صحيفة المثقف

أركيولوجيا العشق في ديوان "أناديك قبل الكلام"

893 اوماالشعر ضرب من الجنون المتواصل، اكتشاف للكهوف البلورية القابعة في ذواتنا، تلك الثقوب السوداء المستترة في أعماقنا، لا سيما عندما يكون العشق موضوعا شعريا، مثلما هو الأمر في ديوان "أناديك قبل الكلام" للشاعر إبراهيم قهويجي، الصادر عن منشورات اتحاد المبدعين المغاربة، فما تجليات حضور العشق في الديوان؟ وكيف يوحّد العشق ذوات متعددة لتنصهر في ذات واحدة؟

- تراجيديا العشق/المرأة

الحب درجات وأنواع كما قال ابن حزم الأندلسي، وهو الخيط الناظم لقصائد الديوان، منبع لا يكف شاعرنا من التزود منه باستمرار، وهو يحضر بأشكال مختلفة، غير أن أولى تجلياته تتبدى من خلال الشكوى والتغني بألم الهَجر والبُعد، وصعوبة الوصل أو استحالته كما في قصيدة "ذات الأجنحة الأربعة"، حيث يقول الشاعر:

يا ذات الأجنحة الأربعة

هل ينبغي أن أسافر... ص 17

في السطر الشعري الأول، وظف الشاعر أداة نداء البعيد ليخاطب قريبا منه، قُرب مادي أو معنوي، حضور فيزيائي أو على صورة طيف أو ذكرى أو شبح، وقد أنزله شاعرنا منزلة البعيد، وإن كان قريبا، إما لغفلته أو إعراضه عنه، وهذا ما جعل القصيدة برمتها انزياحا شعريا، مجازات واستعارات وتشبيهات، كلها للتعبير عن محنة الشوق والانتظار وألم البعد، نداء البعيد، نداء للقابع في ذات الشاعر، البعيد الذي يوّلد حرقة الأسئلة، وصعوبة سلك الجسر الممتد بينهما:

كيف أبدد... ص 21

فهل نزغك من نوري له انفصال؟ ص 22

هل أضعت مفتاح باب المغفرة؟ ص 25

هكذا يتحول البعد وحرقة الأسئلة إلى انكسار في قصيدة النسر الملكي، انكسار وتيه، فقد طال البعد، واصطدم الصراخ والأنين بآذان صماء، وبهذا تردى شاعرنا في هوة سحيقة، ولوج لعوالم قصية غير مأهولة:

أنا النسر الملكي المتسلل إلى ذاكرة اليباب

لا أملك غير عش تعشقه الرياح... ص 27

أي عش هذا الذي تعشقه الرياح؟ إنه اللاستقرار، واللاجدوى، واللامعنى، ويستمر العشق، ويستمر الانكسار والتيه في قصيدة "أناديك قبل الكلام" و"حبيبة فوق العادة"، فهاهو يقول:

رأيت بيني وبينك ألف مقام

ولما اقتربت من واحد

احترقت.... ص 32

هكذا يحافظ العشق على وجوده في ظل هذه المسافة الفاصلة بين ذات الشاعر ومخاطبه، فهذه الحواجز والمتاريس هي التي تبقي على العشق، إنه حب تراجيدي، حب مأساوي، فما أجمل قوله:

وتمضغني أغنياتك

وتحتفلين

أنا اللاهث خلفك

والسنين... ص 38

- تراجيديا عشق المكان والهوية والإنسان

يستمر العشق والشكوى وتباريح البعد في الجزء الثاني من الديوان "أغنية لأرض قديمة"، عشق المكان غزة "ردي الكلام"، إن إبراهيم قهويجي يتنفس عشقا، هذا العشق الذي ينتصر للإنسان في زمن الفوضى، العشق الذي نعرف به أنفسنا، يقول:

غزة يا أمي

موصدة المعبر

والصمت عميق... ص 43

وهو نفس البعد الذي يفصله عن المرأة/حبيبته، وهي المسافة نفسها التي تغذي عشقه المنهمر في أرجاء القصيدة، بل يستمر عشق القصيدة واكتشاف الذات، عشق الغائب والذكرى، عشق الرحيل والغربة. هكذا يتجاوز العشق علاقة الرجل بالمرأة، معشوقات الشاعر كثيرة ومتعددة، ويستحضر بعضها في هذا الديوان "أناديك قبل الكلام" انتصارا للإنسان في عصر يمكننا أن نطلق عليه ما بعد الإنسان.

 

عبيد لبروزيين

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم