صحيفة المثقف

مناجات جلال الدين الرومي الرمضانية

احمد الكنانيلشهر الصيام إيقاع خاص في ابيات مولانا جلال الدين، يتنوع بين الابتهاج به والفرحة لقدومه، وبين المناجات وذكريات الاحبة المؤلمة، نغمات مزيجة بين سعادة القدوم وألم العودة للذكريات والتي سرعان ما يستيقظ مولانا من سلطتها؛ فالماضي والالتفات اليه ذنب لا ينبغي فعله .

نغمة الفرح ظاهرة في تلك الابيات التي أنشدها مولانا في استقباله للشهر من حيث المعنى والأوزان الشعرية، وكذلك الحزن في قصائد المناجات .

آمد شهر صيام سنجق سلطان رسيد

       دست بدار أز طعام مايده جان رسيد

وسنجق السلطان عبارة عن أولائك الرجال الذين يحملون الإعلام استقبالا وتعظيماً للملك، وهو تشبيه غاية في الروعة في تصوير شهر رمضان بموكب الإعلام المُعَد لاستقبال الملك صاحب الضيافة الروحانية، ويتطلب ذلك رفع اليد عن طعام الابدان والاستعداد لغذاء من نوع آخر، فمائدة الروح حان بساطها .

جاء شهر الصيام وموكب الرايات قد وصل

ارفع اليد عن الطعام فمائدة الروح قد وصلت 

والإشارة هنا ظاهرة الى ضيافة الرحمان الواردة في الآثار النبوية "هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ الله" .

شدم بربام مه ببينم

     كه بودم من به جان دلخواه روزه

نظر كردم كلاه أز سر بيفتاد

      سرم را مست كرد آن شاه روزه

في هذين البيتين يصوّر مولانا رؤيته لهلال شهر الصوم وكيفية سقوط قبعته من على رأسه اثناء رؤيته للهلال وكأنه أصيب بحالة سكر وذهول …

وهنا اقف مندهشاً لحلاوة التصوير بين رؤية الهلال وسقوط القبعة، وبين الصوم والتجرد عن الماديات من الملبس والمأكل والتي عبّر عنها ب " كلاه " وهو الشئ الذي يغطي الرأس .

 فرؤية الهلال إيذاناً  بالدخول الى عالم علوي ولازمه التجرد مما يغطي الرأس ويحجبه عن استلهام الوحي الإلهي، هو بالضبط كالدخول الى الوادي المقدس وخلع النعلين عند بابه في قصة اللقاء الموسوي مع الله الواردة في الكتب السماوية،والدال على التجرد المادي واستقبال الرؤية الإلهية.

والمعنى في هذين البيتين أراه اشد وطأة وأعظم قيلا اذ ان سقوط الكلاه ليس كخلعه والسقوط يحصل بقوة خارجة عن الإرادة، فأنت برفعك رأسك الى الأفق الأعلى ستسقط قبعتك لا محالة بعكس الأمر بالخلع والامتثال الإرادي للآمر.

وأكثر من ذلك: ان قصة المناجاة المولوية وحالة السكر والذهول فيها حصلت لمولانا بمجرد رؤية الهلال اذ لا صوت للإله يُسمع ولا رمز يُرى، هي رؤية مجردة لهلال تحصل كل عام  ويراها كل البشر لكنها رؤية من نوع خاص عند المولوي:

نظر كردم كلاه أز سر بيفتاد

      سرم را مست كرد آن شاه روزه

 بينما حالة الصعق حصلت لموسى عند رؤيته الجبل الذي هو رمز لرؤية الله المحجوبة عن الإبصار :

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ۚقَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَٰكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا .

وكما ان النوع الاول من ابيات المولوي يُستنشق منها نسيم قدوم رمضان البهيجة كذلك النوع الآخر من إيقاع ابيات مولانا في المناجات حيث يعلوها الحزن وتفوح منها رائحة الذكريات….

وما اعذب تلك الابيات التي تقرأ عند الإسحار وقبيل الافطار من خلال التلفاز في ايران وتنشد بصوت محمد رضا شجريان الشجي، اجراها شجريان بطلب من مؤسسة الإذاعة والتلفزيون وتبث في شهر رمضان من كل عام :

ین دهان بستی دهانی باز شد

تا خورنده لقمه‌ های راز شد

چ‍‍ند خوردی چرب و شی‍‍ری‍‍ن از طعام

امتحان ک‍‍ن چ‍‍ند روزی در صیام

چ‍‍ند شب‌ها خواب را گ‍‍شت‍‍ی اسی‍‍ر

 يك شب‍‍ی بی‍‍دار ش‍‍و دول‍‍ت بگی‍‍ر

*

هذا الفم عندما يغلق يفتح فما آخر

اكلتَ الكثير مما طاب من الطعام طوال تلك الايام

جرّب الصوم في بعض الايام

وطوال تلك الليالي كنت اسيرا للنوم

دع النوم في ليلة واغتنم تلك الكنوز

كنت استمع لهذه الابيات بصوت شجريان منذ الصبا وما زلت اسمعها واشعر بحالة من الحزن تنتابني واعيش لحظات صمت كلما شعرت بالحاجة اليها فراراً ممن يحيط بي .

تراني مدان لمولانا جلال الدين في لحظات الصمت والسكون . 

ثم مولانا ما ان يقبل عليه شهر رمضان الا وتطير به الذكريات الى الذين فقدهم وطالما حنّت اليهم روحه، الى رفيق دربه واستاذه الذي انقذه مما كان عليه ودلّه على طريق السالكين ذاك هم شمس الدين التبريزي:  

بیا ای شمس دین و فخر تبریز

          تویی سرلشکر اسپاه روزه

ينادي على شمس الدين ان يأتي ويقود قافلة الصائمين، اذ يراه الاولى بقيادة جيوش المؤمنين،  هو المنقذ وهذا وقت المجئ

  

احمد الكناني

   

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم