكان يوم كانت لهم السيادة على الفضاء ليفزع أحدهما الآخر. إنها هلوسة تصيب رواد الفضاء وعلماءه بسبب الإرهاق والظلام والعزلة والصمت الرهيب!

ولولا سعة صدره وصبره لانفجر صارخا في الكرواتي " تودال" أن يصمت لأن تحليل التجربة التي مر بها على أنها انعكاس فقط هو بحد ذاته اتهام مبطن بالهلوسة والتخيل لعالم مرموق مثل الدكتور"بهاء".

 غير أنه تجاوز ذلك النقد وطلب بكل هدوء من العالم الكرواتي أن يلزم الصمت أو يغادر مكان الاجتماع إن ساورته شكوك في عبث المحاولة ودقة المعلومات، لأن مايشغله في الأساس ليس الكوكب وحده بل تجلي الماضي المحيط به والثريات السوداء المنتشرة في أبعاد شرق المجرة التي تهم أن تلتهم الآيونات القادمة من الأرض المهاجرة إلى المطلق البعيد!.

كان يدافع عن تجربته بحماس منقطع النظير، واصعب مهمة واجهته هي أنه الوحيد الذي رآى الكوكب مباشرة من دون أي جهاز مساعد بعدما تراءت له من قبل عالمة سوفيتية من أصل عراقي زميلة دراسة ، فكيف يثبت للعلماء الآخرين أن مارآه مجرد واقع ضرب الروس حوله مانعا للرؤيا وليس أضغاث أحلام أصيب بها بعد عودته من شرق المجرة وتجربته في استحظار الزمان المنصرم من غيرما رجوع؟

من المحتمل أن يكون بعض العلماء الروس ممن لايقبلون تحول روسيا إلى رأسمالية هاجروا إلى الفضاء فاكتشفوا كوكبا جديدا يصلح للحياة فجعلوه مقرا لهم كي يخلقوا عليه حياة مثالية بعيدة عن الطبقية مثلما يعتقدون ثم يفكرون من على سطحه بغزو الأرض ولايستبعد أن تكون "ضحى" قصدته لتضمه إلى تلك الجماعة النوابغ كما كان الوضع عليه قبل أكثر من ثلاثين عاما في جامعة البصرة!

إلا أنه لم يمزج بين رؤيته العلمية المشكوك فيها من بعض العلماء والحرب الباردة. لاشك أن هناك كثيرا من الروس تهمهم مصلحة روسيا بلدهم وقوتها فلا يهمهم النظام الاشتراكي أم الرأسمالي هؤلاء هم الذين يصرون على أن تبقى الكثير من التجارب الروسية والإنجازات في الفضاء سرية محجوبة عن بقية العالم.

وكان عليه بعد أن أقنع معظم أعضاء لجنة العلماء ماعدا العالم الكرواتي أن يقنع مسؤول مخابرات علوم الفضاء في مركز الأبحاث الأرضي. والحق راوده بهذا الشأن قلق وساورته شكوك مردها العمل البيروقراطي الذي يفرض على رواد الفضاء في حال تعاونهم مع لجنة المخابرات أن يدونوا انطباعاتهم على الواح ألكترونية وهم في الفضاء بعد أية تجربة ثم حين يهبط رائد الفضائد إلى الأرض يسجل ماكتبه ثانية على ورق حتى يتمكن العلماء في المحطة الأرضية من مطابقة المكتوب على الورق مع الألكترون باختلاف المكانين فلعل الفراغ والخواء يضيفان على عقلية الرائد أحاسيس غير واقعية أو ينقصان من مقدراته العقلية مايمكن أن ينسيه شيئا ما في حين يستطيع وهو في حال اجتماع مع لجنة العلماء أن يناقش تقريره الأساس المدون على اللوح الألكتروني.

هذه المرة لم يخش حدوث تناقض بين تقريري اللوح والورق لأن ذاكرته تستطيع استحضار أية لحظة من الوقت الراهن إلى ماقبل ثلاثين سنة مضت.

لكن قلقه انصب في تلك الساعة حول لقائه بالآنسة ضحى العبد الله. من حقه أن يحتفظ بخصوصياته ومسألة العواطف ومحاولته تقبيلها.كابرت فتجاهلت اندفاعه . لايشك في ذلك أما حيرته فقد تجلت في التحاقها به إو سعيه لتكون معه.ماذا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي؟ اللقاء قصير فما كان بوسعه أن يدخل معها في تفصيلات المستقبل..الاتحاد السوفيتي يعني روسيا وحدها.. ماكانت ترفضه أصبح حقيقة.. انقلبت الدولة الشيوعية العتيدة إلى دولة رأسمالية والتحق خيرة علماء الفضاء فيها بدول أخرى. باعوا أنفسهم لإيران وأمريكا وهاجر عدد منهم إلى كندا وبعض دول أمريكا اللاتينية فهل ترضى "ضحى العبد الله" أن تعيش في ظل نظام رأسمالي رفضته من قبل..هذاوارد حقا فيما إذا كان احتمال تجمع العلماء الروس على كوكب حجبوه عن العيون مجرد رؤيا غير واقعية لرائد فضاء يتعرض لوساوس وخيالات.. وهلوسة..منذ البدء قد يجد مبررا لإخفاء حبها القديم ورغبتها فيه حين تضع ذلك في موضع الخصوصيات سوى أنه لايجد مسوغا لتمسكها في البقاء هناك . ولايظن إصرارها ناتجا عن الخوف من مخابرات الفضاء الروسية لأن تلك المخابرات سمحت لعلماء روس ومفكرين وذوي مهارت خطرين بالذهاب إلى الدول الرأسمالية مع أنهم كانوا روسا أنقياء فكيف بها وهي من جنس آخر درست مثلما يدرس أي طالب أجنبي في أية أكاديمية سوفيتية ..سوف يقنعها بالتأكيد بعيدا عن عيون الرقابة ومجسات التنصت وقرون الاستشعار المزروعة في الفضاء فإن لم تقتنع فهو في هذه الحالة يقدر على التنازل كفاه خدم سويسرا أكثر من ثلاثين عاما .. تخلى عن جنسيته العراقية مقابل العلم فليتخل عن الجنسية السويسرية مقابل الحب.من حقه أن يعيش حياة مليئة بالحيوية والبريق مع امرأة رافقته في الدراسة فاكتشف بعد عقود طويلة أنه أحبها!

من أجلها سوف يفتقد المخبر وتجربة النفق على المغسلة التي حفرته يداها المرتعشتان !

ومن أجل " ضحى" فقط يفارق البحث وزملاء اليوم. إنها نصفه الذي يتابع تجربة الزمن معه، وهو متأكد أنهما لابد من أن يعيدا تشكيل العالم من جديد لا كما توهمته وهي طالبة عالما شيوعيا خالصا مثل خلية النحل بل عالما نقيا من المرض والغش والخداع والتزوير

هو العالم الذي حلمت به أنبياء الله المرسلون والماديون العلماء...

الملحدون والمؤمنون!

ربما شعر بتأنيب الضمير حين ذكر كل شيء بالتفصيل أمام لجنة العلماء ومدير مخابرات الفضاء السويسرية ماعدا حبا قديما كامنا لم يعرفه من قبل كان أشبه بداء خفي يسري في البدن من دون أن يشعر به صاحبه وتمتم وهي يخفي عينيه في الوسادة محاولا أن يروض الأرق:

لم أخف شيئا ولم أخن.. تلك مسألة تخصني وحدي ليس من حق أحد أن يطلع عليها!

 

د. قصي الشيخ عسكر

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم