صحيفة المثقف

فوضى الحياة في: مدينة.. تأكل أولادها

رحمن خضير عباسعن مؤسسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع في بيروت. صدر للكاتب المغربي شكيب أريج كتابٌ بعنوان مدينة تأكل أولادها. وقد وُصِفَ المؤٓلَّف ب " الكائنات القصصية" وكأنما أُريد من ذلك إعفاء الكاتب عن مهمة التصنيف من الناحية الفنية، وترك ذلك للمتلقي، ليتلمسَ بنفسه هوية العمل وتصنيفه، على أساس السؤال الذي يُلّح على القارئ:

هل (مدينة تأكل أولادها) مجموعة قصص قصيرة خضعت لهذا العنوان ؟ أم أنها فصول مجتمعة تكوّن بمجملها رواية تحت هذا الاسم الذي أشرنا إليه ؟

لذلك فحينما تتصفح الكتاب، نقع في حَيْرة التجنيس، بين الرواية أو القصص القصيرة.

وذلك يرجِع إلى الشروط المتعارف عليها في العمل الروائي، الذي يتكوّن عادةً من مجموعة من الفصول، تساهم في نمو الاحداث وتناسقها أو ترابطها. وهذا ما لم نتلمسه في هذا العمل. وذلك لأن قصة (الحلقة) منفصلة عن السياق العام للمجموعة، لها بناؤها القصصي المستقل عن بقية متون النص. وكذلك يمكن القول عن قصة (رجل الجريدة والعمود).

فاذا افترضنا أنها مجموعة قصصية. فينبغي أنّ كل قصة منها تكتفي بذاتها ومضمونها وأبطالها ولا تترك النتائج للقصص الموالية، لذا فمفهوم المجموعة القصصية لم يتوفر في بعض النصوص التي أكمل بعضُها بعضا، من حيث العقدة والشخوص. وكأنها فصول لرواية واحدة. وذلك لنمو الفعل الروائي من فصل لآخر، وإعادة نفس الاسماء مثل عبيقة وعبيروش ومبروك وعلال التنس.

يبدو أنّ هذا العمل الأدبي اعتمد على ترك الاحداث والشخوص تتحرك وتتجول بين متون النص، تحت فضاء مدينة هائلة وقاسية تعتصر أبناءها في لوحات سردية، تقرّبنا من أسلوب (الكولاج) القصصي، والذي يعني عملية انتزاع بعض الحوادث السردية، والتي يُفترض أن تكون في هذا الفصل / القصة، ولصقها في قصة أخرى. أو محاولة توزيع المتن القصصي بنصوص مجتزأة، كي تتبعثر الصور الحكائية في مساحة اللوحة. ولكنها تبقى ضمن إطارها العام. وقد شاع أسلوب الكولاج في الفن التشكيلي. وأعتبر في وقته نوعا من التجديد للفن الكلاسيكي الذي عرف فترةً من الركود في بداية القرن العشرين.

وكان من رواد الكولاج والتجديد في قواعد بناء اللون الفنان المعروف بيكاسو. ولكن أسلوب الكولاج الذي أدهش المتلقّى وأثرى الفنون التشكيلية، قد لا يكونٓ ملائما للرواية أو القصة، اللهم الا في حالات معيّنة، يصل فيها الكاتبُ إلى التخمة في الكتابة التقليدية، فيضطر إلى كسر القواعد المعمول بها. وانتهاج أساليب روائية أكثر حداثة.

لكنّ التحرر من السياقات المألوفة، قد يجعل الكاتب في مواجهة مغامرة فنية غير محسوبة النتائج في التجربة الإبداعية.

في قصة الحلقة يتألق الكاتب شكيب أريج. فيصف لنا حلقات الحكواتي. مركّزا على عنصر التشويق لمعرفة السر الذي طرحه في حلقته. والذي يتمثّل في تحويل الحمار إلى حرير، لقد استطاع الحكواتي أنْ يصنع هالةً من التشويق والفضول بين الناس الذين تجمهروا لمعرفة نتيجة هذه المعجزة. ولكنّ صاحب الحمار وضع شروطا لهذا التحوّل المستحيل. هذه الشروط تتمثل بمحاولة تجسيد المدينة، ووصفها وتأمل زواياها وأسرارها، ومعرفة أهلها وطبائعهم.

فيبدأ بالحديث عن الناس الذين يؤمّونَ المدينةَ ويفترشون طرقاتها واسواقها، للبحث عن العيش والعمل. يتحدث عن بنية المدينة وما تحتويه من مستشفيات بائسة، يتحدث عن شوارعها وأرصفتها وشبابها الذين يعانون من الفراغ والبطالة. يتحدث عن طقوس أهل المدينة في أفراحهم ومناسباتهم، عن وسائل نقلهم ولهوهم، عن طوابيرهم المصلوبة على شبابيك الانتظار في مراكز البريد والمصارف والشرطة والصيدليات. يتحدث عن الأبخرة والسيارات والدراجات الهوائية، عن المتسولين والسكارى والعمال والفلاحين وبائعات الهوى.

وبعد أن يتحدث الحلايقي عن كل زاويةٍ من زوايا المدينة، وعن أغلب مظاهرها.

يستخلص نتيجةً مفادها:

" ها هو الحمار صدقوا أو لا تُصدقوا.. صبركم وحده لو تدرون كفيلٌ بتحويله إلى ذهب " وهذا يعني أن التحوّل، هو أن لا يرى الانسان الأشياء بعيون غبية،غير قادرة على التحليل والتشخيص، وإنّما بعين الوعي والإدراك.

لقد استطاع الكاتب أنْ يشحن هذه القصة بطاقة هائلة من التشفير اللذيذ، والرموز الثرية التي تمتلك كمّا هائلا من القدرة على إدراك الواقع وتشخيص عاهاته.

واختزل المدينة كلها ككيان اجتماعي واقتصادي في حلقة للفرجة التي يمتزج فيها الجدّ بالهزل، وحيث تتكون المدينة/ الحلقة من زحام بشري، (يُمغنطه) الفضول والإنصات وانتظار الإعجاز. دون أن تساهم هذه الوجوه المزدحمة والساعية إلى الفرجة المجّانية، الوجوه الخاملة والكسولة، غير القادرة على رفض الخرافة، أو السعي إلى الاحتجاج على منطقها المنحرف. تظلّ هذه الوجوه متلونةً بفداحة جهلها، حتى تجعل من هذا الحكواتي الذي استطاع أن يستقطب فضولهم أن يعلن لهم:

أن عمل المستحيل (تحويل الحمار إلى حرير) يكمن في وعيهم وبصيرتهم وإدراك حجم المخاطر التي تحيط بهم. هذا الوعي والقدرة على التمييز،هو المعجزة الحقيقية.

لقد استخدم الكاتب تقنية قصصية متداخلة ومتشعبة. من حيث ثنائية السرد، الذي يأتي مرّة على لسان الحكواتي ومرّة على لسان السارد، وتداخل الأصوات بينهما، حتى يجد القارئ نفسه أمام رؤيتين لمشهد واحد.

كما نجح في تسخير كل أدواته الكتابية، لينفذ إلى روح الحلقة كتراث حكائي فولكلوري، تمتزج فيه أنواع متناقضة، كتجسيد العبر من التراث. وبثّ الحكمة والموعظة. وتلفيق الحكايات الماضية ومحاولة مسرحتها، وتقديم الطرائف والألغاز والأحاجي التي يمتزج فيها الواقع بالخيال كما تمتزج الحقائق بالأكاذيب، ويستلّ منها جملة من الرؤى والأفكاروالمفاهيم والقيم، ليبثها في هذه القصة الجميلة فنيا والثرية فكريا.

قصة (رجل الجريدة والعمود) ذات بعد تجريدي بالمعنى الفني، بمعنى تجريد ما هو محيط بِنَا عن واقعه وإعادة صياغته برؤية فنية. تتداخل فيها الالوان والمشاعر والرؤى المختلفة. الرجل كان مريبا بالنسبة للآخرين، غير منسجم مع المشهد المحيط به وكأنه توأم للعمود الذي يضيء العتمة في الليل، ويبقى دون إضاءة طيلة النهار، والرجل شبيه بالعمود، من حيث السكون وعدم الفعل الحقيقي.

فهذا الرجل الغامض، والذي يجلس وحيدا كل يوم وفي نفس المكان، يقرأ الجريدة ويراقب حركة الشارع. بشكل لا يختلف عن عمود الضوء في سكونيته. هذا الرجل كان يعيد المشهد وفق رؤاه وكأنه يمتلك المكان. حتى ظنّ الناس بأنه مخبرٌ يتجسس على أفعالهم. لكنّ هذه الرجل الذي يجاور العمود ويشابهه. قد اندمج كليا معه في لقطة فنية تجريدية. ترمز الى الخواء الروحي الذي يعتري بعض النماذج في المدينة، ليتحولوا إلى دمى وبيادق. لا تعي الحركة. إنه الخمول الحقيقي وعدم القدرة على الفعل.

موت رجل الجريدة بفعل سقوط العمود عليه، لم يُشكِّل ضمن سياق القصة، سوى البعد عما هو واقعي، وتجريده من مضمونه كحادثة موت. لقد ورد في القصة وكأنه حالة اتحاد بين كائنين عبثيين ؛

الرجل الفائض عن حاجة المدينة، والعمود الذي تقادم بفعل الزمن.

وبدلا من ردود الفعل التي تندهش وتُصدم لحالة موت مفاجئ، تحولت إلى مشهد لوني لا يكترث للموت كفاجعة، وإنّما كحالة تجريدية:

" سائل القهوة السوداء اختلط بسائل أحمر بأعقاب سجائر والعمود يجثم على وجه الرجل المُهشّم "

قصة الخم التي تتحدث عن أنواع الدجاج وطبقاته، والتفاوت بين أنواع الدجاج، لا قيمة لها من الناحية الفنية. فهي ترديد لرموز حيوانية وردت في أزمنة غابرة،مثل كليلة ودمنة التي أصبحت مُتَجاوزة و مُستهلكة.واعتقد بأنّ ذهنية الكاتب شكيب أريج وثقافته قادرة على استنباط ما هو جديد من واقعنا المُعاش، ومحاولة رفده بالرؤى والأساليب الفنية والإبداعية، دون الحاجة إلى الإطلالة على التراث، وتكرار بعض مضامينه.

في القصص الأخرى، ثمة أبطال التقطهم الكاتب من قاع الحياة. واستطاع أن ينفذ إلى علّة ضياعهم. جسّدهم لنا وهم يصارعون وجودهم القلق على حافة الهاوية.

هؤلاء (الأولاد) الذين يعيشونها بكيفية أقرب إلى الموت البطيء، ومنهم (عبيروش) ماسح الاحذية، الذي وجد نفسه على أرصفة التشرد والفقر والاهمال في هذه المدينة المزدحمة بالبشر. ولكنه يقاوم شظف اللحظة بالعمل الذي لا يقدّم له سوى مسخ إنسانيته، وبحكم عمله كماسح أحذية، يقيم علاقات جنسية شاذة مع سائح مأبون، طمعا في المال وليس كحاجة جنسية. ولكنّه يُدرك فداحة ما يقوم به، ويكره ذلك. وحينما يقوم بسرقة ممتلكات السائح يتعرض لاستجواب من قبل الشرطة، التي تقف مع السائح. كما يطرح النص شخصية (عبيقة) الذي يعيش على جمع أعقاب السجائر ومخلفاتها، والذي يشارك عبيروش في نفس الجنحة التي ارتكبت للسائح المأبون. وقد استطاع الكاتب بطرف خفي أن ْ يُلمّح إلى قسوة الحاجة والتشرد التي يعيشها هؤلاء في مدن الفاقة، ويقارنها بترف أبناء مجتمعات الوفرة الذين يأتون من أوربا، وهم محمّلون بتخمة العيش وتمظهراتها من شذوذ جنسي وجنوح أخلاقي. كما يشيرإلى غياب القوانين التي تحمي الطفولة المشردة، والتي تسقط في فخ الانحراف الاخلاقي، بسبب الحاجة الملحة، لأطفال لا يجدون سوى شوارع مدينة لا تكترث لأبنائها، بل أنها تسعى لتدميرهم واستهلاك جذوة طفولتهم.

واذا كان عبيقة وعبيروش يجسدان بؤس الطفولة، فشخصية مبروك وعلال التنس تمثّل الازدواجية في السلوك، ما بين التقوى الظاهرية وما بين الفعل الحقيقي القائم على الغش. ومحاولة استغلال سذاجة الناس وبيعهم ماء زمزم مثلا. وقد أورد الكثير من الحكايات التي تدلّ على نوع من الانحرافات العقيدية.

ولكن ثمة صور أخرى تتحرك في اللوحة السردية، ومنها علاقة خندوشة بحبيبها العاطل عن العمل،والذي يمتلك الوعي بحالته المزرية فيسقط ضحية لطموحاته غير المتحققة. وحينما يلتقي بخديجة في موعد عاطفي على أسوار مدينتهم، يتعرضان إلى تحريم السلطة لسلوكهما المحظور، والذي تمثٌل في لقطة تجريدية بصعود الشرطي إليهما، وربط وثاقهما بأغلاله، ولكنّ الشرطي يسقط من السور ويموت. ويجدان أنّ انقاذهما وكسر الأغلال يكون بيد رجل دين. الذي يحاول أن يكسر القيود بسيفه، في مشهد يثير الرعب فيهما.

في هذه القصة يحاول الكاتب أن يقدّم لنا صورة تجريدية، يمتزج فيها المُتخيل بالممكن. ومزج الوهم بالواقع، ويتصاعد الموقف إلى ذروته، رعب اللحظة في التخلص من الأغلال والذي يحتمل المخاطر والاحتمالات. ولكنّ هذه المواقف تنطفئ في النص دون إشارات واضحة ومقنعة.

تحتوي هذه المجموعة القصصية ايضا، على الكثير من الصور والمواقف والبشر. والذين قدمهم الكاتب وهم يمارسون طقوسهم الحياتية، تحت وطأة ظروف ومُناخات مختلفة. إنه الصراع المحموم من أجل البقاء، ضمن مساحة جغرافية مسوّرة بالأضداد والمفارقات التي لا ترحم أحدا.

الكائنات القصصية التي قدّمها شكيب أريج، كأول عملٍ إبداعي له، جديرة بالتأمل والتحليل، وجديرة بالاحتفاء.

لقد كان أنيقا في أسلوبه، بليغا في لغته، لا يتردد في استخدام اللهجة المحكية وفق مقتضيات الأحداث وضروراتها، فقدم لنا مدينة مهيبة حافلة بعبء ابنائها. من خلال سيل من الحكايات التي شحنها بجملة من المفاهيم والأفعال. كما قدّم تصوراته عن مدينة يعشقها ويهيم بها. وما هذه الكائنات التي جسدها على هيئة قصص واحداث سوى تعبير عن حالة الذوبان في مدينة يسعى ويتمنى أنْ لا (تأكل أولادها).

 

رحمن خضير عباس

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم