صحيفة المثقف

مفهوم السيادة.. الدول الهامشية

مهدي الصافيلم يعد التاريخ او الحضارة او النتاجات والانجازات العلمية، والابداعات الثقافية والفنية او الايديولوجيات والاطروحات الفكرية هي معيار رئيسي مهم، يعتمد في تقييم الامم والشعوب الفاعلة في الساحة الدولية، انما لغة القوة والهيمنة العسكرية والسياسية والاقتصادية، سباق الاستحواذ ووضع الاقدام والاعلام على الارض (برا وبحرا وجوا) بين القوى العظمى يمتد في كل الاتجاهات والمجالات والقارات، لم يعد هنك فراغ كما نعتقد في الكرة الارضية خارج اطار التنافس، واسلوب بسط النفوذ والسيادة العالمية، قد لايكون واضحا للكثيرين ان اساس هذا التقسيم والتوزيع الامبريالي بدء مع نهاية الحرب العالمية الثانية (عندما تقاسمت القوى العظمى الدول الهامشية فيما بينها ووضعت يدها على مصائر الشعوب وثرواتها، واستخدمت عصا الامم المتحدة لتلك الظاهرة الامبراطورية العالمية، وحق النقض الفيتو في مجلس الامن الدولي)، ثم توسعت المفاهيم الجديدة لنزع السيادة للدول الهامشية اثناء حرب الاقطاب الدولية (المعسكر الرأسمالي والاشتراكي)، ولكنها اخذت منحى انفرادي متطرف مع نهابة الحرب الباردة، اي مع انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي بعد حرب الخليج الثانية١٩٩٠، ودخول الاساطيل والبوارج الامريكية منطقة الخليج العربي، وفي بحر الصين الجنوبي (واخيرا البحر المتوسط)، وانشاء قواعد دائمة لها في عدة دول (وبدأت تتحدث عن نشر القوات، وتنفيذ مخطط نشر الدرع الصاروخي في اوربا وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق)، لم يدرك البعض سابقا ان مفهوم النظام العالمي الجديد (القرن الامريكي الجديد)يعني بطريقة مباشرة نشر الامبريالية الرأسمالية بالقوة (وبصورة علنية) في العالم، الا ان عودة القوة الروسية (روسيا بوتين)الى الساحة الدولية، وبداية صعود التنين الصيني العالمي على مسرح التأثير الاقتصادي الدولي، واتجاه تلك الدول الى انتزاع الدول الهامشية في المنطقة من انياب السيطرة الامريكية، ومساعدة الدول النامية والناشئة على التقدم سريعا في مجال الصناعات التكنولوجية الحربية والنووية والمدنية، ونجاح برامج وخطط التنمية الاقتصادية والعلمية والاجتماعية، اعادت مرة اخرى اسلوب الحرب الباردة الى الواجهة ، ولكن بصورة اكثر حدة من السابق، اي تقريبا بعد احداث هجمات ١١سبتمبر الارهابية في امريكا، وكأنها عملية مدروسة بعناية تم تطبيقها او الحاجة اليها وفق خطط مسبقة، فجاءت حرب الخليج الثالثة (حروب خارج اطار الشرعية الدولية، اسقاط حكومة طلبان افغانستان، وكارثة حرب احتلال العراق٢٠٠٣)، لتكمل مخطط التمدد الاستعماري،

لماذا بدأت الحرب في افغانستان ثم العراق؟

، يبدوا ان الامر ايضا معد بطريقة مدروسة خبيثة ، حيث تدفق الافغان العرب وغيرهم من كل اصقاع الارض بعشرات الالاف على بلاد الرافدين، فقد عبدت جميع الطرق والمعابر الحدودية المجاورة للعراق ، وفتحت لمرور الارهاب الاسود، اضافة الى الارضية الخصبة والفراغ الشامل الذي تركه الاحتلال لهم في بغداد والمناطق الغربية الممتدة حتى حدود سوريا والاردن وتركيا، اقترب الارهاب سريعا من حزام بغداد (ازدادت التدهور الامني وبدا الاقتتال الطائفي حتى مرحلة سقوط الموصل بعد اندلاع الاحداث الارهابية في سوريا) ، تطورت الامور والمسارات والازمات والاحداث السياسية في عموم المنطقة بعد اعلان الصفحة الاخرى من مشاريع الهيمنة الامريكية العالمية على موارد الشعوب ومقدراتها مع بداية الاعلان عن مشروع الشرق الاوسط الجديد،

فكما هو معروف ان هذه الدول المعنية بهذا المشروع ، لم تكن مستقلة يوما ما في قراراتها وسياساتها الخارجية وحتى الداخلية (عدا ايران بعد عام١٩٨٠)، بل كانت خاضعة تابعة للاقطاب الدولية العظمى المؤثرة في القرارات الدولية والاعتبارات الامبريالية المتعلقة بتلك الدول، وهي مسلوبة الارادة تماما في مجالات التنمية والاصلاحات السياسية والاقتصادية، (اي بمعنى اخر لو ان اي دولة من هذه الدول اتجهت الى مشاريع اصلاح اجهزة الدولة ومؤسساتها وانتقلت سلميا الى النظام الديمقراطي سيتم حتما اجهاض تلك التجربة بكل الوسائل والاساليب والطرق المتاحة قبل وحتى بعد الحرب الباردة)، فما هو مطلوب من هذه الدول (الهامشية وفقا لنظرتهم الامبريالية الاستعلائية)ان تتبع النموذج الديمقراطي الامريكي-الاوربي الجاهز، والا سوف لايكون هناك اي معنى اعتباري للقوى الامبراطورية العظمى عندما لايكون لها القدرة على التدخل في صناعة قواعد الهيمنة الدائمة لها في تلك الاطراف الاقليمية البعيدة عن سيطرتها.......

كيف تفهم شعوب الدول الهامشية معنى السيادة:

لاخيار امام الامم والشعوب الحية في مواجهة هذه التصرفات والتدخلات السافرة في شؤون بلدانهم الداخلية غير اعلان الثورة الدائمة ضد طواغيت العصر داخليا وخارجيا، ولكن كم من ثورة سجلت لها نجاحات في تلك المواجهات الخاسرة مسبقا (قليلة، وتعد على عدد الاصابع ولازالت تنزف جراء الحصار والعزلة الدولية لها)، فالشعارات تشبه الاهازيج العربية العراقية التي تنفخ في معنويات هابطة لاتقوى على مواجهة اضعف ازمة او سلاح الكتروني موجه عن بعد، ولهذا نؤكد ان زمن الشعارات والانفعالات قد ولى مع تطور سلاح القوى العظمى النوعي ، اذ لابد ان تتغير نظرة الشعوب المضطهدة منذ عقود الى تلك الحقائق الواقعية والموضوعية المعززة والمسندة بالادلة والشواهد والتجارب العلمية والعملية التاريخية، عليها ان تقتنع تماما من انها تواجه اخطبوط وشبكات امبريالية رأسمالية واسعة تمتلك ادوات المراقبة والمتابعة والملاحقة الالكترونية الكونية المتقدمة عليها وعلى العالم بأسره، تخترق السيادة الوطنية والخصوصيات المحلية بالقوة كما ذكرنا، هذا يأتي مع تراجع وتدهور الاوضاع السياسية والاقتصادية والمعاشية والعلمية لشعوب تلك الدول الفاشلة،

مع الغياب الطويل للدساتير الوطنية الحديثة ، ولمفهوم التداول السلمي للسلطة، وانعدام الرؤيا والاليات والاسس

المنطقية الضرورية المهمة في بناء دولة المؤسسات، وكذلك اتساع الهوة والفجوة بين المسؤولين والاحزاب الحاكمة من جهة وبين الشعوب المتعبة والمنهكة او المنهارة معنويا، هذه الاخفاقات والانتكاسات والصراعات يمكن ان تكون سلاح داخلي موجه، تستخدمه القوى الخارجية لاختراق وتدمير وانتهاك سيادة الدول المستقلة متى شاءت وتحت اية ذرائع مصطنعة (كما حصل في العراق وليبيا وسوريا واليمن الخ.)،

الصراخ والتباكي على السيادة والخصوصيات والهويات الوطنية والثقافية في حين ان بلدك (بل كل مجالات الاختراق)تنتهك سيادته علنا وبشكل يومي تقريبا، لافائدة منه ولن يجدي نفعا، وانتم ترون منذ عقود ان اوربا (وكذلك امريكا، تفتح ابوابها للهجرة واللجوء) تفتح ابوابها امام المعارضين السياسيين والمهاجرين ، وبالاخص من تلك الدول الجامدة (دول العالم الثالث)، والناس مستمرة بالهرب من جحيم الفساد والفشل والجهل والدكتاتورية التي تعاني منه بلدانهم ومجتمعاتهم، وكأنها اصبحت فلسفة سياسية عندهم (اي الغرب) لكنها مكشوفة للبعض "اي انها اذا ارادت ان تدخل دولة ما في عنق الزجاجة ومشروع الابتزاز او الاسقاط الطويل الامد استقبلت منه المعارضة واللاجئين كلا حسب اهميته"

لاسبيل امام تلك المواجهات التاريخية المتوارثة الحتمية البشعة (لعبة الهيمنة الامبراطورية على العالم او الشعوب القريبة منها واعتبارها حدائق خلفية لهم)، غير لغة العقل والعلم والمعرفة والسيادة الشخصية للمواطن في ارضه وبلده وامام حكومته ونظامه السياسي، عبر اثبات الوجود في مختلف المجالات، ببناء منظومة البحث والتقدم والابتكار والانجاز العلمي والتنموي، والابتعاد كليا عن التقوقع والانكماش التراثي الاجتماعي والتربوي التاريخي ، والجري سريعا مع منظومة الازدهار الحضاري الالكتروني العالمي (على غرار تجربة اليابان وكوريا الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية)، والترفع قليلا عن العصبيات العرقية والقبلية والطائفية، والبدء بمرحلة فهم جديدة للدين والطوائف والاعراق، ومسألة الحاجة الملحة الى التفكير السياسي الحضاري السليم في بناء امة موحدة قوية داخل دولة ناجحة، بدلا من حالة القشل والدخول في دوامة تفكك المجتمع والدولة تحت سيطر المافيات والمليشيات والجماعات الدموية العنيفة،

عدا ذلك فهي تعد لعبة خاسرة لهذه الشعوب المنكوبة المغلوب على امرها، التي لازالت بعض قواها وانظمتها الثورية تعتقد ان حمل السلاح والمواجهة هي الطريق والسبيل الوحيد لانتزاع وفرض السيادة الوطنية الشاملة على الارض، ليس الامر تراجعا او استسلاما او قبولا بسياسة ولغة الامر الواقع، انما خيارات النجاح وبقاء هذه الدول الهامشية الفاشلة موحدة قليلة، بل تكاد تكون شبه معدومة، مالم يتم علاج خلل واسباب الفشل الداخلي والتهميش الدولي، اذ تعد تجربة ايران والهند وتركيا من النماذج العالمية الناجحة نسبيا في الابتعاد جزئيا عن دائرة التهميش الدولي لها، لاسباب عديدة منها قوة تماسك الامة التاريخي (وهذه عوامل حضارية تراثية تاريخية قد لايكون لها وجود في تجارب الشعوب والامم الاخرى او لعلها ضعيفة او مغيبة او مهمشة)، كذلك تمتلك موارد وعوامل اقتصادية وتجارية ومالية وتنموية شاملة ، ولديها رغبة في الاكتفاء الذاتي، وبعقلانية تجربة الاستثمار ، بتقسيم فرص وحصص القطاعات الاقتصادية (توزيع المشاريع بين القطاع الخاص الاستثماري مع القطاع العام )، والتحرر من قبضة الرأسمالية الامبريالية والديون الخارجية وشروط صندوق النقد والبنك الدولي بالتدريج، الخ.

الامم والشعوب العريقة ليست هامشية، انما الظروف الاستعمارية التاريخية حطمت ارادة هذه الامم في استعادة المبادرة للنهوض مجددا من كبوتها، وبمحاولتها طرح نظرية بناء دولة الامة اواسط القرن الماضي، فجعلتها عرضة لطاحونة الامبريالية الحديثة ، تخضع لشروط التقسيم الجغرافي الاقتصادي بين القوى العظمى، على سبيل المثال لم يكن امام سوريا وايران غير التحالف الاستراتيجي مع روسيا لمواجهة التحديات الامريكية والاوربية في المنطقة، هذه الشروط او الضرورات الموضوعية المتعلقة بتلك التحالفات هي من جهة اخرى تعتبر كسر للسيادة الوطنية بمفهومها الرسمي وحتى الشعبي العام (بالنسبة لسوريا اما ايران فهي في قائمة الانتظار)، الا انها تذهب او تختفي مع شعارات الثورة والمواجهة والتحدي الصمود والتضحيات الجسيمة، الا ان الحقائق لايمكن تلوينها اوتزييف صورتها الى الابد، تماما كما يفعل الاسلاميين الحمقى في المعارك وساحات القتال من انفعالات وحسابات غيبية فارغة، الامور لاتحسب هكذا خارج اطار العقل والمنطق، بل وفقا للمعطيات والعوامل والاسباب الموضوعية للمواجهة او الاستسلام المشروط، حتى لايصبح الحال والامر كثور هائج ينطح حائطا اسودا امامه حتى الموت ظنا منه انه باب الخروج....

السيادة وسبل رفع التهميش لاتأتي بالتمني والانتظاروالاعتماد على الاخرين انما بالعمل الجاد ليل نهار من اجل اثبات الوجود التاريخي والحضاري بين الامم والشعوب الاخرى

 

مهدي الصافي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم