صحيفة المثقف

الهيبةُ والقداسةُ معنيان تجسّدا في مهنتيْ التعليم والطب

وبين جوانحنا نحملُ لهما المعنيين؛

قد يكون بعضٌ منا، مؤيداً، أو معارضاً، أو محتجاً؛ لكن هذه حقيقة لابد من إجلائها، لكي ننصف فئتين من المجتمع تحملان عنا وِزْرَ أمانيْن؛ أمان العقل، وأمان الجسم، وهل أولى من العقل والجسم أماناً؟

وقديما قيل: "العقلُ السليم في الجسمِ السليم"

ليس بالضرورة أن نتفق في تفسير هذه الحكمة الافلاطونية، كل منا يفسّرها حسب فهمه الخاص.

العقل هذا المخلوق الذي اختص به الله تعالى الإنسان دون غيره من مخلوقاته وهو لا مادي، بل قوة داخل الإنسان بها يدرك الحقائق، وبه يميز الصواب والخطأ والخير والشر، وفيه أبحاث كثيرة تتناول أنواعه، وهي لذوي الاختصاص في الفلسفة.

لو تتبعنا آيات القرآن الكريم نجدها محشوةً بكلمة يعقلون، وأفلا يعقلون، ويتفكرون، وأفلا يتفكرون، وتخاطب العقل وتوبّخ الذين لا يعقلون، ولا يتفكرون؛ وما أكثرها!

العقل؛ المخلوق الوحيد الذي حاوره الله واستنطقه بلغة الإشارة والكلام، و المسؤول عن كل أعمال وأحاسيس الإنسان ومشاعره الحسنة والسيئة، وليس القلب كما يعتقد بعضٌ منا. نقلاً عن الإمام الباقر عن الإمام علي (عليهما السلام) أنه قال: (لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبلَ، ثم قال له أدبر فأدبرَ، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب الي منك، ولا أكملتك الاّ فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهي، وإياك أُعاقب، وإياك أُثيب).

العقل أعز وأقرب محبوب عند الله جل وعلا، أوْكَل مهمةَ محاكاتِه وبنائه لفئتين منتقاة من الناس؛ وهما أيضا أحبّ خلقه اليه؛

الأولى: الأنبياء؛ وقد حملوا أمانة مخاطبة عقول الناس وهديها، وهم حملة رسالة السماء التي هي الإيمان بالله الواحد المطلق الخالق للكون، والإيمان بدينه وترك عبادة غيره من مخلوقاته. وهبهم الله جل وعلا علمه عن طريق وحيه، فحملوا رسالة الأمانة، وقد أرسلهم تبعا لمستوى تدرّج إدراك عقول الناس، التي يبدو انها لم تكن كما هي الآن. ولاقوا المزيد من الصعوبات والعوائق والآلام من الخَلق لصدّهم عن مهماتهم العظيمة ورسالاتهم السامية، وتحمّلوها بصبر وإخلاص لتثبيت رسالة السماء على الأرض. فآمن بهم بعضٌ وكفّرهم بعضٌ آخر، وهو ديدن الناس الذين هم أعداء المعرفة والحقيقة. اختص الله العقل بهذه الفئة ولم تكن قليلة، فقد قيل وفق ما نعرفه أنها بلغت بالعدد( 124) الف نبي.

الثانية: المعلمون حاملو العلم ومنفقوه، وهم أنبياء ورسل العلم والمعرفة، أيضا مهمتهم مخاطبة العقول، وبناؤها الذي هو ليس سهلا. عملية البناء صعبة جدا في كل عمل. يُبنى الأساس أولا، ثم الصعود بشكل تدريجي تسلسلي وبشكل حلقات واحدة متممة للأخرى. صناعة العقول من أشقّ المهام. بُناة العقول مهمّتهم تربية العقل وبنائه من نعومته الى بلوغه سن الرشد. ويكون العقل بعدها في أوج وقمة تألقّه، فهو مبدع نظري، ويعني يصوغ نظريات في مختلف العلوم والمعارف التي على أساسها تنطلق الإنجازات البشرية على امتداد الحياة، ومبدع عملي ينفّذ ويخترع ويكتشف ويطبق التجارب ويُجلي النتائج التي تعود بالفائدة على الحياة، يعني يشيدون بنىً عقلية للمجتمع في كل فروع العلم، وهي مهمة جسيمة وغير سهلة للغاية، لو فهمها المجتمع وتفهّمها. البشرية مهما بلغت منجزا مهما على كل صعيد؛ فالفضل يعود لهذه الطبقة من المجتمع. مايقع على عاتق المجتمع هو أن يقدّر ويعي أهمية هذه الطبقة فيوليها اهتماماً خاصاً ويرفع مقامَها.

الهيبةُ التي بدأتُ حديثي بها أعني هي ثقل مقام حامل العلم ومعلمه ومنفقه بإسراف. حين يُثقَل الرأس بالعلم والمعرفة تتشرّبه حتى الجوارح فيبدو على سيماءِ حامله ومنفقه نور العلم وسماحته، فتعلو الهيبة مُحيّاه ويحوطه التواضع والجلال، ويفرض الهيبة والإجلال بشكل عفوي دون اجبار على متلقي العلم والمعرفة منه، فيحمل لهم شعور الهيبة والقداسة بين جوانحه دونما تكلف، ويمكث الشعوران مكنونين بأمانة في نفسه، ونفوس من تربوا عليه على امتداد العمر.

نتمنى على كل من تلقى العلم على منفقيه أن يحمل الشعورين، وهما مهمان لحماية هذه الطبقة المجتمعية الخاصة، وضرورة حفظ هيبتها، واحترامها، وإجلالها، فمهمتها مقدسة؛ فالأمة التي تحفظ معلميها وعلماءها لم تخن تاريخها.

كثيرا ما صادفت هذه الطبقة على امتداد حياتي، وفي بعض الأحيان ألتقي بالصدفة أحداً، رجلا كان أو أمرأة، ولا أعرف عنه شيئا إن كان من أهل العلم أم لا، لكن هناك إشعاعا خاصا ينبثق منه يأخذ شكل سماحة المحيّا، وهيبة ثقيلة يفرضها عليّ، بشكل يجعلني أتهيّب قبل البوح بسؤاله عن نفسه، وقبل البوح أقول في نفسي: هو من أهل العلم، وحين أسأله يتبين لي صحّةُ ماخمّنتُ، ولا أعرف على وجه الدقة هل هذا الشعور يتخلل كل من صادف مثلي هؤلاء الناس أم لا؟ وهو تابع لإحساس كل واحد منا.

والقداسة التي أعنيها مستمدة من تعظيم أهل العلم ورفعة مكانتهم عند الله (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات)، والعلم المعني هنا ليس العلم الديني فحسب الذي يفهمه على الدوام رجال الدين، فالقرآن ليس حكراً على أحد دون غيره. القرآن حاوي علوم الكون ولو بإشارات ورموز.

أوتوا العلم: كل من حمل علما نافعا ينفقُهُ بكل كرمِ عقل ويد، وسخاء نفس، وسماحة روح، فيه نفع للانسان، ويعود بالخير والصلاح على الحياة البشرية، فضلا عن أحاديث الرسول (ص) التي وردت بحق أهل العلم، وثنائه على حملة العلم ومعلميه بقوله:(إن الملائكة لتضع أجنحتَها رضا به، ويستغفر له من في السماء والأرض، حتى الحوت في البحر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء).

فطوبى لهم ونعم الحسب والمقام.

للإمام زين العابدين علي بن الحسين(عليهما السلام) قول جميل في أستاذ العلم: (حق أستاذك عليك التعظيم له، والتوقير لمجلسه، وحسن الاستماع اليه، والإقبال عليه، والاّ ترفع صوتك عليه، ولا تجيب أحداً يسأله عن شيء حتى يكون هو الذي يجيب، ولا تحدّث في مجلسه أحداً، وأن تدفع عنه إذا ذكره أحدٌ عندك بسوء وأن تظهر مناقبه، ولا تجالس عدوه، ولا تعادي وليه، فإذا فعلت ذلك شهدت لك ملائكة الله بأنك قصدته، وتعلمت علمه لله عزوجل لا للناس).

وقال بعض العلماء: من حق أستاذك عليك أن تتواضع له وتحبه حب الفناء، ولا تخرج عن رأيه وتوجيهه، وأن تشاوره فيما تقصده، وتتحرى رضاه فيما يعتمده، وتنظر اليه بعين الإجلال، وتعتقد فيه درجة الكمال، وأن تعرف حقه ولا تنسى له فضله، وتحضر الى درسه قبل أن يأتي، ولا تنتقل أثناء درسه، ولا تتقدم في السير عليه، وأن تدعو له مدة حياته، وترعى ذريته وأقاربه،، وأن تصبر على صحبته، وتجلس بين يديه بسكون وتواضع واحترام).

وقال أبو حفص الأندلسي واصفا العلم ومعلمه: لله در القلم ما أعجب شأنه!! يشربُ ظلمةً ويلفظ نورا، وقد يكون قلم الكاتب أمضى من سيف المحارب، وقد يكون سيفا ينفذ في المقاتل، وشفرة تطيح المفاصل).

ماكس فيبر عالم الاجتماع الألماني قال واصفاً حالة القداسة التي تتجلى في معلّم العلم، في محاضرة له بعنوان (العلم بوصفه حرفة): عمل العالم يجب أن يكون محاطا بنور ما. قد يكون هو نفس النور الذي يوجد في الانجيل).

الشعور الذي أحمله لرسل وأنبياء العلم والمعرفة ليس شعوراً شخصياً، بالتأكيد هو شعور جلّ، أو كلّ من تربوا على منفقي العلم والمعرفة، وأبنائي يحملون نفس المشاعر إزاء المربين الكبار، ومشاعرهم عميقة تكتنفها معاني الهيبة والإجلال والإحترام، أخذوا عني وعن أبيهم أدب إحترام وهيبة الأستاذ، ويحملونه في صدورهم ماداموا.

وأحمد الله الذي وهبني أبناء يحملون المهنتين بإخلاصٍ وجديةٍ وتفان.

انهيار أدب احترام المعلم في العراق الجديد

وإذا أصيبَ القومُ في أخلاقِهم فأقِم عليهم مأتماً وعويلا

ما يحزّ في النفس أن عراقَنا الجديد يبدو حتى احترامُ المعلم ساقطٌ فيه، حتى الأخلاق والسلوك اختل توازنُه بين جيل اليوم. سمعت عن كثيرين أن المعلم يتعرض للعنف الرمزي والجسدي إذا وبّخ التلميذ على سلوك أو تقصير ما. هذه المهمة يجب أن يتولاها الآباء والأمهات في تهذيبِ الأبناءِ وتعليمِهم أدبَ إحترامِ المعلم وإجلالِه، إذا لم يكن الخللُ نابعاً من المنزل نفسه.

المشكلة الكبرى في العراق هو غزو القرى للمدينة وأعرافها التي ما أنزل الله بها من سلطان. أهل القرى بأعرافِهم العشائرية يتعاملون مع الحياة المدنية، والمدرسة إحدى واجهاتها.

إذا أخطأت المدرسة مع إبنِهم أسرعوا بأعرافِهم يهددون ويعربدون فيها، و أولها التهديد بالعنف الجسدي.

حين تضعف الدولةُ تسطو العشائر على المدن، فالعشيرة هي التي تحكم، فتحدث الفوضى ويحتدم الصراع والتصادم بين البداوة والحضارة، فتغلب البداوة باعتبار النزول أسهل من الصعود، فالحضارة فيها صعود وتطور ورقي وحين تطغى عليها قيمُ البداوة - قيمُ الصحراء وهي ليست من الحضارة في شيء - تهبط الحضارةُ وتنزل، فتتريّف المدينة والشارع والمنزل، كما عبّر ابن خلدون في كتابه (مقدمة إبن خلدون، الجزء الثاني، الفصل السادس والعشرون) عن ذلك بقوله: (العرب (القبائل) إذا تغلبوا على أوطان أسرع اليها الخراب). وهذا سبب الخراب والتدمير الذي اجتاح مدن العراق، لأن القرى سطت على المدن فتريّفت المدن، ولم يبقَ شيءٌ من قيمِ الحضارة الاّ النادر.

التقيتُ بعضَ الكوادر التدريسية، وكم نفثوا أمامي من حسراتٍ على ما وصل الأدبُ الاجتماعي بين صفوف جيل اليوم، والمعلمُ لا يحظى بالاحترامِ والإجلال منهم. أحدهم قال لي: أنا أستخدم القوةَ والصرامةَ القديمة وليكن مايكن، وأردف: أن من اللازم أن تعود الصرامة لدى المعلم حتى ينتظم الشعور بالمسؤولية لدى الطلبة ويسترجع الأستاذ هيبته التي سقطت بينهم.

آخر قال لي: وبّخت طالباً لتقصيرِه عن أداءِ مهامِه المدرسية، فهرع أهلُه وعشيرتُه يهددون المعلمَ بالتصفية الجسدية. هذه الممارسات الهمجية يجب الوقوف بوجهها بقوة، والمسؤولية تقع في المقام الأول على عاتق الدولة، والدولة حين تسقط هيبتها يسقط كل شيء فيها.

كنا في مقطع الدراسة الإبتدائية والمتوسطة في بعض المرات، إذا إرتكبت طالبة خطأً، فإن عقوبةَ الضربِ بالعصا تنالُ كلَ الطالبات، وكان هذا الأسلوب في وقتها يسبب لنا ألماً نفسياً وجسدياً نحن اللائي لم نرتكبْ ذنباً، لكن يبدو هذا الأسلوب يحمل في طياتِه لكل الطالباتِ رسالةَ الإنضباط وتوخّي الحذر من إتيان بفعلٍ نظيرِ الذي أتت به الطالبة المخطئة، مع تحفّظي على الأسلوب. بالإمكان أن تُضرَب الطالبة أمام الصف حتى يلتزم الجميعُ الأدب.

نأمل ونتمنى على الأهالي تعليمَ وتلقينَ الأبناءِ أدبَ احترامِ المعلم، فهو حامل رسالة العلم، وهي رسالة مقدسة، لاتختلف عن رسالة الأنبياء، والمعلمون هم أنبياء المعرفة، ورسلها.

طبقة المعلمين في المجتمع يجب أن تُقدّرَ، وتُحترَمَ، وتُحفظَ حرمتُها، وهيبتُها، ومكانتُها. تربية الأبناء على أدبِ إحترام معلم العلم، ومنشئ العقول؛ تبدأ من المنزل، والمدارس عليها تربية التلاميذ على أدب احترامِ المعلمِ وتبجِيله، ورفعِ شعارٍ كبيرٍ على لافتات على جدرانِ الساحاتِ والصفوفِ مكتوب عليها هذان البيتان من الشعر ل(أحمد شوقي)؛ وهما شعار احترام المعلم:

قُمْ للمعلـــــــــــــمِ وفّهِ التبجيلا     كادَ المعلمُ أن يكونَ رسولا

أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي    يَبني ويُنشي أنفساً وعقولا

واهبو الحياة

عودة الى الجسم الذي يتولى مهمة أمانه فئة الأطباء، هذه الفئة الواهبة للحياة بعد الله جلّ وعلا، نُكبر ونُهيب ونُقدّس مهنتهم الإنسانية العظيمة التي تتولى حماية جسد الإنسان، وتسهر على راحته، وتصب عصارة قواها الجسدية، والعقلية، والعصبية، والمعنوية على المريض لأجل إبقائه حياً سالماً معافا.

وهل قول أبلغ من قول الله جل وعلا في محكم كتابه عن محيي النفوس البشرية إذ قال (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا). هذا أبلغ تعبير عن معنى القداسة التي تحملها مهنة الطب.

القَسَم الذي يؤديه الأطباء بعد إتمامهم دراسة الطب وتخرجهم والمعروف بقَسَم (أبقراط) الطبي، والقسم المتداول هو قسم ديني مهما تلوّنت صوره حسب البلدان والأديان، والقسم بصورته أنقله لنتذكر ما يقوله الأطباء قبل مزاولة مهنة الطب الإنسانية؛ فما هو قسم "أبقراط"؟ وما نصه؟

 

قسم أبقراط Hippocratic Oath

"هو قسم أخلاقي تقليدي يقسمه الأطباء لممارسة الطب، ويعتقد كتبه أبقراط، أعظم أطباء عصره، أول مدون لكتب الطب، مخلص الطب من آثار الفلسفة وظلمات الطقوس السحرية، ومن أشهر الشخصيات على مر التاريخ في كل العصور وكل المجالات.

كان لأبقراط ولدان ثاسس وذواقن، وتلميذ فاضل جاد هو فولويس فعلم ابنه وتلميذه صناعة الطب مع الإفضاء اليهم بأسرارِها ودقائقِها، ولما رأى أن هذه الصناعة التي يكبرها ويجلها أوشكت أن تخرج منهم الى غيرهم وضع عهدا: استحلف فيه المتعلم لها: أن يكون ملازما للطهارة والفضيلة، وعرف فيه جميع ما يحتاج اليه طالب الطب.

نص القسم هو:

أقسم بالطبيب أبولو وأسكليبيوس وهيجيا وبانكيا وجميع الأرباب والربات وأشهدهم، بأني سوف أنفذ قدر قدرتي واجتهادي هذا القسم وهذا العهد. وأن أجـعل ذلك الذي علَّمني هذا الفن في منزلة أبويّ، وأن أعيش حياتي مشاركًا إياه، وإذا صار في حاجة إلى المال أن أعطيه نصيبًا من مالي، وأن أنظر بعين الاعتبار إلى ذريته تمامًا كنظرتي إلى إخواني، وأن أعلمهم هذا الفن -إذا رغبوا في تعلمه- دون مقابل، وأتعهد أن أعطي نصيبًا من التعاليم الأخلاقية والتعليمات الشفهية، وجميع أساليب التعليم الأخرى لأبنائي، ولأبناء الذي علَّمني، وللتلاميذ الذين قبلوا بالعهد وأخذوا على أنفسهم القسم طبقًا لقانون الطب، وليس لأي أحد آخر.

ولن أعطي عقارًا مميتًا لأي إنسان إذا سألني إياه، ولن أعطي اقتراحًا بهذا الشأن. وكذلك لن أعطي لامرأة دواءً مجهضًا. وسوف أحافظ على حياتي وفني بطهارتي وتقواي. ولن أستخدم الموسى حتى مع الذين يعانون من الحصوات داخل أجسامهم. وسوف أتراجع لمصلحة الرجال المشتغلين بهذا العمل. وأيا كانت البيوت التي قد أزورها، فإنني سأدخل لنفع المريض، على أن أظل بعيدًا عن جميع أعمال الظلم المتعمَّد، وجميع الإساءات وبخاصة العلاقات الجنسية سواء مع الإناث أو مع الذكور أحرارًا كانوا أو عبيدًا. وسوف أظل حريصًا على منع نفسي عن الكلام في الأمور المخجلة، التي قد أراها أو أسمعها أثناء فترة المعالجة وحتى بعيدًا عن المعالجة فيما يتعلق بحياة الناس، والتي لا يجوز لأحد أن ينشرها. فإذا ما وفيت بهذا القسم ولم أحِدْ عنه، يحق لي حينئذ أن أهنأ بالحياة وبالفن الذي شَرُفت بالاشتهار به بين جميع الناس في جميع الأوقات؛ وإذا ما خالفت القسم وأقسمت كاذبًا، فيجب أن يكون عكس هذا نصيبي و جزائي.

قسم أبقراط في الثقافتين العربية والإسلامية

"ترجم قسم أبقراط وكيّفه من اليونانية إلى العربية العالم العراقي السرياني حبيش بن الأعسم ـ ابن أخت الطبيب السرياني حنين بن إسحق وأحد تلاميذه ـ وأثبته ابن أبي أصيبعة في فصل خاص من كتابه "عيون الأنباء في طبقات الأطباء"، وقد دخل هذا القسم لاحقًا إلى اللاتينية ثم إلى اللغات الأوروبية الحية، ورجع إلى العرب في صيغته الإنجليزية أو الفرنسية، ليتم تكييفه من جديد في غالب البلدان العربية". (موقع ويكيبديا).

القَسَم الطبي حسب المؤتمر العالمي الأول للطب الإسلامي

"بسم الله الرحمن الرحيم. أقسم بالله العظيم أن أراقب الله في مهنتي. وأن أصون حياة الإنسان في كافة أدوارها، في كل الظروف والأحوال، باذلا ًوسعي في استنقاذها من الموت والمرض والألم والقلق، وأن أحفظ للناس كرامتهم، وأستر عوراتهم، وأكتم سرّهم. وأن أكون على الدوام من وسائل رحمة الله، باذلاً رعايتي الطبية للقريب والبعيد، الصالح والطالح، والصديق والعدو. وأن أثابر على طلب العلم، أسخِّره لنفع الإنسان لا لأذاه. وأن أوقر من علمني، وأعلّم من يصغرني، وأكون أخًا لكل زميل في المهنة الطبية في نطاق البر والتقوى. وأن تكون حياتي مصداق إيماني في سري وعلانيتي، نقيًا مما يشينني أمام الله ورسوله والمؤمنين. والله على ما أقول شهيد".(النص منقول من موقع "المعرفة" وموقع"ويكيبديا").

(ويضيف أبقراط الى هذا أن من واجب الطبيب أن يحتفظ بحسن مظهره الخارجي، وأن ينظف جسمه ويتأنق في ملبسه، ويجب عليه أن يكون هادئا على الدوام، وأن يكون سلوكه بحيث يبعث الثقة والاطمئنان في نفس المريض.

ويجب عليه:

أن يعنى بمراقبة نفسه، و...الا يقول الا ماهو ضروري..وإذا دخلت حجرة مريض فتذكر طريقة جلوسك، وكن متحفظا في كلامك، معتنيا بهندامك، صريحا حاسما في أقوالك، موجزا في حديثك هادئا، ولا تنس ما يجب أن تكون عليه أخلاقك وأنت الى فراش المريض، واضبط أعصابك، وازجر من يقلقك، وكن على استعداد لفعل ما يجب أن يفعل، وأوصيك الا تقسو على أهل المريض، وأن تراعى بعناية حال مريضك المالية، وعليك أن تقدم خدماتك من غير أجر، واذا لاحت لك فرصة أن تؤدي خدمة لإنسان غريب ضاقت به الحال فقدم له معونتك كاملة، ذلك أن حيث يوجد حب الناس يوجد أيضا حب الفن".

لقد مات أبقراط قبل ألفي عام، ولكن قسمه خالد يذكره كل طبيب ولو مرة واحدة على الأقل في حياته عندما ينتهي من دراسته، وانا لنرجو أن يظل هذا القسم العظيم عالقا بأذهان الأطباء، واذا كنا قد أتينا على ذكر هذا القسم فلكي يقف الناس جميعا على المثل العليا التي أرساها أبقراط في الطب والتي يجب على الطبيب تعهدها والتمسك بها). موقع المعرفة الألكتروني.

بنود القسم المقدس احتوت معايير أخلاقية مهمة ترتكز عليها مهنة الطب، نراها ونلمسها حين نحتك بعالم الطب والأطباء، وهو رافدها الأول. والرافد الثاني هو الحضن الأول الذي هو المنزل أو البيئة، وهو المنجم الأصل الذي تستقي منه النفس الإنسانية كل المعايير القيمية والأخلاقية والسلوكية، التي شكّلت البنى الأساسية لتشييدها، ولها دور فاعل فعال أيضا في حفظ العهد والأمانة الثقيلة والمسؤولية العظمى التي تتولاها، وطبيعي لكل من الناس وزن خاص لمعاييره حسب التنشئة التي تطبع عليها.

والقداسة التي تحملها مهنة الطب العظيمة، متجلية أولا بأداء القسم المقدس لأبقراط، وثانيا الطبيب يكون في حالة عبادة حين يكون بجنب المريض يطبّبه ويتفانى في الحرص على سلامته، والسهر على راحته. العبادة ليست فقط من صلى وصام وأدى الطقوس اليومية، بل كل من يقدم خدمة للناس ويكون سببا في راحتهم(الإيمان ما وقُرَ في القلب وصدّقه العمل) و (خير الناس من نفع الناس).

مع الأطباء لنكون منصفين

الهدوء الذي نراه على محيا الأطباء على العموم، هو هدوء وتواضع خاصان للعلم الذي اختزنوه عبر السنين، وأغلب الناس يُبدون آراءَ متباينة حول الأطباء. البعض يصفهم بالمتكبرين، أو المغرورين، أو ماشابه، وهي نظرات لا أتبنّاها ولا أؤيدها بأي حال ومهما كان حال الطبيب. من يمتلئ رأسه بالعلم ينحني ويصمت ويهدأ، وبدوره يُلقي علينا شعور الهيبة والإحترام والإجلال له. أما إذا بدا الغرور والكبر على بعض الأطباء فذاك سلوك شخصي يعكس حالة غير سليمة سببها الإعاقة النفسية والتربوية.

شعور الوجل والضعف حين ألج أي مشفى ينتابني، لكنه سرعان مايتبدد حين أرى الأطباء يؤدون مهامّهم بهمّة وجدّ وخلق كريم.

أغلب الأطباء الذين أزورهم، ولديّ خوف من الطبيب منذ صغري لكنه يتبدد رويدا حين أرى وألمس التواضع الجم الذي يتحلّوْن به، لدرجة حين ألج عيادة أي منهم يقوم احتراماً لي ويتحدّث معي بمنتهى الأدب بحيث يُنسيني حالتي، وحين أهم بمغادرة عيادته يقوم ويحييني والبعض ينحني، لدرجة أشعر بالخجل منه وأضطر حين الخروج اعود للخلف ووجهي قبالته احتراماً له.

قبل فترة كنت بصحبة ابني (علي) في عيادة أحد الأطباء، التواضع الذي بدا عليه الطبيب وهو يحدثنا بشكل تفصيلي، ويوضح كل شاردة وواردة، وحتى يستخدم اسلوباً ظريفاً، ويؤكد، ويعيد أن لا داعي للقلق؛ بدّد كل التوتر والخوف الذي كان يعتريني. حين هممنا بالخروج قام محييا، ومنحنيا، وودعنا بكل أدب واحترام.

قلت لإبني: هل رأيت التواضع الذي بدا عليه الدكتور؟ قال لي : يا إمي هو ثقل وهيبة العلم.

قد يتأخر موعد دخولي عيادته في وقت متأخر من الليل وألقاهُ متعباً، أحاول الإختصار معه، وهو محافظ على هدوئِه ويتكلم معي بالتفصيل بمنتهى الذوق والأدب، وأسلوبه هذا يحمّلني شعور الهيبة والإجلال ويحثني على الدعاء له ولأمثاله الكرماء العقول والقلوب والمشاعر.

ذات مرة سألتُ ابنتي تقى عن الأطباء المختصين بالعظام والعمود الفقري بالذات، لماذا على الدوام نرى على محياهم علامات الألم والتجهم المستبطن إرهاقاً واضحاً، ويصيبنا الإحباط؟

تجيبني: لأنهم على الدوام مشغولون بإجراء عمليات كسور العظام وماشابهها، وهي عمليات تطول مدتها الزمنية لذلك حين يأتون لعياداتهم نراهم مرهقين.

الحديث مع ابنتي تقى حول الطب وعالمه، هو حديث ممتع ومؤلم نخوضه معا. كلما نلتقي تحدثني الكثير عن عالمِها. بمجرد ولوجها عالم الطب تحديدا بعد الثلاث سنوات الأولى، صار تدينها عرفانياً، وصار لديها تواضع وخضوع خاصان، وفهمتُ آنذاك السبب وراء ذلك؛ وهو ان الطب يُدخل الإنسان في رحلة اكتشاف عظمة الخالق، ويُصاب عقله بصدمة قوية وهو يواجه عظمته جلّ وعلا في اكتشاف أدقّ الجزئيات في جسد الإنسان. حين تتناول موضوعيا طبيا تردد الآية (فتبارك الله أحسن الخالقين). كم تحدثني عن حوادث كثيرة للمرضى في المستشفيات. وتنفث حسراتها، وتستطرد؛ أن مشاعرها مستنزفة من المرضى، حيث الطبيب وظيفته ليست فقط علاج المريض، انما يغدق من مشاعره عليه، ويتألم مع المريض ويفرح لشفائه، ويحزن الطبيب، ويبكي بحرقة إذا توفى مريض بيديه، ويستبد به الحزن أياما.

ذات مرة كنت أتابع عملية فصل توءمين في إحدى مستشفيات العاصمة السعودية (الرياض)، على شاشة قناة الجزيرة المباشرة، وكانت عملية شاقة أرهقت الفريق الطبي المنهمك في عمله العظيم، كنت أقرأ على مدار الساعة إشادات وثناءات الناس المتدفقة على الأطباء في عملهم الذي يحمل كل معاني التفاني والإخلاص والجد والحرص الكبير على حياة الطفلين، العملية دامت لأكثر من (48) ساعة وطبعا في الأثناء تتم عملية استبدال الأطباء بسبب الإرهاق وعدم النوم الذي يتخلل العملية الكبرى، هذا العمل هو بحد ذاته عبادة في محراب خاص مقدس، لا أستطيع وصف حجم الفرح الذي تخلل قلبي، وقلوب الناس الذين أمطروا الفريق الطبي بسيل من الرسائل التي تشيد بهم، وبعملهم العظيم في إنقاذ حياة طفلين، وإطلاق سراح حريتهم للتمتع بالحياة واستنشاق هواء الحرية الذي هو أنقى هواء نستنشقه على امتداد حياتنا. كان بودي في ذلك اليوم وكان قبل عشر سنوات، أن لدي جهازا من شركة آبل لأوجه كلمات الشكر والثناء للفريق الطبي على عمله العملاق هذا، لحرارة قلبي التي كنت أتابع بها العملية الكبرى. وقد ورد عن الحديث الشريف ومع الأسف لا أستحضره في ذهني، ما معناه أن الشهيد ليس فقط من سقط في ساحة المعركة. بل هناك سبعة أنواع من الشهيد، من بينهم من يسهر على مريض بقصد سلامته وراحته ثم يوافيه الأجل فهو شهيد. ومن يمت وهو منهمك في خدمة الناس فهو شهيد.

نُحيّي واهبي العقل العلم والمعرفة،

نُحيّي واهبي الجسم الصحة والحياة.

(وإذا قلتم فاعدلوا)

 

بقلم: إنتزال الجبوري

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم