صحيفة المثقف

الماهية في الوجودية والفينامينالوجيا

علي محمد اليوسفتعريف اولي: لمعرفة مفهوم الماهية فلسفيا في عنونة المقال، يتوجب معرفة الخصائص الفلسفية لكل من الوجودية والفينامينالوجيا في تعالقهما المشترك في التعبير عن موضوعة الماهية والوجود، أذ تذهب الوجودية، بأن الوجود سابق على الماهية، على العكس (من الفينامينالوجيا التي تعتبر نفسها فلسفة ماهيات وليس فلسفة وجود).(1)

كما أنه من المهم التنبيه منذ الآن الى أن الوجودية، (تعتبر الانسان لا يمتلك وجوده لأنه هو هو وجوده) في أبعاده المتعددة. عليه تكون أنسانية الانسان هي ماهيته أذا جاز لنا فصل ماهية الانسان عن وجوده، والانسان أكتفاء متحقق في وجود يعي أناه ويعي المحيط ويمتلك ماهية يدركها لوحده، ولا يحتاج بخلاف جميع الكائنات بالطبيعة لوجود آخر مغاير له في رغبته أثبات وجوده المعطى له طبيعيا سلفا والمجرّد منه فلسفيا بأستثناء علاقته النوعية الاجتماعية بغيره . كما أن الذي لا يمتلك وجودا لا يمتلك ماهية، والماهية قرينة الوجود المدرك الثابت والمتغير على السواء، ولا يمكن معرفة ماهية شيء غير مدرك وجودا لا في الانسان ولا في غيره من موجودات الطبيعة.

لذا تكون كل موجودات الطبيعة عدا الانسان لا تمتلك وجودا حقيقيا، وهي بحاجة غير مدركة ولا واعية منها، الى وجود ثان مغاير يدرك وجودها الماهوي. ويكون الانسان الذي يمتلك ذاته في وجوده يمتلك ماهيته غير المفصح عنها غير المدركة من غيره، والانسان يتحّكم بوعي أناه وماهيته بخلاف الكائنات الاخرى بالطبيعة التي لا تعي وجودها الموضوعي، ولا تعي ذاتها وتكون ماهيتها ليست ملكها.

وتعتبر الوجودية الانسان يصنع وجوده التنموي الماهوي بنفسه بمرور الزمن.لذا يكون الانسان وجودا متغيرا على الدوام في ثبات موجودات الطبيعة ظاهريا وماهويا لعدم أمتلاكها ديناميكية فيزيائية تطورية غير بايولوجية تحكمها مثلما هو الحال مع الانسان.

أن مقولة الوجودية الوجود يسبق الماهية يحمل تناقضا مبطّنا ليس سهلا الأخذ والتسليم به ليس من حيث غموض الادراك الكيفي الذي يكتنفه الالتباس في عدم أمتلاك الوجودية آلية فلسفية تنفيذية مقنعة تبين الادراك العقلي أو المعرفي للماهية وحسب، بل في وجود مناوئة فلسفية مادية تنكرعلى الوجودية تلك المقولة من أساسها كموضوع قابل للادراك او مهمّا الخوض به كمبحث فلسفي، بل وتذهب الفلسفة المادية الى أكثر من ذلك أنها لا تعتبر هناك ماهية في الوجود المادي الخارجي للاشياء في الطبيعة، وأنما الموجود هو ظواهر الاشياء فقط، وتنكر أن يكون للماهية خاصّية وجودية أدراكية منفردة توجب على العقل الفلسفي التثّبت منها، غير تلك الصفات البائنة الواضحة للشيء في وجوده المادي وكينونته الموحدة بالعالم الخارجي والطبيعة التي تكون تلك الظاهرات ومعرفتها كافية بما يغني البحث عن الماهيات للاشياء الموجودة أو غير الموجودة خارج معرفة صفات الشيء المدرك خارجيا.

من جهة مناوئة أخرى للوجودية في مقولتها الوجود يسبق الماهية، أن الفلسفة المثالية بطروحاتها المعروفة تقّر بوجود ماهيات للاشياء، لكنها لا تربطها بالوعي  في عدم الادراك العقلي اليقيني لها، بغير آلية التبسيط الميكانيكي الذي تعتمده الفلسفة المادية في معرفة الماهية أنه كلما تمّكنا من أدراك صفات الشيء وخصائصه البائنة تكون الحصيلة هي أدراك ماهيته المتغيرة المصنّعة في تبديل ظواهرها المدركة أو بعضها كملازم لوجود أدراك الشيء في ظواهره وصفاته.

الفلسفة المثالية التي تفهم الوجود وأدراكه فعالية ذهنية فكرية صرف لا علاقة لها بالوجود الخارجي المستقل للاشياء لا تعنى بما يسمى ماهية ولا وجود خارج فعالية الذهن والفكر...بمعنى أدراك ماهية الشيء لا تختلف عن آلية أدراك الوجود على صعيد وسيلة التفكير العقلي الادراكي فقط...لذا يكون وجود الشيء المدرك مثاليا يساوي وجوده الماهوي غير المدرك ذهنيا وفكريا مثاليا أيضا.

كما أن هناك فلاسفة عديدون لا يصّنفون على الفلسفتين المادية والمثالية، يرون أن الماهية ليست خاصّية نوعية مميزة ملازمة بالضرورة لوجود جميع الموجودات والاشياء في الطبيعة، أذ يكون هناك موجودات لا تمتلك ماهية محتجبة خلف الادراك المباشر لصفاتها وأدراك ظواهرها التي تكون هي مجمل صفاتها المدركة ظاهراتيا التي تكوّن هي ماهيتها المستنبطة... وهي وجهة نظر تقترب من المادية أكثر منها الى المثالية.

كما أن الفكر الديني واللاهوتي يقرّان بأسبقية الماهية على الوجود من حيث أن الخالق(الله) يعرف ويستدل عليه بخواصه الماهوية في الطبيعة، وليس بوجوده غير المدرك بأية آلية عقلية مادية، ولا بآلية مدركة حدسية خيالية خاصة في منهج مدارس وحدة الوجود وبعض الطرق الصوفية..التي ترى أيضا لا وجود لشيء في الطبيعة أوفي ما ورائها غيبيا ميتافيزيقيا من غير ماهية قبلية له تلازمه وهي مجمل خصائصه وصفاته التي تجعل من الوجود مدركا بالعقل بظواهره وليس بماهيته....

بينما تذهب الفلسفة المثالية كما ذكرنا بمختلف تياراتها أن ماهية الشيء تسبق وجوده، والماهية تتشكل بسبق زمني تركيبي ذهني قبل وجود الشيء كواقعة يمكن أدراكها أو معرفتها في عالم الاشياء. والوجودية نبذت( المذهب التجريبي، بل وكذلك الفكرة الاساسية لدى كانط في مذهبه التصوري الذي ينكر وجود ماهيات مادية في الوجود الخارجي معنى العقل بأدراكها)(2).

كيف يدرك العقل الماهية؟

أود هنا الاستطراد التوضيحي لما ذكرته سريعا قبل سطرين في أمكانية تخليق العقل لماهية الشيء المطلوب أدراكه وجودا. كي لا نقع في ألتباس أكبر من عملية تخليق ماهية الشيء قبل أدراك وجوده، ولا بد لنا من تفريق نوعية الشيء المدرك، فالمدركات الوجودية العقلية هي وجودات ومواضيع مختلفة بما لاحصر له في الطبيعة ولتوضيح كيفية أدراك ماهياتها فلسفيا وليس بايولوجيا فيزيائيا أصّنفها كالتالي:

- هناك وجود مادي لأشياء مستقلة في الطبيعة لا دخل للانسان بها لا في صفاتها ولا في ماهياتها بالفهم الفلسفي للعلاقة التي تربطه بها، وليس بالعلاقة البيولوجية التي تربط الانسان بها في الطبيعة، وهذه الموجودات الطبيعية تبدأ من الانسان الى الحيوان الى النبات والى الجمادات وغيرها، فهذه الموجودات ليس هناك تداخل للانسان معها أكثر من رابطة البايولوجيا فقط في أعتماده على تلك الكائنات في مشاركتها الطبيعة معه.

وليس مهمّا أن يتعرف الانسان لا في تغييروجودها الطبيعي المستقل بل في تغيير صفاتها الخارجية المدركة فقط بما يخدم تعالقه الوجودي معها والاستفادة منها، وليس في ماهياتها المحتجبة عنه خلف ظواهرها، وتكون حاجة الانسان لها في تلبية رغائبه وتأمين وجوده وبقائه بالحياة.وليس بالتداخل الفلسفي الوجودي او الماهوي معها.

فهي أشياء الطبيعة ومكوناتها المتنوعة المعطاة للانسان والعيش معها بما يحقق منفعته منها في تأمين غذائه، ولا يستطيع الاستغناء عنها وعلّة وجوده بينها أنّه جزء منها أي جزء من مكونات الطبيعة، التي هي نفسها علّة ولغز وجود الطبيعة في جميع مكوناتها.

لذا عندما يلجأنا التفكير في معرفة ماهيات موجودات الطبيعة علينا البدء بمعرفة ماهية الانسان ذاته في وجوده الطبيعي كنوع من بين أشياء وموجودات الطبيعة. وهذا يقودنا الاقرار بأن ماهيات تلك الموجودات والاشياء بالطبيعة لا تدرك للوهلة الاولى حسّيا الا في ظواهرها الطبيعية فقط التي تكون كافية لمعرفة الانسان بها وليس هناك من حاجة لمعرفة ماهيات تلك الاشياء الا في مسائل موجبة وضرورة الانسان أن يعرفها.

- النوع الثاني من الموجودات، في علاقتها ومشاركتها الانسان في الطبيعة، وفي محاولة معرفة ماهياتها، في وجودها وظواهرها، هي التي ينطبق عليها القول الحاجة أم الاختراع، فهذه الموجودات تتشّكل ماهيتها قبل وجودها المادي الخارجي من قبل الانسان نفسه، ويعرف الانسان ماهياتها في عجزها هي أدراك ذواتها وماهياتها... أي أنها حاجات وأشياء لا وجود لها في عالم الاشياء الطبيعي المادي قبل أختراع الانسان لها ماهويا و– وجودا- أشياء أخترعها عقل الانسان وأوجدها ماديا لحاجته لها في حياته، ونوضّح كيف؟؟

عندما يفّكرالانسان بصنع سيارة أو منضدة أو كرسي مثلا أو أية حاجة قبل أن تكون متعينا وجودا ماديا مخترعا بعد أن لم يكن موجودا بشكله المادي في عالم الاشياء لولا أختراع الانسان له في سد حاجته له، وهنا تكون ماهية الشيء بجميع مواصفاتها واستعمالاتها ووظائفها سابقة على وجود الشيء المادي المتعين كرسيا أو سيارة أو أي شيء آخر يخترعه الانسان مدركا في عالم الاشياء يحتاجه في حياته. وبهذا النوع من الاشياء التي يقوم الانسان المخترع بوضع ماهياتها، ومعرفة خصائصها الماهوية قبل معرفة وأدراك وجودها التخليقي لها من قبل الانسان في أختراعه لها ماهويا/ وجوديا في عالم الاشياء.أي لا يكون الانسان بحاجة معرفة ماهيتها التي أكسبها أياها أختراعه لوجودها واقعا ماديا من ضمن مكوّنات الطبيعة.

- النوع الثالث من الموجودات هي أيضا الموضوعات التي يخترعها الذهن خياليا، أي الموضوعات المخترعة بالفكر المجرد قبل أن تتحول من أفكار مجردة في التفكير الذهني العقلي، الى وقائع موجودة ومدركة من ضمن أشياء العالم الخارجي المادي، فهذه الاشياء أيضا يقوم الانسان بصنع ماهياتها قبل تعيين وجودها المادي الخارجي متمثلا بشكلها الخارجي المدرك بظواهره فقط، ويتم ذلك في تداخل ماهية الشيء مع ظواهره الخارجية التي ستكون متعيّنا وجودا بفضل الذهن وأختراعه لها ولم تكن شيئا موجودا لا في ماهيتها ولا في وجودها قبل تخليق ذهن الانسان لها في الماهية وفي شكل الوجود في عالم الاشياء....فمثلا ماهية أختراع تأليف كتاب في الذهن،فأن العقل يقوم أبتداءا بتخليق وخلق ماهية الكتاب في مضمونه ومحتواه قبل طرحه وجودا في شكل كتاب أنيق مطبوع يعرف وجوده بعنوانه على غلافه وليس بماهيته كمحتوى.

الماهية والادراك الكلّي

أن الماهية غير الموجودة في الوجود المادي الخارجي أو التي يبتدعها العقل في مخيلته، من المتعذر أن توجد كمدرك ماهوي داخل العقل، كما لا يمكن التعبير عنها كوجود متعيّن في صفاته وظواهره حتى التخييلية التي يكسبها العقل للاشياء مالم تكن وجودا ماديا مدركا في عالم الاشياء...كما أن ماهيات الاشياء التي أعتبرها كانط ثابتة في وجودها غير المدرك ظاهريا (وأنها لا تتغير ولا توجد علاقة تبادلية بين الماهيات والظواهر)(3)، هي على خلاف مع الفينامينالوجيا التي تعتبر الماهيات متغيّرة لأنها تكون أحيانا غير موجودة خارج صفاتها الماهوية التكوينية لها في تداخلها مع ظواهرها وصفاتها المدركة، في وجودها الشكلي المستقل كمدرك في العالم الخارجي. بل وأكثر من هذا سنرى في سطور لاحقة كيف أن الفينامينالوجيا تعتبر الماهية موجودا من أنتاجية (الوعي)، وليس كما ذهبنا له في تصنيفنا الاشياء المدركة من حيث علاقة وجودها بماهيتها في السطور السابقة.

الفكر المجرد هو أنعكاس للوجود المدرك كاملا أي كوحدة واحدة في أدراكه، وليس لماهيته فقط ولا لظواهره فقط، من غير أفتعال فصل بين صفات الشيء البائنة المحسوسة المنعزلة عن ماهيتها خلف مدرك ظواهرها، ولا يمكن للفكر أن يخلق ماهية ولا وجود ولا مدركات داخل العقل قبل وجودها الادراكي خارج العقل بأستثناء ما يختلقه خياليا من الذاكرة كما ألمحنا له، ويكون التعبير الفكري اللغوي لا يعبرّ عن الوجود الخارجي غير المدرك للعقل ولا الغير المبتدع من الذاكرة، أي أنهما(الفكر واللغة) لا يعبّران عن ماهيات الاشياء في الوجود الخارجي في حال عجز الذهن العقلي أدراك ماهية الشيء داخل العقل.

وكل تغيير في أشياء الوجود الخارجي أنما يتم بعاملين هما تخليق العقل بالاسهام التغييري لظواهره، والثاني هو العلاقات المتبادلة في التأثر والتأثير بين ظواهر الوجود وماهيته بمعزل عن أرادة الانسان. وكلا العاملين أنما هما نتاج عقلي أولا واخيرا. لذا يكون أي تخليق جديد أو تغيير يطال الوجود لا يتم من غير أرادة انسانية تهتدي بالتصورات العقلية، التي هي حصيلة التأثر والتأثير المتبادل في تخليق العقل للموجودات وليس أمكانية أعادة خلقها كوجود مادي مغاير لوجودها.

كذلك فأن الوجود بذاته الذي يسميه سارتر وجود (مافي ذاته) وأنه (ليس فاعلا ولا منفعلا، ولا هو ثبات، ولا هو نفي أنما هو وجود يقوم معتمدا على ذاته لا أكثر مصمت، جامد، وليس له علاقة مع الموجودات الاخرى بل هو خارج أطار الزمن)(4)،هنا نستطيع القول أن الوجود بذاته حسب توصيف سارتر، وجود مكثّف ومكتف بذاته ولا يعي ذاته ولا المحيط من حوله لأنه وجود جامد خارج فاعلية الزمن التغييرية. والذي لا يدركه الزمن لا يدركه العقل وجودا في استحالة ادراكه مكانيا بمعزل عن الزمن.

أنه لمن المهم التنبيه الى أستحالة أدراك العقل للاشياء والوجود خارج الزمن مكانيا. من ضمنه الوجود بذاته المدرك مكانا وزمانا في تعطيل وعطالة تحقق وجوده الفاعل، فالزمن يدرك الموجودات في وجودها المتعين أدراكيا في الزمان والمكان في ثبات الاشياء وفي حركتها على السواء. بمعنى العقل لا أدراك فاعل له خارج الزمن، كما أن الادراك الزمني يدرك الوجود المتعيّن ولا يدرك العدم أو الشيء الذي هو بحكم العدم الذي هو الوجود بذاته فهو ليس عدما ولكنه وجود محكوم بعدم قبل غيره من الموجودات الطبيعية التي يحكمها العدم في دورة حياة مثلما يساير العدم الوجود الانساني مالم يفنى بالموت.

المفارقة بين العقل والزمن أنهما كليهما لا يتبادلان الادراك الحسي ولا المادي بينهما،أي لا يدرك أحدهما الآخر، بل يتوّحدان في أدراكهما الاشياء والطبيعة معا في تداخل غير مدرك ولا منظور .هذه هي العلاقة الوحيدة التي توحد العقل بالزمن بفاعليتهما المتداخلة في أدراك الاشياء.

والعقل لا يدرك الفراغ الوجودي (العدم) زمانا، والزمن يعي ذاته في أدراكه المدرك من قبله زمانيا، لأن الوجود خارج الزمن وما لا يدركه الزمان لا يدركه العقل مكانا مجردا عن زمن أدراكه، وهوأستحالة أدراكية لا يعيها العقل . كما أن من المهم ذكره أنه حسب سارتر الوجود بذاته لا يمّثل ماهية الشيء كما لايمّثل أحدى خصائص الماهية المتكوّنة من مجموع خصائصها وصفاتها،... المفارقة هنا أن العقل يمكنه أحيانا أدراك الماهية لكنه يعجز عن أدراك الوجود بذاته رغم التداخل القوي بين الماهية والوجود بذاته في الشيء غير المدرك. والوجودية تفهم الذات بمعناها الخلاّق والانسان يخلق نفسه بنفسه ويكّون حريته التي هي اسمى التحقق الوجودي بحسب سارتر.

هيدجر والوجود

لابد لنا من المرور على بعض آراء أبرز فلاسفة الوجودية هو مارتن هيجر كيف يعبّر عن الماهية والوجود معا بنوع من المصطلحات الغامضة التي تقود الى تشتيت ذهني غير متماسك نستعرض بعضها في فقرات متقافزة يصعب الربط المنطقي بينها:

- الموجود هناك ليس له عمق، بل يأتي من جوف هاوية بلا نهاية من العدم، والموجود هناك نهايته الموت وهي هاوية اخرى للعدم.(5) .

- ان محض وجود (الموجود هناك) الانسان هو ركض نحو الموت الى العدم. فهو محمول بذاته في داخله نحو العدم. ويمكن أن يقال بوجه عام، أنه من العدم يأتي كل موجود من حيث هو موجود.

- ويأخذ بعض دارسي فلسفة هيدجر قولهم (كان يمكن قول هيدجر، العدم موجود) بدلا من عبارته (العدم يتعادم) وهو تعبير جلب له سخرية العديدين.(4) حسب رأي بعض المهتمين بالفلسفة.

الفينامينولوجيا والماهية

أما عن المذهب الفلسفي الفينامينالوجي فهو يحصر أهتمامه في وصفه ظواهرالاشياء، أي أنه يهتم بما هو معطى واقعي مباشرمدرك في ظاهرياته، وتغّض الفينامينالوجيا النظر عن العلوم الطبيعية وتعارض المذهب التجريبي، فهي فلسفة ماهيات وليس فلسفة وجود.(6)

وتعتبر الفينامينالوجيا (الماهية هي المضمون العقلي المثالي للظواهر، التي تدرك  رؤية الماهيات مباشرة، والهدف الفينامينالوجي هو الوصول الى الماهيات ليس عن طريق الشك الديكارتي وأنما تعمد الى مذهب تعليق الحكم)(7)

ومبدأ تعليق الحكم في الفلسفة معناه اللاادرية في الحكم على الشيء الذي يحتمل قطبي الصح والخطأ، وليس الشك الديكارتي في الحكم على الشيء من منطلق اليقين المسّبق الدوغمائي في تخطئة المشكوك به، وتعليق الحكم لا ينفي طرفي السلب والايجاب أو الانحياز لأحدهما في الوصول الى حقيقة الشيء أو صحة منطلقات قضية ما، أي تعليق الحكم لايبّت في صحة الاثبات للشيء على أمكانية نفيه، وأنما يلجأ الى تأجيل الحكم في التخلص من الوقوع في حكم الخطأ بالقرار بين أحتمالين.

هذا الفهم في تعليق الحكم لا تعمل به الفينامينالوجيا ولها أجتهادها الفلسفي الخاص بها في تعليق الحكم حسب تفسير هوسرل..ويعتبر هوسرل فيلسوف الفينامينالوجيا (الاختزال التراسندتالي – التعالي- هو تطبيق منهج الفينامينالوجيا على الذات نفسها وعلى أفعالها، معتبرا أهم منطقة في الوجود هي (الوعي الخالص) الذي يقوم على مبدأ القصدية الذي أستمده هوسرل من أستاذه برنتانو).(8)

أن من أهم الاخفاقات التي قاد هوسرل الفينامينالوجيا لها هي أنه وضع (الوعي) فوق العقل والطبيعة، وبديلا عنهما، والصحيح في ما نراه أن كل الامتيازات التي هي من صميم أهتمامات العقل وخاصيّاته، والتي خلعها هوسرل كامكانيات للوعي وليس العقل لا تمنع مرجعية الوعي الذاتي الموضوعي ولا الوعي الذاتي السايكولوجي من مرجعية العقل  لكليهما.

مثال ذلك أن هوسرل يعتبر(عملية الادراك الحسي للاشياء لا يلزم عنها أن يكون المحسوس حقيقيا) على أعتبار الحواس خادعة  من جهة، والطعن بصوابية أمكانية الادراك عن طريق العقل بدلا من الوعي حسب هوسرل من جهة اخرى.. الوعي في مفهوم هوسرل هو عقل فلسفي ثان غير العقل الطبيعي المدرك للاشياء، ويعتبر آلية ادراك الوعي للاشياء هي سابقة وأهم من أدراكات العقل ضمن سياقاتها العلمية والتجريبية.علما هناك بديهة في علم وظائف اعضاء الانسان ان الوعي هو نتاج العقل وليس العكس، فالعقل ينتج وعيا، لكن الوعي يعجز عن أنتاج عقل.

ونمشي مع هوسرل أكثر في التباس أكبر أن ليس كل مدرك محسوس هو حقيقيا، مقولة صحيحة تنطبق على عوالم مدركات الذاكرة والخيال فقط، ولا تنطبق أطلاقا على الواقع المادي لعالم الاشياء المحسوسة في الطبيعة.

من نافل القول أن مصطلح الوعي الخالص (الأنا المطلق) أمكانية مقعدة بمعنى أنها وهم تخييلي ومصطلح عائم تستخدمه الفلسفة في مجال أهمال معالجة الكليات، والوعي الخالص أنكره كل من هيدجر وسارتر، وأعتبرا كلاهما (قصدية) هوسرل هي وعي الذات (حقيقة) متجاوزة الخروج على كوجيتو ديكارت الذي جعل من وعي الذات تفكيرا مثاليا سلبيا أنعزاليا، وأضاف هيدجر أن الوجود الحقيقي هو في دينامية فاعلة يمليها الوجود الحقيقي الذي هو، الوجود – في – عالم...وأضاف سارتر أنه ليس هناك من (وعي خالص) يمكننا الاهتمام به.وسارتر محق بهذا لأنه لا يرغب التقاطع والوقوع في متناقضات أفكاره فلسفيا، فهو يرفض الوعي الخالص كونه نسخة كاربونية عن (الوجود بذاته) الذي أعتبره وهما غير متحقق.

(المعرفة تبدأ بالخبرة ولا تنشأ عنها) هوسرل

ولا بد لنا من الاشارة الى جوهر منهج الفينامينالوجيا عند هوسرل في مقولته (المعرفة تبدأ بالخبرة لكنها لا تنشأ عنها) وهو يلتقي بكانط في هذه المعلومة الاستنباطية الفلسفية، الذي ذهب الى أن جميع المعارف مرتبطة بالعقل والتجربة التي تقوم على أصل (قبلي) في الوعي وليس بعدي بالعقل... وقبل مناقشة هذه الأحجية اللغز أقول أن الوعي في جميع أشتمالاته المعرفية المنوعة هي نتاج وتخليق عقلي لمدركات أشياء الطبيعة،.. والوعي لا يكون وعيا أدراكيا ما لم يقم على مرجعية العقل ومراكمة المعارف والخبرات التجريبية المكتسبة فيه.

ونتساءل هل المعرفة خبرة جديدة مضافة مكتسبة أم هي خبرة قبلية أيضا متجانسة مع خبرات سابقة عليها يمتلكها الوعي ولا يكتسبها خارجيا؟؟

يوجد أكثر من قراءة واحدة لهذه العبارة الملغّزة،: (المعرفة تبدأ بالخبرة ولا تنشأ عنها) عبارة فلسفية حمّالة تأويلات عديدة، ومن المؤكد أنها نوقشت من قبل فلاسفة أكفاء، وأود تسجيل ملاحظاتي غير النقدية والمحايدة عنها:

- الاولى أن جميع المعارف المكتسبة أنما هي خبرات تضاف للوعي والعقل ولا يوجد فروقات بين المعرفة في مصدرها الخارجي، والخبرة القبلية من حيث هي مدركات متجانسة في الماهية مما يتعذّر الفصل بينهما ولا نعرف من يعطي لمن، لآخر يأخذ ممّن ؟؟.

- القراءة الثانية أن المعارف الجديدة التي تبدأ بالخبرة ولا تنشأ عنها حسب هوسرل، هي مغايرة تجمع نقيضين بسببية تعالقية هما المعرفة والخبرة القبلية، ولا ينشأ عن أرتباطهما أية معرفة أو معارف جديدة. والمحايث الذي لا تنشأ عنه معرفة لا يمكن الغاؤه أن لا يكون سببا حتميا في أنتاجه معرفة.

- القراءة الثالثة أنه لاتوجد معرفة ولا توجد خبرة قبلية تهضمها وتستقبلها، فالمعرفة التي تبدأ بالخبرة ولا تنشأ عنها أنما هو نوع من الاستدلال المفروض قسرا الذي لا يريد تعالق المعارف وأدراكاتها بعلاقة سببية تعطي لهما مشروعية القبول المنطقي والعقلي لها. (عملا بفلسفة ديفيد هيوم الذي ينكر وجود سببية، وكل ماهو موجود تكرار لحالات معينة تصبح (عادة) فقط وليست سببية).

أن المعرفة التي تكون سببا محايثا للخبرة ولا تنشأ عنها، عبارة تحتاج تأويل منطقي فلسفي مقنع، من حيث أن المعرفة هي فعل مكتسب بغيره في محايثات الادراك الخارجي له، ويبطل أكتساب المعرفة بالخبرة القبلية التي لا تنشأ عنها.فالمعرفة التي تكون مكتفية بالخبرة الذاتية لها كمعرفة لا تحتاج الى محايثة تنتج عنها، ولا محايثة تحفيزية سببية لها، يصبح من المتعذر أكتساب المعرفة بغير أرتباطها بمحايث لها تنتج عنه أو تنشأ بغيره... أن المعرفة لا تنتج وتكتسب بالوعي الذاتي لها، وأنما تكتسب بالوعي المفارق لها، والوعي المتخارج مع من يمتلكها خارجيا.

القصدية

القصدية مذهب فلسفي أرتبط بهوسرل في ردّه وأدانته كوجيتو ديكارت أنا أفكر، وأعطاه هوسرل أبعادا فلسفية طلسمية مبهمة أخرى لها عديدة نستعرضها سريعا بقدر علاقتها بمفهوم الماهية في الفينامينالوجيا .

ينسب لهوسرل قوله (أن ظهور الموضوعات في الوعي ليس تلقيا واستقبالا سلبيا لها من الخارج، ذلك لأن الوعي ليس وعاءا يتم جمع فيه ما تتحصّل عليه الحواس، والوعي القصدي، وعي هادف، أنه هو، يذهب نحو أدراك مواضيعه ليس بهدف أدراكها بل من أجل الحكم عليها). المصدر موقع انترنيت ويكيبيديا الموسوعية.

والقصدية عند برنتانو أستاذ هوسرل (تشير الى أن الوعي يمتلك موضوعاته القصدية في داخله). في الاقتباسين اللذين مررنا بهما يظهر لنا أن الوعي مفهوم فلسفي عند هوسرل لا يشبهه لدى استاذه برينتانو، فالوعي عند هوسرل هو الوعي القصدي الذي يبحث عن موضوعاته ليس لأدراكها ولكن لقصدية هادفة من أجل الحكم عليها كمدركات، وعند برينتانو أنه وعي يمتلك موضوعاته في داخله !!.لا نعرف أيهما أصح بالفهم الفلسفي والتعبير الاستاذ أم الطالب؟؟

أن الوعي الذي يصفه برينتانو بأنه يمتلك موضوعاته القصدية في داخله، أنما يكون وعيا ذاتيا مثاليا فاقدا قصديته التي هي بالضرورة يجب أن تكون موضوعا محايثا للوعي في أدراكه (الأنا) والوجود من حوله، والمعنى الذي ذكره برينتانو يشير بوضوح الى أن الوعي في أمتلاكه موضوعاته في ملازمة غيرمتعالقة بالوقع ولا مدركة خارجيا في عالم الاشياء، يكون وعيا مثاليا زائفا غير متحقق في وجوده لا في وعي أناه أي ذاتيته ولا في وعيه الاشياء موضوعيا من حوله.

أعود الى التأكيد ما سبق لي ذكره في سطور سابقة من هذه المقالة، أن الفينامينالوجيا تلجأ الى مغالطة لا يمكن تبريرها هي في أحلال الوعي بديلا عن العقل والموضوع من غير مرجعية لهما. وأكثر من ذلك أن الوعي عندها  هو أقرب لعلم النفس منه للعقل في المعرفة والماهية، وبعيدا عن علم وفلسفة أدراك الوجود والماهيات أدراكا فلسفيا منظمّا منطقيا... كما أخذ هوسرل أيضا عن أستاذه برينتانو معلومة فلسفية أكثر لبسا ابتذاليا مثاليا قوله (القصدية هي نتاج الوعي) وليست شيئا محايثا مغايرا خارجيا يمكن للوعي أدراكه أو الاستدلال الفلسفي به.

القصدية هنا بمفهوم هوسرل عندما تكون نتاج الوعي وليس نتاج الواقع المادي الطبيعي للاشياء، أنما يجعل الفينامينالوجيا مفهوما فلسفيا مثاليا أبتذاليا في المعرفة. فالوعي الحقيقي لا يتحقق أدراكه من غير أرتباطه بالعالم المادي وليس بالفكر المجرد ولا بالافتراض الفلسفي التعسفي في تطويع المفاهيم للرغبة الشخصية وليس للموضوعية في الاستقراء المنطقي الفلسفي المجرد.

والفهم الصحيح أن القصدية هي محايث وعي الذات وعيا حقيقيا في تعالقها الادراكي مع هدف خارجي مغايرعنها يكسب الذات وجودها الفاعل في عالم متغير من حولها، ويكتسب هو وعيه الذاتي والموضوعي الحقيقي.

هذا هو الفهم الذي ذهب له كل من هيدجر وسارترفي أدانتهم مثالية ديكارت المنغلقة في وعي ألأنا، وليس فهم هوسرل الذي جعل من القصدية نتاج وعي الذات ولم يقل وعي الذات بماذا؟ يعني أننا عدنا الى كوجيتو ديكارت عندما قال أنا أفكر ولم يكمل يفكر بماذا!! أن تحقق الذات قرين الموضوع وليس قرين الفكر.

في الوقت الذي كنا نترجّى من القصدية أدراكا حقيقيا للذات في تعديل الفهم المثالي المنحرف عند ديكارت المغرق في الذاتية والتجريد في فهم الوعي على صعيد الفكرفقط، نجد هوسرل يذهب الى أن القصدية معطى قبلي (ينتجه الوعي) وليس موضوعا محايثا للوعي في أدراك ذاته والوجود وأشياء الطبيعة. بل يذهب هوسرل أن الوعي يبحث عن موضوع يدركه من (أجل الحكم عليه). عليه يكون الموضوع القصدي منتوجا للوعي، مدين بوجوده وخلقه الى الوعي الادراكي له !!!. دائرة مغلقة من التهويم الفلسفي التجريدي الذي يجعل اللغة طلاسم لا معنى منطقي مترابط لها.

 

الباحث الفلسفي علي محمد اليوسف /الموصل

...............................

الهوامش:

1- أ.م. بوشنكي/ الفلسفة المعاصرة في اوربا/ سلسلة عالم المعرفة/ ترجمة عزت قرني ص 210

2- نفس المصدر السابق ص 206

3- نفس المصدر السابق ص 238

4- نفس المصدر السابق ص 241

5- نفس المصدر السابق ص 232

6- نفس المصدر السابق ص 251

7- نفس المصدر السابق ص 257

8- نفس المصدر السابق ص 263

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم