صحيفة المثقف

التلاشي المرتقب لمفهوم الدولة عربياً.. إشكالية أمة لا تؤمن بها

رائد عبيسالإيمان بالحكومات غير الايمان بالدولة، ومجتمعاتنا العربية والإسلامية مازالت لا تؤمن بمفهوم الدولة بمعناه الحديث، فهي تؤمن بالحكومات التي تقودها وتؤسسها وتوجدها وتديرها، ولا تسعى للحفاظ عليها كسعيها للحفاظ على حكوماتها!! وهذه في الواقع إشكالية كبيرة وخطيرة موجودة، وما زالت راكزة في وعي الأجيال وقناعتهم بها، فهم ما زالوا يخلطون بين مفهوم الدولة وبين الحكم الإسلامي أو الديني. وهذا ما يفسره عدم اطمئنان أصحاب الديانات الأخرى كالمسيح، أو اليهود، أو الصابئة، أو غيرهم من مشروع الدولة الإسلامية؛ لأنه ربما يهدد وجودهم واقعاً ومستقبلاً، وهم لديهم تجارب في ذلك وتاريخ من الإقتتال المشترك، فهم لا يطمحوا أن يكون مفهوم الدولة يحمل عنوان لدين واحد، وهذا يدفعهم أما للمشاركة في الحكم والمطالبة به أو يتوجهون للمقاومة واثبات هويتهم بالقوة اذا منعوا من ذلك، ولعل مرد ذلك إلى جملة اسباب :

١-ان مجتمعاتنا تؤمن بالرمز الذي سرعان ما تضفي على رمزية الحاكم صفة القداسة، والخلافة الربانية للدين والرعية، وهذه تشجع على أن يتخذ من الدين غطاء بحكمه.

٢-  لم تؤثر بهذه المجتمعات تجربة حكم الدولة الحديث بسبب ارتهانهم تاريخياً للحكم بمفهوم الخلافة الذي يستمد شرعيته من المؤسسة الدينية.

٣- طبيعة هذه المجتمعات مازالت بدوية وريفية أو متحضرة قهراً أو منذ مدة حديثاً نسبياً لا يلائمها الحكم بمفهوم الدولة الحديثة الذي يتطلب مجتمعات متمدنة.

٤- مازالت هذه المجتمعات تعيش بيوتوبيا الحكم الإسلامي ودولته التي هي مطمح الأجيال المتلاحقة، وهذا ما تفسره كل الصراعات الاجتماعية داخل بلداننا العربية والإسلامية مع الحكومات المتعاقبة عليها، وان كان هذا التعاقد لم يعش بالكامل، فما زالت اغلب بلداننا تعيش تجارب الحزب الواحد والحاكم الواحد، ولم تألف التنوع في الحكومات الا بعد الربيع العربي. ولعل اسبقها العراق الذي فشل به الحكم الإسلامي الذي كانت تناضل من أجله شريحة كبيرة من المجتمع.

هذه الأسباب وغيرها حالت دون نجاح تجربة مفهوم الدولة الحديثة،والدليل أن كل سقوط نظام حكم في بلداننا تنهار معه الدولة وتفقد استقرارها، لأن المجتمع كان يؤمن بكرزمة الحاكم، وليس بحنكة إدارته وحسن تدبيره لشؤون البلد، ما ان غابت هذه الرمزية الكرزمية بدأ يحلم بظلها أو شبيه لها. ونحن نتذكر كيف لعبت قضية شبيه صدام حسين في عقول الناس وتركت الحيرة والامل عندهم، والأمثلة من البلدان الأخرى كثيرة .

فمجتمعاتنا وصلت إلى حد تأليه الحاكم وتقديسه، حتى بلغ الحال في بعض المؤسسات الدينية إلى تحريم الخروج عليه،ومعارضته، ومعصية عدم طاعته.

هذه كلها معطيات تنبئنا بتلاشي الدولة وانهيار مفهومها من قناعات المجتمع العربي تماماً، لأنها عجزت عن تحقيق متطلبات الدولة المدنية، أو الدولة الحديثة، من الخدمات وحتى الأسس المعرفية لهذه الدولة وثقافتها، فهي تعيش تجربتها الحديثة، وتثقف مجتمعها في الوقت نفسه على انتظار وترقب دولة الإسلام وحكمه ! فكيف تؤمن الأجيال اذان بمفهوم الدولة الحديثة ! التي أخذت صبغة علمانية في أعم تجاربها. فضلا عن إيمان أمة المسلمين بمفهوم الأمة، ورفض فكرة وواقع الحدود المصطنعة التي جاء بها "الاستدمار" وهو مصطلح بديل عن مصطلح الاستعمار نفضل استخدامه هنا،لأنه قريب من توصيف المسلمين له، لانهم يعدون الاستعمار مفردة قرآنية توحي بإعمار الارض الذي استهدف الله الإنسان فيها، فمفهوم الأمة هو مفهوم واسع، يتجاوز حدود الدول الصغيرة أو الكبيرة، ليمتد شرقاً وغرباً في المعمورة، فهي مشروع للدولة الكونية التي تقترب بها من الطروحات الفلسفية حول الفضاء الكوني الموحد لمفاهيم وتجارب مشتركة. وهذا يعني أن مفهوم الدولة الضيق الذي صنعته حدود سايكس بيكو، أو التقاسم الجغرافي لهذه البلدان بعد احتلالها من قبل الامبراطوريات والدول الاوربية لا تؤمن به مجتمعاتنا العربية والإسلامية، صحيح انها تتقاتل عليها، وتثار المشكلات السياسية حولها، فالأنظمة الحاكمة هي من ترسخ حدود دولتها بفكر مجتمعها عبر هذه الصراعات وحقيتها.

وبعد انهيار هذه الأنظمة ونظام الدولة ومؤسساتها، اصبح من الواضح أن تشكل الدول العربية ككيانات مستقلة أصبح من الصعب جدا، وهي تكشف عن انفتاح بين الحدود وتلاشيها، وهذا لا يعني توحدها بل لأنها فقدت السيطرة على إعادة هيكلها التقليدي الذي نشأت عليه، فكل دولة من الدول العربية ربما بعضها لا يتجاوز قرنا من الزمن، وان كان أ كثر فهو الأضعف أمام المستقبل الحامل لهذه الأفكار التي تأتي بفعل حركة التاريخ وسيرورته أو بفعل وعي المجتمعات، أو بفعل القوى الكبرى التي تطمح بالاحتلال لهذه البلدان. بفكرة الحدود المشتركة التي أصبحت مستباحة في سوريا مثلا، فضلا عن تجاوزها وعدم التقيد بها أمام التحركات العسكرية أو الدبلوماسية أو التجارية وغيرها.

وهذا الأمر سواء تم بعوامل وظروف استثنائية كالحرب والصراعات وغيرها، أو يأتي بواسطة اتفاقيات ونسخ تجارب وتعزيز وحدة، كما هو الحال في وضع مجلس التعاون الخليجي مثلا، وقبلة فكرة الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق التي انهارت وتبددت، فشعوبنا العربية تملك فكرة تلاشي الدولة وواقعها من خلال هذه التجارب، والمبادرات، والطموح بالوحدة القومية، سواء وجدت اليوم ام لم تجد فهي تبقى طموح الاجيال، وكذلك الأمة أو الشعوب الإسلامية، فهي تملك فكرة تلاشي الدولة وتوحيدها بعنوان أمة لا تعترف بالحدود بل تعترف بالمشترك، وهذا ما يجعلها تعبر الحدود وتتجاوزها، كما في فكر الدول التي تدعي أنها ترعى الإسلام في المنطقة كإيران والسعودية. وبكلا الأمرين لا يمكن اذان أن تتحقق الدولة بكيان مدني علماني حديث ومتطور في بلداننا العربية.

والمقال تتمة.....

 

الدكتور رائد عبيس 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم