صحيفة المثقف

عن الحراك الشعبي العربي الجديد

كاظم الموسوييفاجأ الحراك الشعبي العربي الجديد المراقب البعيد، ولكنه يؤكد للمراقب عن قرب أن استمرار الاستبداد والفساد والتخلف الاقتصادي والسياسي يولد ما وصلت إليه الشعوب العربية، سواء أواخر العقد الأول من هذا القرن، أو مطلع نهاية العقد الثاني. رغم أن كلا المراقبين لا يخلوان من المعطيات والوقائع وربما الحقائق المرة. وفي كل الأحوال فإن واقع الحال هو المصدر الرئيس لما سبب الحراك الشعبي العربي الجديد وعلينا قراءته ايضا، كما سبق لنا مع ما سبق. وليس المهم هنا التسميات أو ما يردد من عناوين قد لا تتطابق مع الحال الا في التوصيف الإعلامي. أو تثير اغراءات مكبوتة عند أكثر من طرف من أطراف الواقع العربي أو من يريد له أن يكون.

ما يجري من حراك جديد في السودان والجزائر خصوصا هذه الأيام، وما يتداعى منه في خارج هذين البلدين، ينطق بما يوصل إلى أن الأجيال الشابة الجديدة في الوطن العربي مستعدة للتضحية والفداء ولتقديم أمثلة على ضرورة التغيير والتواصل مع المتغيرات المحيطة أو البعيدة عنها، بحثا عن مكان لها في أوطانها لا في المهاجر والمنافي. فإذا مرت موجة التغييرات عند جيرانهم، في تونس ومصر اولا وانتكست في غيرها، مثل اليمن وليبيا، وتراجعت في بلدان اخرى، الا أن الواضح أن ما جرى تم في جمهوريات عربية، حكمتها سلطات انتقلت بها أو واصلت الانتقال والانقلاب من الاستعمار والاحتلال إلى رحاب التحرر الوطني ولكنها كما هو واضح لم تنجز كل المهمات المطلوبة، أو خيبت الامال باستمرارها في التحكم في السلطة والتشبث بها، (الرئيس السوداني حكم30  عاما، والجزائري 20  عاما) وممارسة أساليب ديكتاتورية وتسلط وإستبداد. الأمر الذي حولها الى موضوع التغيير والانقاذ منها لإعادة الامل لهذه الشعوب والبلدان في التحرر والتنمية والتقدم.

تمكنت هذه السلطات بالذات من بناء اجهزة دولة عميقة دون التفكير بتاسيس مؤسسات دولة حقيقية قادرة على الوقوف بقدراتها وطاقاتها وامكانياتها الكبيرة. والتي تنكرت حتى لبياناتها الاولى أو لخطبها السياسية الاولى. كما فسحت المجال لتكوين طبقة سياسية حاكمة، حاشية لا يهمها غير مصالحها الأنانية المباشرة، حتى لو كان لها اسم حزب أو مجلس شعب أو حكومة رسمية، تحيط بموقع الرئيس وتثرى من خلال علاقتها به عبر وسائل الفساد والاختلاس والنهب والاحتكار والتضخم الفردي على حساب الأغلبية الشعبية والطبقات الاجتماعية التي هي وقود الثورة والدولة والحاضر والمستقبل في هذه البلدان عموما. والابشع فيها رضاها عن نفسها وانكار توحشها واستهتارها بحقوق الإنسان والمواطن وكرامته. بل قبول التمييز عن الشعب والابتهاج بتكديس الثروات ورفع نياشين المناصب والالقاب والتصديق بها دون إدراك الفروق الطبقية والاجتماعية والاقتصادية والتغيرات في المجتمع التي أحدثتها أو سببتها والعمى امام التحولات الإقليمية والدولية. وهذه عوامل كامنة أو ظاهرة تتجمع وتتراكم وتتفاقم وتغلي كالمرجل أو أشد منه في المجتمع.

أن عدد سكان السودان والجزائر يبلغ أكثر من أربعين مليون مواطن لكل منهما، وحوالي او أكثر من نصفهم من الأجيال الشابة، دون سن الخامسة والعشرين عاما، واغلبهم بلا عمل منتج ولا قدرات اقتصادية كافية للعيش الكريم، وترى الأغلبية منهم أمامها كيف يتم تبذير ثروات بلادها والفساد والافساد والتسلط والإستبداد لمجموعات الرئيس والسلطة المتمثلة به، عمر البشير وعبد العزيز بوتفليقة. وكل منهما تجاوز الحد الاقصى بامكانياته في الحكم والعدل والبناء، مع بعض الأوصاف أو الترتيب في درجات الحكم والمواقف والقرارات الوطنية أو السياسية لكل منهما.

ليس بالضرورة التشابه الكامل بين الحالتين، لكن هناك ما يجمع بينهما أو يربط عوامل الأوضاع المشتركة والدفع في إشعال الحراك الشعبي الجديد، وصعود تموجاته ومطالبه واستمراره. ووصول الأمر لدى الحراك الى المطالبة الصريحة بتغيير النظام كاملا، وليس الاطاحة برأسه وحده، كما حصل الان. وكان أبرز تشابه بين البلدين هو تدخل قيادة القوات المسلحة في ضبط ادارة النظام والحفاظ على الأمن والسلم الأهلي بحدود ما اهلها ليس للتدخل وفرض رؤيتها وحسب، بل ومحاولة فرض الأمر الواقع الجديد على المشهد السياسي وطبيعة التغيير.

محاولات القيادات العسكرية في فرض رؤيتها، سواء دستوريا أو جذريا، كما تعلن احيانا، تصب كلها في محاولات التهدئة  الداخلية وربما الخارجية بحدود التأثر والتأثير أو التداخل والتكليف. ولكل منها ثمنه الشعبي والوطني. إلا أن استمرار الحراك الشعبي السلمي يفرض نفسه ايضا ويدفع الى الاصغاء الى مطالبه المتصاعدة والسعي إلى التغيير الجذري في حدود المصالح الوطنية والقومية وإعادة بناء دولة حديثة مستفيدة من دروس الماضي وتجارب الحراك الشعبي العربي.

حصل في تونس ومصر في الحراك والثورة الشعبية إزالة رؤوس السلطة وإجراء خطوات إيجابية أولية في عملية الإصلاح والتحديث ولكن التجربة التاريخية لهما ومازالت أمامنا لم تنجز الأهداف الأساسية من الثورة والتغيير، بل ثمة ردة أو انتكاس صريح، حتى لما كان أو أسوأ منه، مما يعني ضياع الفرص والتضحيات وغياب المسؤولية وتحملها شعبيا وقوى سياسية شاركت أو أسهمت في الحراك وأهداف التغيير.

لعل ابرز ما يضعف الحراك الشعبي العربي الأساسي، ويوفر مناخات ارتداد عن الثورة والتغيير، باي أسلوب من الاساليب المطروحة، ويكاد يعطل سير الحراك وتضييع التضحيات الشعبية من أجله، يكمن في عدم تبلور قيادة سياسية معلنة من الحراك الشعبي واتفاقها على برامج عمل الحراك الشعبي وانجاز الأهداف المنشودة منه، والاستفادة من الطاقات والقدرات الشعبية، الشبابية والمرأة والقاعدة الثورية في المؤسسة العسكرية والأحزاب السياسية المعارضة والقادرة على وضع كفاحها الوطني التاريخي في خدمة الحراك الشعبي وأهدافه في التغيير الديمقراطي البناء. وهنا قد يختلف الوضع في السودان مثلا عن الجزائر. حيث تتوفر هيئة سياسية معلنة مكونة من نقابات وشخصيات وطنية معروفة وقوى سياسية، تموضعت تحت عنوان، قوى إعلان الحرية والتغيير، لها امتداداتها الشعبية وقدراتها على التحشيد الشعبي وإدارة النضال الوطني ورفع الشعارات المرحلية والإصرار على الأهداف الأساسية من كل الحراك الشعبي والخطوات المحققة عمليا الى الآن، وهي ساعية لأخذ دور القيادة والتعبير عن إرادة الحراك والتغيير. ومازالت الجزائر تخطو في هذا الاتجاه، مع رؤية القيادة العسكرية الهادفة إلى تفعيل الدستور ومراحل الإصلاح وتشابك القدرات والطاقات في مرحلة صعبة من الحراك الشعبي العربي الجديد. ولابد ان تصب كل الخطوات الجارية في النهاية لعملية تغيير مطلوبة في هذين البلدين ومستقبل الحراك الشعبي عموما، في بناء دولة ديمقراطية مدنية وسيادة حكم القانون والمواطنة.

 

كاظم الموسوي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم