صحيفة المثقف

الاستعراف والتنكر.. إشكالية الافصاح في الثقافة العراقية

رائد عبيسثمة حقيقة متوارية خلف طبيعتنا اذا هي تكشف عن اللا طبيعي فينا، وبين إظهار الطبيعة واخفاءها سلوكيات مختلفة مرضية وسوية، فالاستعراف هو معنى لفعل كشف المستور أو المتنكر الذي يتم التعرف عليه برغبة منه بعد محاولة المتنكر أو بدونها. فهي ليس لعبة بين المتنكر وغيره، بل هي ظاهرة اجتماعية تمارس بطريقة يوميه بل وفي كل لحظة وتجربة. هي علاقة بين الأنا المتنكرة والانا المعلنة، بين الأنا والآخر مسافة من عدم الصراحة، قصة من الخيال، حجج من الوهم، فتور من العلاقة وشدة، تصاهر وتقاهر، متر من الهندسة وميل من السايكولوجيا. ما لذي يجعل ذلك يحدث؟ ومتى نحتاج الى التنكر، ومتى لا نرفضه؟

هذه إشكالية مجتمع يكره مصارحة نفسه، ومن ثم ينتهي إلى جهل نفسه، وعدم معرفته ماذا يريد؟ بمعنى أن المجتمع الذي يكره كشف الحقيقة، هو مجتمع يرفض الاعتراف، وهذه نتيجة علمية وطبيعية لمجتمعات مغلقة تكثر بها حالات كتم الحقيقة بدوافع الخجل من الذات، وهذه مفارقة كبيرة أيضا إذ اننا نخجل من انفسنا عندما تتوارى خلف كواليس افعالنا، ولا نخجل من الفعل نفسه الذي احتاج الى كواليس!!

فهذه الذوات تكون ذوات مغلقة، محجوبة،مبهمة، غير صريحة، وغامضة، فهي انا معقدة مركبة غير منبسطة الى الآخر الذي تكره فعل الإفصاح أمامه. هل هناك مشكلة بالآخر تستدعي القيام بذلك؟ ام ان هذا جزء من الطبيعة البشرية الغير مهذبة أو مصقولة بأخلاق الاعتراف؟ ربما يكونا الاثنان معاً وتعليل لسبب واحد.

كيف ندرك أن المجتمع متنكر لذاته وعلى الآخر؟ ويحتاج إلى عملية استعراف؟ وبعد التعرف عليه كيف نعمل على تشجيع مغادرة التنكر الذاتي والاجتماعي؟ فالتنكر أصبح ليس ظاهرة فردية تقابل حالة فردية، كما في لعبة صديقين مثلا، بل أصبحت هناك حالات تنكرية جماعية،كحالات التنكر الجماعية في الحفلات. وهذه ظاهرة وإشكالية يجب معالجتها في المجتمع، ووضع دراسات اجتماعية وفكرية وعلمية واقتصادية لها .

بين الاستعراف والاعتراف مسافات سايكولوجية تفصل بين نية الفعل بالتنكر ومخاوف الاعتراف، فهناك قلق ذاتي من عدم اعتراف الآخر، لذلك نحن نحاول على الدوام أن نتنكر أخلاقياً أمام الآخر وننكره، ولا نفصح بحقيقة مشاعره اتجاهه أو الاعتراف له حتى يتم الاستعراف عليه بشكل تام، والاطمئنان إليه، ليقدم لنا اعترافاً متبادلاً، والا لا يمكن أن يكون هناك تعاون أو تفاهم أو تقارب اذا كان كل منا يحاول إلغاء الآخر، والتنكر إليه، وعدم الانفتاح له، ورفض الاعتراف به، سوف ننتهي الى شرخ كبير في العلاقات الاجتماعية وانماطها المختلفة.

واذا بحثنا عن مصداق عملي للأفكار المتقدمة،نجد أن السياسة كمجال يعاني كثيرا وبشكل مزمن من إشكالية محاولة الاستعراف والاعتراف. فقيام الأطراف السياسية التي تنتمي لطائفة ما برغبة التنكر المؤقت للطرف الآخر من أجل نيل مصالحها حتى تشعر المقابل انها غير مُتفاهمة أو غير متوافقة معه، لكسب كثير من المنافع الارضائية، فعملية التنكر هي عملية سياسية بعمق واستمرار التنكر يحقق منافع كثيرة ما ادام المقابل الآخر يتأخر بالتعرف عليه، وبعد التعرف القسري على المتنكر، يبدأ يطالب بشكل صريح وجرئ بالاعتراف به، سواء بكونه حرامي، أو سياسي، أو قاتل أو منافق، المهم عنده أن عملية الاستعراف عليه وكشفها لا تخسره مصالحه ومكاسبه ومغانمه، هذا اذا لم يتجرا اكثر ويطلب المزيد منها، كما هو الحال مع سياسيوا العراق اليوم. وهذه إشكالية ينسحب وجودها على كل التجارب السياسة العراقية والذي دفع كثير من أبناء هذا المجتمع إلى اتخاذ وسائل منحطة أخلاقياً، بسبب ثقافة اللا اعتراف أو التعرف الاجباري على الآخر والتنكر المستمر من قبله، حتى يتم كشفه مصادفتاً أو تخطيطاً.

فثقافة التنكر عند المجتمع العراقي أوجدت عنده نفاق مزمن ونكران دائم الآخر، ونقول دائم لأنه فعلا دائم، وما موجود منه هو فقط اعتراف المصلحة والمنافع، أما الاعتراف الموضوعي فهو مفقود دائماً بسبب العقد النفسية التي استوطنت نتيجة عدم الاعتراف والإلغاء. فهذه مشكلة أخلاقية كبيرة تفاقمت ظاهرتها في عمق المجتمع وأخذت تأخذ أنماط متعدد،كالنمط السياسي الذي ذكرناه في ما تقدم،اما الأنماط الأخرى كالتربية، والتعليم، والاقتصاد، والعشائرية عادة ما تترك أثرها الخطير الذي يؤدي إلى صراع اجتماعي ينتهي حتى الى القتل وغيره من ممارسات الإرهاب والاخافة.

نعتقد أن المجتمع الذي لا يعترف بأخطائه، ولا يشخص عيوبه، ولا يهتدي إلى نقد بناء، سيبقى مجتمع جاهل متخلف، وغير واعي لمتطلباته التي تقتضي في كثير منها الشفافية، والوضوح، ومصارحة الذات والآخر، و التكاشف بالمشكلات ومخلفاتها وخطورتها وأثرها في تمزق المجتمع وتكبيله عن طموح التنمية والتطور.  وللحديث تتمة.....

 

الدكتور رائد عبيس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم