صحيفة المثقف

المقاومة في غزة تغير قواعد الاشتباك وتحقق الردع التكتيكي على الأرض

بكر السباتينقبل الحروب المتوالية على قطاع غزة كانت ما تسمى ب"إسرائيل" هي صاحبة المبادرة في الحروب ضد العرب منذ نكبة فلسطين عام 1948 وهو ذات التاريخ الذي بات يعرف إسرائيلياً بيوم الاستقلال، وعيدها القومي الذي يأتي بمثابة ذكرى نكبة فلسطين لدى الشعب الفلسطيني.. ومن هذا التضارب في مفهومي الجاني والضحية لهذه الذكرى الأليمة يجدر بنا التنويه إلى عدم تطابق مفهوم استقلال المحتل الإسرائيلي لا بالشكل ولا بالمضمون مع المنطق التاريخي.. لأن الاحتلال يعتبر شكلاً من أشكال الاستعمار الاحتلالي والذي لا يتوافق مع مفهوم الاستقلال الذي يتحقق كما هو مدرج في كل المفاهيم (الفكرية والسياسية والأخلاقية والقانونية) من خلال طرد المحتل وليس بترسيخ كيانه على حساب الضحية.

حتى لو احتصلت دولة الاحتلال على الشرعية القانونية من قبل منظمة الأمم المتحدة بطرق احتيالية، كما هو واقع الحال مع الكيان الإسرائيلي الذي جيّش كل دول العالم؛ لفرض نفسه كدولة لها حقوق في الأمن والسلام وبالتالي تحويله الضحية إلى مجرد جماعات إرهابية معتدية علي حياضه، وتسعى فوق ذلك لتخريب وتقويض الأمن والسلم العالميين.

ف"إسرائيل" تتذرع بأنها منحت كل ما تستحقه الضحية من حقوق خلال معاهدة السلام "أوسلوا" التي كانت المدخل نحو سلب الفلسطينيين ما تبقى من حقوقهم الشرعية بفلسطين المحتلة، بدءاً بالقدس التي نقل ترامب سفارة بلاده إليها نهاية العام المنصرم، وحق العودة إلى الديار السليبة، وسلب الأرض من خلال بناء المستوطنات في تسابق مع الزمن لفرض سياسة الأمر الواقع على الأرض، وتهديد الوجود الفلسطيني الديمغرافي داخل الخط الأخضر باعتماد الهوية اليهودية للدولة رسمياً، لا بل وتحويل سلطة أوسلو الفلسطينية التي تمخضت عن معاهدة السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين إلى مجرد بيدق يتحرك وفق المصالح الإسرائيلية، وحولت أجهزتها الأمنية إلى ذراع أمني إسرائيلي من خلال اتفاقية التنسيق الأمني معها، لا بل حولت رئيسها محمود عباس إلى مدخل للتنازلات الفلسطينية خلافاً لبنود معاهدة أوسلو المشؤومة.. والأهم من كل ذلك أن هذه الاتفاقية الجائرة ألجمت البندقية الفلسطينية بإلغاء خيار الكفاح المسلح.. وهو خيار ينسجم مع المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تقر بمشروعية حق الدفاع عن النفس.

وأخيراً زادت أطماع دولة الاحتلال الإسرائيلي بمحيطه العربي من خلال علاقات تطبيعية مع الدول العربية في وضح النهار، ومن ثم توجيه الضربة القاضية للقضية الفلسطينية من خلال تصفيتها نهائياً تمهيداُ لصفقة القرن المتعثرة، والادعاء بأن الكيان الإسرائيلي الهش هو الضامن للأمن القومي الخليجي ضد العدو الجديد المتمثل بإيران (التي تقود اليوم محور المقاومة المتربص ب"إسرائيل")، وذلك في إطار صفقة القرن التي خطط لها صهر ترامب اليهودي كوشنر بدعم أمريكي مفتوح.. لتأتي تلك العقبة الكأداء المتمثلة بالمقاومة وعلى رأسها حماس والجهاد الإسلامي في غزة، فتبعثر كل الأوراق وتبادر إلى تغيير قواعد الاشتباك لتمتلك أخيراً زمام المبادرة بثقة واقتدار.. فتستعيد بذلك حق الشعب الفلسطيني بالدفاع عن نفسه من خلال الكفاح المسلح، غير آبهة بانتقادات كثير من الدول الكبرى التي جيرت لصالح المحتل الإسرائيلي منذ عام النكبة.. وقد تحررت هذه المقاومة من دعاية أن المحتل الإسرائيلي بات أمراً واقعاً، مؤمنة في الوقت نفسه بأن القوة العسكرية لهذا الكيان لا تمنحه الحق باحتلال فلسطين، لا بل أن القوة هي الخيار الوحيد نحو تحقيق النصر أو على الأقل فرض حالة من التوازن التكتيكي الرادع.. فكان قطاع غزة هو الاختبار الموضوعي الذي فرضه العدو عليها.. وقد استطاعت المقاومة التي تتشكل من كافة الفصائل الفلسطينية بقيادة حماس، تحييد القوة الإسرائيلية الضاربة أرضاً وجواً وبحراً من خلال حفر الأنفاق التي حولت مدينة غزة المحاصرة إلى أخرى تحت الأرض.. وتمكنت من تصنيع منظومة متقدمة من الصواريخ بدعم مالي وتقني من إيران وحزب الله. وبفضل قوتها الضاربة تمكنت المقاومة من إعادة نظرية الأمن الإسرائيلي إلى حالة الصفر وجعلت الإسرائيليين دون غطاء حيث عجزت القبة الحديدة عن حماية الأجواء الإسرائيلية من خطر صواريخ المقاومة الداهم، وأصبحت الملاجئ مفتوحة للإسرائيليين في إطار حالة التأهب والطوارئ المستمرة التي سادت المدن الإسرائيلية جنوب البلاد، ما انعكس ذلك سلبياً على الاقتصاد الإسرائيلي بفعل تعطل الأعمال كما حدث مؤخراً.. وهروب مئات الآلاف من الإسرائيليين إلى الشمال.. وتعطلت المدن الصناعية في دائرة الاشتباك ناهيك عن تعطل سكة الحديد وخاصة بين أسدود وريمون وبئر السبع. لقد حدث ذلك في أتون اختبار غزة ميدانياً وصولاً إلى المواجهة الأخيرة التي فرضت المقاومة فيها شروطها على نتنياهو من خلال الوسيط المصري.. وهنا نستطيع أن نقول بأن المقاومة استطاعت تطبيق نظرية الردع التكتيكي مع المحتل الإسرائيلي بأنفة واقتدار.. وللعلم فنظرية الردع هي إحدى نظريات إدارة الصراع التي تستند أساساً على الأدوات العسكرية، لذلك كثيراً ما يقرن البعض مصطلح الاستراتيجية بمصطلح الردع، لذا بات مصطلح "إستراتيجية الردع" من المصطلحات الشائعة الاستخدام سواء في مجال التخطيط العسكري أو العلاقات الدولية.

وتستند نظرية الردع على افتراض مفاده أن القوة هي أفضل علاج للقوة، فقوة الدولة هي العامل الأساسي لكبح جماح الآخرين، فعندما يتحقق لدولة ما تفوق في القوة فإنها تستطيع فرض إرادتها على الدول الأخرى، ولا يكبح جماحها إلا قوة أخرى مضادة لها أو متفوقة عليها. صحيح أن قوة المقاومة لا يمكن مقارنتها بالقوة العسكرية والسياسية الإسرائيلية، ولكن في حسابات الردع القائمة على الربح والخسارة فإن قوة صواريخ المقاومة تمكنت من تحويل الإسرائيليين إلى أهداف سهلة في عمق كيانهم المكشوف لها.. ومنطقياً فإن حصار قطاع غزة الخانق لم يمنع أن يتحول الكيان الإسرائيلي برمته إلى منطقة غير آمنة ما استوجب على قيادة هذا الكيان عدم استسهال التورط في حروب طويلة مع المقاومة في غزة بكل فصائلها وخاصة حركة حماس التي تمرست على توظيف القوة الصاروخية لصالح التكتيك السياسي في وجه كل التحديات.. ولعل ما جرى مؤخراً يترجم ما قلناه في سياق هذا المقال..

وأخيراً يمكن تلخيص معاناة الكيان الإسرائيلي أمام المستجدات الميدانية الأخيرة التي ذهبت خيوطها إلى يد المقاومة باقتدار وثقة. فقد أصيب نتنياهو بخيبة أمل كبيرة وهو يرى جيش بلاده الذي لا يقهر يقف عاجزاً في حسم ولو معركة واحدة مع المقاومة المحاصرة كلياً في قطاع غزة الضيق.. إنه نتنياهو ذاته الذي أوهم دول الخليج العربي بأنه الضامن لأمنهم القومي فتأتي المقاومة المحاصرة لتضرب دولته الهجينة في العمق بصواريخ متقدمة ذات تقنيات عالية وتمطر غروره بأكثر من 700 صاروخاً زلزلت كيانه الذي بدا أكثر هشاشة.. ثم يذهب إلى الوسيط المصري كي ينقذه من براثن غزة المحاصرة التي لا تتنفس إلا عزة وكرامة.. ليس هذا فحسب؛ بل تمرغت كرامته في الأرض حيث تحول إلى مادة للسخرية داخل كيان دولته الزائل وفي مواقع التواصل الاجتماعي على صعيد العالم.. وكأن الرسالة التي تتسلل إلى قلبه الواجف تقول له: احزموا امتعتكم وارحلوا إلى أوطانكم التي جئتم منها.. فهذا في المحصلة ردع تكتيكي وليس آخر المطاف ما دامت فلسطين محتلة.. أما عن حلفائه العرب فالضربة كانت موجعة أكثر.. فلم تعد صواريخ القسام في نظرهم كرتونية بل دويّها كذّب كلّ دعاياتهم الرخيصة.. لقد أذعن نتنياهو أخيراً لمطالب الفلسطينيين التكتيكية.. وأقول بدوري لنتنياهو: النصر للمقاومة وإلى اللقاء في جولة أخرى.. فهل لك عين أن تدعي بضماناتك للأمن الخليجي بعد هذه النكسة.

 كنت أيضاً أطمع بسماع رأي محمود عباس عن جولة حليف السلطة نتنياهو الخاسرة في غزة.. فأقول له: أما من سبيل للإجماع على خيار المقاومة ووضع الطريق السياسي في سياقه الصحيح بعيداً عن سكة صفقة القرن الفاشلة.. وإلا فهل ثمة ما تبقى لديك من حياء ما دمت لا تراهن إلا على عدو سلب الشعب الفلسطيني من خلال سلطتك معظم حقوقه!! عجبي!

 

بقلم بكر السباتين

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم