صحيفة المثقف

التربية الإستهلاكية

حميد طولستالشهور تعيد نفسها، تغادرنا وتعود دون أن نشعر مرورها أو إختلافها في غمرة ما نحن فيه من زحمة الحياة، لكن رمضان الذي ننتظر قدومه بلهفة وشوق، هو الشهر الذي نشعر بإخالافه وتميزه عن غيره، حيث تتساقط فيه أثقال الإعتياد والرتابة المتراكمة فوق بعضها خلال شهور السنة المستنسخة، بما يحفل به من ظواهر وممارسات ومتناقضات: العبادة والتوبة والتطهير والمغموس في كل صنوف الملذات .

  لقد حل هذا الشهر الكريم هذا العام بمعانيه وروحانياته ليجد المغرب قد عرف تحولا اقتصاديا مجتمعيا خطيرا ساهم في تسريع وثيرة إنتشاره والدعاية لإديوجياته وأفكاره، إعلام جبار ومتغلغل، سرع من وثيرة هذا التحول المجتمعي الذي مر كالبرق من مرحلة النمو الى مرحلة الصخب، دون التوقف عند مرحلة اليقظة الهادئة الكفيلة بالتمحص في مجريات الأمور والإستعداد لمواجهة العشوائية بكل التحديات والمنزلقات المصاحبة لهذا التطور، كالإرتفاع  المهول في حاجيات المجتمع وإزدياد متطلباته المادية وتلاحق هواجسه الإستهلاكية اليومية الآنية التي أضحت لا تتحمل الإنتظار ولا المماطلة، وفي خضم هذا التحول المباغث تشهد الساحة المغربية المعاصرة ولادة مفاهيم جديدة حداثية لم يكن لها بها  عهد، عززت من إنتشارها، وسائل الإتصال الحديثة التي إختزلت كل ما هو مكتوب إلى مرئي ومسموع عبر الأنترنيت والهاتف النقال والكمبيوتر والتلفاز واللوحات الإشهارية التي عمت كل الدنيا وهيمنت على سوق كَبرُت فيها التنافسية الحادة التي لا تكترت بالقيم الأصيلة ولا بقدرها ومقدار عند الشعوب، ويبقى همها الوحيد، الذي تستنفر له كل الإمكانيات الجبارة هو دفعُ الإنسان للإنخراط كليا في الإستهلاك الآلي (الروبوتي) وتقبله أي منتوج تجاري أو إيديولوجي، ومن بين الكم الهائل والتراكم الظاهر للمفاهيم الجديدة التي إخترقت حياتنا المجتمعية، ودخلت بيوتنا،دون ظوابط ولا أخلاقيات، في غمرة التنافسية المسعورة المتنامية لشركات الإنتاج، هناك " لعبة الحظ " التي حولت الإنسان المغربي الى ريشة في مهب رياح الدعاية والماركوتينك، تتقاذفه مشاعر الضياع والقلق من كل صوب. وأمام تطور أساليب التسويق وإعتمادها الرهان والقرعات المتنوعة والربح السريع المغري الذي وصل مع بعض اللعبات الى الملايير، نجد المتبضع لا يقتني إلا السلع التي تقدم الهدايا و الحظوظ الأكبيرة من غيرها، دون الإكترات بجاجته إلى تلك السلعة أو الإهتمام بمواصفات جودتها .

  شيئ جيد أن تتطور التجارة وأن تصبح علما قائما بذاته يدرس في أكبر المعاهد، و لا بأس في أن يقدم التجار الجوائز المهمة لتشجيع زبنائهم للإقبال على منتوجهم، ولاضير أن يربح الناس الأكباش والسيارات والشقق المفروشة والسفريات وحتى الملايير، ولكن غير المقبول والهجين في هذا كله، هو تلك النشوة الكاذبة القاتلة والمبنية على وهم الربح السريع التي تنشأ بدواخل الإنسان، والخطير الخطير أن يتجدر هذا التعلق في وعي ووجدان الإنسان المغربي، فيصبح إلى عادة و سلوك لامحيد له عنه ويتحول الى قيمة إجتماعية تؤثر سلبا على التنمية الإقتصادية والإستقرار الإجتماعي، خاصة اذا علمنا أن ألعاب الحظ مبنية على تكرار التجربة، وكلما تكررت التجربة إلا وترسخت وأصبحت عادة، والعادة كما هو معلوم إذا تمكنت أصبحت سمة تحولت بعد ديوعها إلى ثقافة- وأقبح بها من ثقافة مبنية على المصلحة المغرقة في الذاتية- إذا عمت مجتمعا رسخت فيه الفردانية و الأنانية، وحدت من عبقرية الإبتكار وأعاقت الإبداع.

  إنها ظاهرة لاذغة للشعور، تستلزم البحث والدراسة العميقة لسراديب دوافعها ومسبباتها المعرضة للقيم العقائدية والأخلاقية الأصيلة للتصدع والإهتزاز.. إن الحد من المخاطر المحذقة بمصالح المستهلك الإقتصادية منها والمعنوية، لعمري مهمة صعبة لاتتحمل مسؤوليتها السلطات العمومية وحدها- المشتكية دائما من محدودية ادواتها ووسائلها- بل يشاركها المجتمع المدني في  مسؤولية حماية نفسه مما يهدد صحة بدنه، ونقاء عقيدته، وسلامة جيبه، الشيئ الذي دفع ببعض افعاليات الاقتصادية والاجتماعية في بداية التسعينيات الى خلق عدد من "جمعيات حماية المستهلك" كطرف مكون للمجتمع المدني تعمل على توعية المستهلك بحقوقه بالمناظرات والمحاضرات والبحوث والكتابات وكل أشكال التواصل معتمدة في عملها مقتضيات قانون 5 ماى 1983 المتعلق بزجر الغش في البضائع والإشهار الكاذب، وقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 248/39 المعتمد بتاريخ 2ابريل 1985  الضامن لمبادئ أهمها : الحق في الحماية والسلامة، والحق في الحصول على الحاجيات الأساسية، والحق في التربية الإستهلاكية، والحق في بيئة سليمة، والحق في الإختيار بين منتوجين وشكلين من الخدمات، والحق في الخبر والإعلام .

 

حميد طولست

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم