صحيفة المثقف

انه المتنبي..يا وزارة الثقافة!

قاسم حسين صالحكنت مدعوا لحضور مؤتمر علمي تقيمه جامعة واسط، وحين وصلت النعمانية رجوت السائق أن ينعطف بي نحوها لأزور ضريح المتنبي.. وصلت وأديت التحية.. وتمنيت لو يبعث الآن حيا ليكتب عن حكّام العراق وما جرى لأهله.

كان المتنبي اشكالية في حياته وبعد موته ايضا، فما عدا المعلومة المتفق عليها الخاصة بأن اسمه الكامل هو (أحمد بن الحسن الجعفي).. مولود بالكوفة في محلة كندة عام (915م-303هج) وأنه قتل في (965م- 354هج)، فأن قضية مقتله ما يزال سببها مثار جدل. فوفقا لما جاء في مقدمة ديوان المتنبي، طبعة بيروت، فانه قتل بسبب قصيدة هجا بها ضبة بن يزيد الذي كانت والدته شقيقة فاتك الأسدي، فتبعه هذا وقتله في مكان يسمى دير العاقول بواسط، فيما يرى ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية) ان المتنبي كان قد مدح عضد الدولة بن بويه فأجزل له العطاء، ودس له من يستطلع رأيه أيهما أحسن عطايا عضد الدولة ام سيف الدولة بن حمدان فأجاب: هذا اجزل وفيها تكلف، وتلك أقل ولكن عن طيب نفس من معطيها.. فغضب عضد الدولة وأرسل جماعة من الأعراب فقتلوه بالقرب من النعمانية وأخذوا ما كان معه من أموال، فيما تقول رواية اخرى ان المتنبي جاء محمّلا بأموال وهدايا وبضائع من ايران وان سرّاقا اعترضوه وقتلوه وأبنه محسّد وخادمه مفلح وسلبوا ما كان معه.

ويؤكد الدكتور حسن منديل المتخصص بسيرة المتنبي وجود تناقضات في روايات قتل المتنبي، مرجّحا ان قتله كان مدبّرا ومقصودا بمؤامرة سياسية ولم تكن بسبب قصيدة هجاء لضبة او بسبب سرقة ما معه من مال، معللا ذلك بأن المتنبي قد احتز رأسه وحده دون من معه، وأن قبره الأصلي هو نفسه الموجود الآن في النعمانية .. وهذا شبه متفق عليه، لأن المؤرخ الدكتور عماد عبد السلام يرى ان قبره اما بالقرب من بغداد في المنطقة التي تعرف بأسم جرجريا، التي ازدهرت في العصر العباسي بالعلم والادب والعمران والسياسة وتقع بين واسط وبغداد، او في منطقة تقع غرب النعمانية تدعى الصافية.. غير أن سبب قتل ماليء الدنيا وشاغل الناس يبقى مجهولا!.

تمثال المتنبي

كنت اعدّ دراسة انجزت الجزء الأول منها في كتاب بعنوان (سيكولوجيا الفن التشكيلي) طبع ثلاث مرات تضمن تحليل شخصيات واعمال ثلاثة فنانين:بيكاسو وغويا وجواد سليم.وكان مقررا ان يتناول الجزء الثاني :فائق حسن وليلى العطار ومحمد غني حكمت.. وكنت ازورهم في أماكن عملهم.

وفي لقائي بالراحل محمد غني حكمت، وجدت انه صنع اربعة نماذج صغيرة للمتنبي ليختار احدها يكون تمثالا.وسألني عن رأيي في شخصيته فأجبته ان التحليل السيكولوجي لشخصية المتنبي يفيد بأن لديه تضخم أنا متورم، وطموح ليس له حدود مصحوبا بمثابرة تراجيدية في سعيه الى تحقيقه قاصدا دمشق ثم القاهرة ثم بغداد ثم أرجان فشيراز فبغداد.وأنه اراد أن يكون متميزا وأعلى مكانة من الناس والحكّام، لامتلاكه قدرات استثنائية في الشعر والفكر ايضا، اذ كان يرى نفسه انه (الطائر المحكي والآخر الصدى).. ولديه من الكبرياء ما تدفعه الى التفاخر والتباهي بأن:السيف والليل والبيداء تعرفه والرمح والقرطاس والقلم.. ايضا!.. وأن أدبه يراه الأعمى وتسمع كلماته من به صمم!!.وأنه ربما كان يعاني من عقدة نسب، لم يفصح عنه الا تلميحا في شعره يشير الى انه من بيت يفتخر به من ينتسب اليه بقوله في مجلس سيف الدولة:

(سيعلم الجمع ممن ضمّ مجلسنا   بأنني خير من تسعى به قدم).

كان محمد غني يعرف ذلك بفهم عميق ورؤية فنان محترف، وجاء كلامي هذا لتوكيد رؤيته.. فعمل انموذجا خامسا جسّد المتنبي بعنفوان الأنا والطموح الذي لا يحده افق.. وتم نصبه في ساحة البلاط الملكي.

نصب المتنبي.

يدهشك نصب المتنبي في النعمانية، ومع انه يشغل مساحة جيدة من الأرض، لكنه يعاني من الأهمال فلا توجد هنالك دار استراحة ولو صغيرة، بل انك لا تجد في المكان مرافق صحية، وقد شعرت بالخجل أن احد افراد وفد اجنبي تزامنت زيارته مع زيارتي، سألني اين يجدها .. وأسف لأعتذاري.

ويذكر أن اول ندوة نظمت بجوار قبر المتنبي كانت في عام 1963 حضرها الشاعران الكبيران الراحلان الجواهري ومحمود درويش والعلامة مصطفى جواد، فيما اقيم عام 1978 مهرجان شهد احتفالية لازاحة الستار عن قبره واقيم عام 1993 اول مهرجان شعري .. وآخرها مهرجان عام 2017 ، وان اهل واسط يتخذون من قبره مزارا دينيا للتبرّك، وانهم يسمونه (ابو سوره) عن رواية تقول ان جثة المتنبي قذف بها نهر دجلة الى هذا المكان، فيما تقول رواية أخرى ان مياه دجلة فاضت وانها حين وصلت قبر المتنبي شكلت تيارا قويا ظل يدور حوله .. ولهذا فأن بعض النساء يذهبن اليه لطلب المراد، كذلك بعض الحزينات اللواتي يردن خلع ثياب الحزن.

ان النعمانية مدينة جميلة، وان نصب المتنبي فيها ينبغي ان يكون تقليدا سنويا للأحتفاء بعبقرية شعرية استثائية يحضره ادباء وشعراء ومفكرون وأكاديميون عراقيون وعرب وأجانب في مهرجان ثقافي تلقى فيه محاضرات وتعقد ندوات يستحضر فيها ذكر رموز أدبية وفكرية عراقية وعربية وعالمية تعيد للعراق دوره الريادي في الشعر والثقافة، وأحياء لأثاره.. ويشكل مناسبة للسياحة ايضا.. لا ان تنشغل وزارة الثقافة والآثار والسياحة بقضايا أقل اهمية وتنسى من كان ماليء الدنيا وشاغل الدنيا!.

 

أ.د.قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

أمين عام تجمع عقول

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم