صحيفة المثقف

النجف وهويتها.. إشكالية الأنا المتضخمة والآخر المُقَدِسُ

رائد عبيستعد النجف حاضرة علمية وثقافية، ذو عمق تاريخي بذلك، فهي مدينة لا يختصرها حاضرها، الذي تشوبه كثير من المشاكل والإزاحات عن ذلك الإرث، الا أنها مازالت  محافظة على تلك الرمزية وان تبدد كثير من محتواها، فالنجف اليوم تحاول أن تستعيد جزء من تاريخها، وسمعته، مع عوامل جديد أصحبت محط تساؤل من يجهل تاريخ هذه المدينة أو لديه ضبابية عن علاقة النجف بمحيطها أو علاقة محيطها بها، وكأنما هناك تصور يوحي بأن النجف مدينة منغلقة اجتماعيا بالكامل،  ولا تحمل من عناصر الحداثة شيء أو أنها مدينة تعكس لغة التزمت،  أو التعصب التي تصدر من مواقف بعض شرائحها أو من أفراد. فالنجف لا يمكن اختزالها بشخص،  ولا بحزب، ولا بجهة، ولا بمرجع، ولا بتوجه،لأنها مدينة منبسطة في علاقتها مع الآخر منذ زمن بعيد ومنفتحة على الجميع، لم تكن مدينة  لعرق ما، أو كانت مدينة لدين ما، أو لطائفة ما، كانت حاضرة علمية وثقافية للجميع،  وكانت عاصمة الإسلام لكل المسلمين قبل التشيع وقبل التسنن.

فعلاقة الأنا بالآخر في الفضاء النجفي، تحددها عدة معايير منها معيار العنصرية عند سكان المدينة القدامى ولا نقول الأصليين، بينهم وبين الوافد من جهة، وبينهم وبين ابن الأطراف من جهة أخرى. وكذلك معيار اقتصادي فهي مدينة تجارية بالدرجة الأساس، كسبت هذه الميزة من كثرة الزائرين، واعتمادهم على بضاعة النجف، بكونها بحسب تصورهم تحمل طابع البركة لكونها، بضاعة مجاورة لمرقد الامام علي بن ابي طالب، ومعيار ديني عقائدي يحدد علاقة الأنا المتدينة بالآخر المتنوع،  الثقافة الدينية من جهة،  أو المختلف كأتباع الاديان الأخرى والطوائف والايديولوجيات من جهة أخرى، كالماركسية والشيوعية وغيرها.

على وفق هذه المعايير وغيرها وعلى الرغم من بعض قيودها، سجلت النجف تجربة متسامحة مع الجميع منفتحة مسالمة معتدلة، فأديرة المسيح مازالت حاضرة معالمها الى اليوم، مكاتب الحزب الشيوعي على مقربة من الحوزة الدينية، التنوع في الولاءات الطائفية موجود ومقربة من مكاتب حتى رجال الدين، خطابها المعتدل والمساند لقضايا الأمة والإسلامية والعربية، أسهم في جعلها مصدر مهم في المواقف الدينية أو المواقف السياسية وهي محافظة ومؤثرة بهذان البعدان الى اليوم.

فهوية النجف لا يمكن أن تكسبها صفة طائفية مغلقة، أو عزلتها الدينية، أو بكونها رمز لطائفة معينة، بل العكس فطباع اهلها وان تمحورت على الأبعاد التي ذكرناها سابقاً، الا انها ترحب بالمختلف وتتحاور وتتفاعل معه، فتجربة طلبة العلوم الدينية خير شاهد وتجربة احتضان النازحين خير جواب،اذ لم يكن النازحين العراقيين فقط هم من قصدوا النجف، بل حتى من دول الجوار وغير الجوار من أفغانستان وسوريا وجنوب أفريقيا وغيرها.

وهذا يعني أن هذه المدينة، رغم كل معالم القدسية التي تكسبها أو التي تطلق عليها، إلا أنها تعيش حالة من الانفتاح حول مقومات الحداثة، فنجد مثلا محلات الملابس والمولات وغيرها من المستجدات، ومتطلبات المدنية قد كثرة وشاعت بين شوارعها واحياءها، فكثير من زوار المدينة يجدون هناك هالة محاطة بالنجف توحي بعزلتها إلا أنهم يتفاجئون بمقومات انفتاحها بما في ذلك العمراني ونمط الحياة والأوساط الجامعية الذي فيه فضاء من الحرية يختلف نسبيا عن اوساط المدينة الأخرى.

ولكن ما تحتاجه المدينة اكثر هو إيجاد وسط من الوعي الاجتماعي العام حول الثوابت والمتغيرات حتى تساعد النجف في الحفاظ على مقوماتها الحضارية، وتحسن واهلها التطلع للمستقبل بعيدا عن هدر هذه المقومات، وهذا الطموح بحاجة إلى تظافر جهود الجامعة والحوزة، ومكاتب رجال الدين، والأوساط الاجتماعية،من أجل الاتفاق على طابع موحد لفضاء هذه المدينة، بعيدا عن أهواء الأحزاب، والأطراف التي تدعي أنها تمثل النجف، وما قانون القدسية الا مثال يذكر هنا في تبديد هذا الطموح، لأنه تجاوز كل آراء الأوساط المجتمعية والرسمية التي من الممكن بها تسود حالة من الوسطية والاعتدال والتسامح مع الآخر وتعميق المساحة الموجودة منها لهذه المدينة،  وما تحمله من أهمية بالغة في عالمها. وهذه هي دعوتنا للعودة بهذا البعد الحضاري الذي تتمتع به النجف الى الواقع، من أجل حاضر أكثر استقرار، ومستقبل أكثر اشراقاً و ازدهاراً لهذه المدينة وتابعيها، لتكون حاضنة وحاضرة للعالم الإسلامي، ومصدر قرار دائم للمجتمع العراقي الذي ينظر لها بهذه القدسية والأهمية.

 

دكتور رائد عبيس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم