صحيفة المثقف

ماركس ونيتشة.. رؤيتان مختلفتان للدين

حاتم حميد محسنرغم ان اي منهما لم يعش في القرن العشرين لكنهما كانا من بين أهم المفكرين آنذاك. تأثيرهما على الناس والأحداث كان عميقا جدا لدرجة أحدث تحولا راديكاليا في الطريقة التي يفكر بها الافراد حول الانسان والمجتمع وظروفه . في كتابه الرغبة في السلطة (The will of power) الصادرعام 1901، زعم نيتشة ان جميع السلوك والتفكير الانساني هو تجسيد للرغبة في السلطة. ماركس،  من جهته، جادل بان الأنظمة الاجتماعية تتسم بشكل اساسي بالصراع الطبقي الذي تسيطر فيه الطبقة الحاكمة على وسائل الانتاج من خلال استغلال الطبقات الاخرى. لذا سننظر في رؤى كل من ماركس ونيتشة المتعلقة بالدين وأصل الاخلاق المسيحية والفلسفة الغربية،  مسلطين الضوء على أوجه التشابه والاختلاف بين هذين المفكرين.

الرغبة في السلطة، الصراع الطبقي والدين

في كتابه (The gay science، 1882) كان نيتشة يتأمل الانحسار في تأثير المسيحية على المجتمع الاوربي. هو كتب بلغة شاعرية عن موت الاله. ورغم ان الله لايزال حيا في عالم اليوم بوجود بلايين الناس الذين ينتمون الى بعض اشكال الديانات المنظمة، لكن نيتشه كان يقصد ان العقلانية الحديثة أزاحت الله من الفهم الغربي المعاصر للكون مستبدلة الدين بـ  العلم. ومع ان ادّعاء نيتشة بموت الاله تميّز عادة ببداية العدمية، لكن نيتشة عارض بوضوح العدمية على اساس انها تضعف عاطفة المرء للحياة. حين كتب "ماذا تعني العدمية؟ - ذكر ان القيم العليا تحط من نفسها" (samtliche werke: Kritische Studienausgabe,vol.2,P319)) – وبهذا،  اعترف نيتشة بتضاؤل دور الدين في المجتمع الاوربي، ولكن ايضا بالحاجة الى نظام غير مسيحي للقيم يمكن للبشرية بواسطته ان تعيش حياة ذات معنى وتحتضن دراما الوجود.

المظهر الاساسي لجواب نيتشه هنا هو مفهوم الرغبة في السلطة. وهي فكرة ان كل كائن حي حين يكافح لتحقيق الهيمنة في الحياة ، هو باستمرار ينمو بدلا من مجرد البقاء . بالنسبة لنيتشة ، الرغبة في السلطة هي الحافز المرشد لجميع أشكال السلوك والتفكير الانساني. في ما وراء الخير والشر (1886)  يوضح نيتشة كيف ان حتى الفلاسفة  يتم ارشادهم بلا وعي من جانب طموحاتهم ، دوافعهم، قيمهم الذاتية والبيئية. هو يكتب انه بدلا من البحث عن المعرفة، فان "المنفعة الحقيقية للاكاديميين تكمن عموما في اتجاه آخر ، ربما في عائلتهم او في عمل نقود او في السياسة". تحليل نيتشة يمكنه ايضا ان يزودنا برؤى ذات قيمة في العلاقة بين الدين والسلطة، الى جانب بعض الاسباب السايكولوجية التي تجعل الناس ينخرطون في الممارسات الدينية. يمكن للدين ان يوفر لنا الشعور بالسيطرة في حياة فوضوية، يقلل من إحساسنا باليأس امام المعاناة وذلك بإعطاء تلك المعاناة معنى، ويساعدنا في ممارسة السلطة على الاخرين. يمكن للمرء النظر في المكانة المالية للكهنة المسيحيين الاثرياء جدا او سلطة القساوسة في العصور الوسطى ليصل الى قناعة بانه حتى الدين يمكن ان يعمل على تعظيم الثراء والازدهار الفردي.

ماركس ايضا رأى الدين كتجسيد للسلطة. غير ان تصوره للسلطة يختلف جدا عن تصور نيتشة. في رأس المال يجادل ماركس بانه في المجتمع الغربي كان الدين المنظّم  وسيلة للنخبة الرأسمالية لإبقاء الجماهير خاضعة اقتصاديا، او كما يكتب في "مساهمة لنقد فلسفة الحق لهيجل (1844)": "الدين هو متنفس المخلوقات المضطهدة، قلب العالم الذي بلا قلب وروح الظروف التي بلا روح. انه مورفين الجماهير". واذا كان اقتصاد السوق يزود السلع والخدمات فهو يفشل في تزويد اي معنى لهدف متجاوز. المضمون هو ان الجماهير  مغتربة جدا وسط ظروف الرأسمالية التي يعيشون بها لدرجة هم يلجأون للدين لكي يحققوا حاجاتهم الروحية. لكن ماركس ايضا يعلن "ان سبب إلغاء الدين كسعادة مضللة للناس هو حاجتهم للسعادة الحقيقية". ماركس يرفض الاسس الميتافيزيقية للدين بطريقة مشابهة لنيتشة، معتبرا اياه ظاهرة متأسسة اجتماعيا. هو يؤكد ان "الانسان يصنع الدين، وان الدين لا يصنع الانسان. الدين في الحقيقة، وعي ذاتي واحترام ذاتي للانسان الذي هو اما لم يربحه لنفسه او انه فقد نفسه مرة ثانية". بالنسبة لماركس، مفهوم "الله" و"الروح" ليس له اساس في الواقع وانما هو مجرد راحة لاولئك الذين يفتقرون لمعنى الحياة. هذه الفكرة هي مشابهة لفكرة نيتشة بان الناس يستخدمون الدين كوسيلة لتمكين وتحفيز انفسهم ، لكن ماركس لم يربط تمكين الدين بفكرة الرغبة العالمية للسلطة. هو بدلا من ذلك، يرى الحاجة السايكولوجية للدين كنتاج غير مقصود للخمول الناتج عن الظروف القمعية للرأسمالية. لذا فان ماركس يحلل الدين من منظور سوسيواقتصادي غائب عن فلسفة نيتشة. ان اي من المفكرين لم يعالج الحجج الفلسفية للايمان الديني. بدلا من ذلك،  هما يسعيان لفهم الدين كظاهرة سايكولوجية وثقافية واجتماعية.

الاخلاق المسيحية كمظهر للسلطة

نظريات ماركس ونيتشة في الدين تعرض افكارا تتعلق بأصل الاخلاق المسيحية. ورغم ان ماركس لم يعلّق حول هذا الموضوع مباشرة، لكن نظريته في الصراع الطبقي يمكن تطبيقها على تطور الاخلاق المسيحية. من هذا المنظور،  تصبح الاخلاق المسيحية وسيلة النخبة الحاكمة لإبقاء السيطرة على وسائل الانتاج. القواعد الاخلاقية المسيحية مثل "ادر خدك الآخر" او "الاول يجب ان يكون الاخير والاخير الاول" تفيد النخبة بتعزيز الطاعة السلبية بين صفوف الطبقة العاملة. لو ان البروليتاريا قاومت بقوة الاستغلال الرأسمالي فان الثورة الاشتراكية ستصبح ممكنة، لكن صبر المسيحي يمكّن النظام الرأسمالي من الاستمرار في استغلال الطبقة العاملة. لذا يمكن الجدال بان فكرة الدخول الى الجنة على اساس اخلاق الانسان تساعد الطبقة الحاكمة لإبقاء سيطرتها على وسائل الانتاج ، لأن المسيحية لاتشجع ذلك النوع من السلوك المرتبط بالثورة مثل القمع،  العنف، الرغبة بالانتقام. ولذلك،  فانه من المنظور الماركسي، تستعمل البرجوازية الدين كآلية مؤسسية تستغل بها الطبقة العاملة وتبقيها في حالة من عدم المقاومة. نيتشة  مشابه لماركس في رؤيته للاخلاق المسيحية كمظهر للسلطة. غير ان منظوره من جوانب اخرى مناقض لماركس. نيتشة يرى المسيحية تعبير عن "اخلاق العبيد"(1) – الاخلاق سادت في صفوف اولئك الذين ليس لديهم القوة الكافية لإحتضان الحياة . في جينولوجيا الاخلاق (1887) يدّعي نيتشة ان اليونان القديمة وصفت نوعيات القوي والمؤثر بـالـ "جيد" وسمات الضعيف بالـ "سيء". ولكن مع استيائهم من الارستقراطية، قامت الطبقات الدنيا بتغيير النموذج الثقافي وخلقت نظاما اخلاقيا يمجّد سمات الضعيف. هذا التحول الاخلاقي كان بداية ظهور المسيحية. انه مجّد صفات الضعف،  مثل العطف والتضحية لأجل الآخر، بينما يحقّر تلك الصفات القوية مثل الثقة بالذات والاستقلالية. هذا يبيّن اختلافا اساسيا بين المفكرين الاثنين: اذا كان ماركس اعتقد ان الطبقة الحاكمة طورت الدين كوسيلة للنخبة الرأسمالية لتمنع الثورة البروليتارية، فان نيتشة يرى ان المسيحية زودت الطبقة الدنيا بوسائل حقّرت بها فضائل الارستقراطية وانجزت السمو الاخلاقي. رغم ان نيتشة لم يعلّق ابدا على نظريات ماركس، هو بلاشك عارض رؤية ماركس في المجتمع المتساوي(2). في (Twilight of the Idols)، 1889اعلن نيتشة بكل جرأة "ان عقيدة المساواة سامة .. ليس هناك اكثر منها خطورة  في الوجود: لأنها تبدو تبشر بالعدالة ذاتها، بينما هي في الحقيقة نهاية العدالة". هذا البيان وحده يظهر التناقض بين رؤيتي ماركس ونيتشة حول الانسانية.

تفكيك تقاليد الفلسفة الغربية

في ما وراء الخير والشر، يدّعي نيتشة ان الفلسفة ليست موضوعية ابدا في بحثها عن الحقيقة. هو يكتب "لدى الفيلسوف،  لاشيء هناك غير شخصي، وفوق كل ذلك، اخلاقه تحمل شهادة حاسمة حول منْ هو". لذا بالنسبة لنيتشة من المستحيل للفيلسوف ان يبقى محايدا طالما هو يتأثر بلا وعي بقيمه الشخصية وعقائده وتجاربه. كذلك،  في (Twillight of the Idols) ، نيتشة يهاجم بعنف عمانوئيل كانط وجداله في الحقيقة الاخلاقية العالمية على اساس انها تعزز شكلا من الاخلاق المسيحية. طبقا لنيتشة ، كانط يسعى لفرض فكرته الذاتية حول الصحيح على العالم ويشبع رغبته بالسلطة من خلال المظهر الخادع للفلسفة الاخلاقية الموضوعية، مسميا اياه"المسيحي السري". نقد نيتشة لكانط وللفلاسفة الحديثين الآخرين يكشف عن نقده للفلسفة الغربية بحجم واسع، ذلك ان كل الافكار الفلسفية  بدلا من كونها نتيجة للتحقيق الموضوعي ،  فهي تجسيد للرغبة بالسلطة لاولئك الذين يخلقونها.

بهذا المعنى، يمكن الجدال ان نيتشة كان اب ما بعد الحداثة، طالما هو ينتقد علنا وجود الحقيقة المطلقة وزعم ان الفلاسفة لا يمكن لهم ابدا البقاء موضوعيين في احكامهم.

ماركس يختلف عن نيتشة بهذا الشأن كونه يمدد افكار الفلسفة الحديثة. غير ان نقد ماركس لهيمنة البرجوازية عملت ايضا كأساس لإنتقاد واسع لتقاليد الفلسفة الغربية. الفلسفة ، يقول ماركس نشأت تحت ظروف الرأسمالية  وفشلت في تحرير الطبقات الدنيا من الاضطهاد الاقتصادي. وكما ادّعى، "الفلاسفة فسروا فقط العالم بطرق مختلفة بينما المهم تغييره" (11 فرضية حول فيورباخ، 1888).

وكما نرى ان كل من نيتشة وماركس انتقدا الفلسفة الحديثة . غير ان نقد ماركس يبرز من نقده للاقتصاد الرأسمالي،  بينما نيتشة يعتقد ان كل الافكار الفلسفية هي تجسيد للرغبة بالسلطة بدلا من ان تكون نتيجة للتفكير الموضوعي. مرة اخرى، الفرق بين نيتشة وماركس يكمن في حقيقة ان تحليل ماركس لتطور الفلسفة الغربية جاء ضمن السياق السوسيواقتصادي لصراع الطبقات، بينما نيتشة يراه كتعبير عن ديناميكية الرغبة بالسلطة التي ترشد كل تفكير وسلوك الانسان.

 

حاتم حميد محسن

...................

الهوامش

(1) يرى نيتشة ان هناك نوعان من الاخلاق: اخلاق السيادة وتبرز بشكل فاعل من الانسان النبيل، واخلاق العبيد التي تتطور كرد فعل لدى الانسان الضعيف. هذان النوعان من الاخلاق لا يمثلان تحولا لأحدهما من الآخر. انهما يشكلان نظامان مختلفان للقيم. اخلاق السيادة تقيس الافعال في ميزان النتائج "الخيّرة" و"السيئة" ، بينما اخلاق العبيد تقيس الافعال وفق ميزان النوايا "الخيرة" و"الشريرة". من المدهش انه احتقر كلا النوعين من الاخلاق رغم ان الاولى اقل احتقارا من الثانية.

(2) رفض نيتشة فكرة المساواة لأنها تشجع الناس لرؤية الاشياء المتشابهة متساوية،  وهو الامر الذي يراه نيتشة كارثيا لأنه "لا وجود حقا للمساواة". ان عدم وجود شيء متساوي له انعكاساته الواضحة ليس فقط على الديمقراطية وانما ايضا على مستوى اساسي ، على عالمية القيم الاخلاقية. الإعلان بان الافراد متساوون مع غيرهم يعني نوع من الشبهية والانتظام الموحد. هذا الانتظام يعني ان القوانين والمعايير الاخلاقية هي بالتساوي ملزمة للجميع، وتعني ان الاختلافات التي تميز الافراد عن بعضهم – اختلافات العرق،  الجنس،  الوضع المالي،  الجينات الوراثية،  المهارات،  المواهب – ذات اهمية ثانوية. اصرارنا على شبهية الافراد يعني اننا نتجاهل السمات المعينة التي تجعل الافراد متميزين راديكاليا، وهذا يضع العقبات امام الافراد في مخالفة الأعراف واختراع طرق جديدة للحياة. طبقا لنيتشة، المساواة تجبر الناس ليعيشوا طبقا لمستويات موحدة وتمنعهم من رؤية انفسهم كافراد متميزين قادرين على خلق مستوياتهم الاخلاقية الخاصة بهم. كذلك، استمرار الافراد  في اشاعة المساواة بين الناس من خلال مؤسساتهم السياسية – اي،  الديمقراطية  قاد الى "تضاؤل الانسان وتقليل قيمته، خاصة، ان الاخيرة حوّلته  الى "حيوان قطيع كامل".  

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم