صحيفة المثقف

الأديب فاضل العزاوي.. اخر الملائكة يحلق في سماء كركوك القرمزيه

896 فاضل العزاويهذا العنق الممنوح إلى الجلاد؟

 تهب الريح من المنفى كأمير يقبل من سفر، كشهاب، وتضيء على عاصفة الصمت: لماذا ينتحب اللي رمادا ينثره فوق جذوع يابسة في أمطار؟

وأنا شعب، امدح هذا الطالع في البرية مثل نبي يبعث بين خطاة، مثل مليك يعدم في الساحه.

تتمتع مدينة كركوك بخاصية نادرة الا وهي تكوين مجتمعها الثقافي والقومي التعددي كنتيجة لحوار حضاري بين اقوام وعقائد. المدينة لم تعرف عبر التاريخ صراعا عسكريا او حرب بين مكوناتها السكانية ولكنها كانت مطمعا للغزاة والمحتلين. هذه الخاصية جعلت من بيئة هذه المدينة الواقعة على طريق الحرير مركزا تجاريا وثقافيا ونقطة وصل. من هنا مر جحافل جيوش إسكندر المقدوني ودون احد ضباطه النار الأليمة الملتهبة في أطراف المدينة في كتاباته. في احد أطراف نهر خاصة صويو (نهر ادهم) نجد قلعتها على تل تحيط بها الدور السكنية والاسواق. القلعة كانت المدينة اَي لم تبنى كحامية عسكرية منذ بنائها من قبل أبناء حضارات العراق القديم وكانت فيها احياء لابناء المدينة بمختلف طوائفهم. تغيرت الأمور مع الحرب العالمية الاولى وبداية انهيار الدولة العثمانية وانتشار المد القومي في المنطقة باسرها. وجاء تأسيس الاتحاد السوفياتي بأفكار تقدمية غيرت الجو السياسي في المنطقة والعالم. كان تحول الدولة العراقية من النظام الملكي الى الجمهوري تغيرا جذريا في المجتمع العراقي. في هذه البيئة التقى مجموعة طيبة من شباب المدينة ليتحاوروا حول هموم المجتمع والأدب والسياسة. سمي تجمعهم ب "جماعة كركوك الأدبية " وكان ولا يزال احد أعمدتها الأديب والشاعر فاضل العزاوي. الاديب العزاوي غني عن التعريف فهو احد الرواد في مجال الشعر والرواية في العراق ومعروف على المستوى العالمي. بعد انهاء دراسته الأكاديمية في بغداد عام 1966 ينتقل الى الخارج لاستمرار في الدراسة في المانيا حيث يحصل على الدكتوراه من جامعة لا يبزغ. التقيته ورغم المشاكل الصحية جاد بنا بهذا اللقاء التوثيقي.

سالته عن عملية التوثيق للفترة زمنية تاريخية في حياة مدينة كركوك في "اخر الملائكة " وهل فاته شيئا او احد من أصدقائك من جماعة كركوك؟ حدثنا عن تلك الأيام الخوالي وما كان محور نقاشاتكم في مدينة تعددية الثقافة وملتقى للإقامة كمتحف ثقافي. اجابني مصححا ما ذهبت اليه قائلا:

ـ لم يكن هدفي في رواية "آخر الملائكة" التوثيق وانما كتابة رواية تعكس روح العراق، بل الشرق كله والطريقة التي يفكر بها الناس في مواجهة مصائرهم وأقدارهم. والسؤال الأهم في الرواية فلسفي يتعلق بالأمل في الفردوس الذي ينتهي الى الجحيم. لا علاقة للرواية بجماعة كركوك ولا بأحد من أصدقائي او نقاشاتنا. وهي قبل كل شيء ملحمة تنبؤية تربط الماضي بالحاضر وتمتد الى المستقبل، لذلك اعتبرها العديد من النقاد الألمان رواية تنبأت بظهور داعش قبل ربع قرن من صعودها، مثلما تنبأت بما يسمى بـ"الربيع العربي" الذي انتهى الى جحيم، كما في الرواية.

لقد تحدثت عن كركوك وعن جماعة كركوك وحياتنا وعلاقاتنا ونقاشاتنا في كتاب آخر هو "الروح الحية" وبالذات في فصل بعنوان "أصدقاء السوء" عن جماعة كركوك.

 نعم انتم على حق طبعا وكنت اقصد كتابك "الروح الحية " وعذرا لكن تلك الجماعة أخذت صدى في المحافل الأدبية خاصة بعد رحيل العديد من المجموعة هل لك اي اتصال بمن عاصركم في تلك الفترة؟

ـ لقد ظلت العلاقة قائمة بين معظم أصدقاء جماعة كركوك حتى النهاية. في كركوك كانت العلاقة وثيقة بيننا ونلتقي باستمرار، وظلت العلاقة قائمة بيننا عندما انتقلنا الى بغداد، حيث عشنا أنا وأنور الغساني ومؤيد الراوي في شقة واحدة، ولكن لم تعد اللقاءات اليومية ممكنة مع الجميع كما كان عليه الأمر في كركوك. وحينما انتقل معظمنا الى الخارج تشتتنا في دول مختلفة ومع ذلك لم تنقطع الصلة بيننا. فقد كنت على صلة أيضا بجليل القيسي ومحي الدين زنكنة وعبداللطيف بندر اوغلو الذين لم يغادروا العراق. كنا نتصل ببعضنا عن طريق الهاتف او الرسائل او في زياراتهم للخارج. أما في المانيا فكنت على علاقة وثيقة مع أنور الغساني ومؤيد الراوي وزهدي الداودي. وكان سركون بولص يزور ألمانيا ويمكث فيها فترات طويلة. ولكن لا بد من القول إن الأمر اختلف بعد الخروج من كركوك، حيث أصبح لكل منا عالمه الخاص به.

896 فاضل العزاوي 2

الرواد الأوائل العزاوي، الداوودي، بولص والراوي

هناك العديد من الاسماء لأعضاء المجموعة هل تتمكنون من تعداد الاسماء لتوثيقها تاريخيا ؟

ـ لم تكن جماعة كركوك رابطة او منظمة تضم أسماء معينة. وقد جاءت تسمية جماعة كركوك من النقاد والشعراء والكتاب الآخرين الذين انتبهوا الى أعمالهم الإبداعية المتميزة المختلفة عن أعمال غيرهم من الكتاب العراقيين. لقد كنا في الحقيقة مجموعة من الأصدقاء المبدعين الذين يمتلكون رؤى مختلفة عن غيرهم ويطرحون مفاهيم جديدة للحداثة لم يكن يعرفها الوسط الأدبي العراقي ويتقنون العديد من اللغات الأخرى، فضلا عن مجيئهم من مدينة مثل كركوك التي لم تكن معروفة بحيويتها الأدبية حتى ذلك الحين. ولذلك ليس صعبا كثيرا التعرف على من يقصدهم النقاد والشعراء والكتاب بتسمية "جماعة كركوك". إنهم يقصدون بذلك الإشارة الى الأعمال الطليعية المتميزة التي قدمها العديد من هؤلاء الشعراء والكتاب في فترة زمنية محددة.

ظهرت في الآونة الأخيرة تسميات ك جماعة كركوك الثانية وربما الثالثة كذلك أنا اعتقد جازما بان هناك جماعة واحده وهناك أصدقاء للجماعة وصدى للمجموعة الأولى او نوع من الاستمرارية هل تحبذ كل هذه التسميات؟

ـ هذه تسميات تطلق جزافا وخالية من المعنى. فلكي تكون هناك أي جماعة ينبغي أن تمتلك ما يؤهلها للفت الأنظار اليها، أن تقدم ما يؤثر في مجرى الحركة الأدبية العراقية والعربية. أما الإنتساب الى مدينة ما فلا يعني شيئا. ربما كان الذين يتحدثون عن جماعة كركوك الثانية او الثالثة يطمحون في أن يؤدوا دورا شبيها بالدور الإبداعي الذي قام به من يطلق عليهم جماعة كركوك، ولكن هذا الأمر يتعلق بهم وحدهم، أي بالمنجز الذي يقدمونه.

اثر حوادث عام ١٩٥٩ في كركوك ترك بعض الأعضاء الخط السياسي للمجموعة تحت تاثير ما يسمى بالوعي القومي ما تعليقكم حول الموضوع؟

ـ كنا جميعا ضد الأفكار القومية والدينية المتطرفة التي تقسم البشر على أسس عرقية او لاهوتية، تمتد الى الولادة بالصدفة، ننحدر من قوميات وأديان مختلفة (عربية، كردية، تركمانية، إسلامية، مسيحية)، ولكننا لم نكن نشعر بأي فارق بيننا، فما يهم قبل كل شيء هو أن تكون مبدعا وتمتلك شفافية وروحا إنسانية تسمو على مثل هذه التقسيمات البدائية. كان أحد أفراد مجموعتنا مثلا قسا هو الأب يوسف سعيد الذي نشر العديد من الدواوين السوريالية بتأثير منا. وكان كثيرا ما يلتقي بنا في مقاهينا وهو في ردائه الكهنوتي. شخص واحد فقط من المجموعة أثر عليه الصراع القومي الدائر في المدينة فانفصل عنا، مما جعله يفقد أي دور إبداعي له في كل الفترة التالية.

حدثنا عن انتاجك الادبي المرتبط ببيئة المدينة أي كركوك وكيف تمكنتم من عكس الحياة الاجتماعية في هذه المدينة والصراعات السياسية والاجتماعية التي كانت تدور رحاها بين أبناء المجتمع؟

ـ لم أكن معنيا بعكس الحياة الاجتماعية والصراعات السياسية في مدينة كركوك بصورة خاصة، فثمة خشية دائما من أن يسيء أحد ما فهم ما يقال في مدينة مثل كركوك، فضلا عن أن منظوري الفكري في الكتابة يمتد ليشمل العالم كله. لقد صورت في رواية آخر الملائكة الكثير من بانوراما المدينة بطريقة قد لا تجدها في أي عمل آخر، ومع ذلك كان ثمة من عاتبني أنني قد أسأت الى هذا الطرف او ذاك، بل كان ثمة من قال لي إنني قد شتمت الجميع في الرواية وهددني مجنون ما ذات مرة بالقتل بدعوى انني أسأت الى المدينة. أطرف ما في الأمر هو أن كركوك امتلكت سمعة كبيرة بعد ترجمة آخر الملائكة الى العديد من اللغات العالمية وظهورها في طبعات شعبية واسعة في أميركا وألمانيا خاصة وكتابة العديد من كبار نقاد العالم عنها، حتى أن مستشرقا المانيا كان مدعوا الى أربيل قبل ثلاثة او أربعة أعوام طلب زيارة مدينة كركوك رغم الظروف الأمنية الصعبة حينذاك لمشاهدة الأماكن التي تتحدث عنها الرواية، فلبي طلبه بعد تردد.

كتب الكثير عن الجماعة ولكن القليل من التحليل والنقد للإنتاج الإبداعي لهم هل يدخل هذا ضمن ضعف الحركة النقدية بصورة عامة؟ ام ماذا؟

ـ لا أعرف مدى صحة هذا الرأي، على الأقل في ما يتعلق بي. إنني لا أشكو من قلة اهتمام النقاد بأعمالي ولا أفكر في مثل هذا الأمر الذي يخص النقاد وحدهم، فقد كتبت عني وعن أعمالي عشرات وربما مئات المقالات والدراسات في العراق وخارجه. كما قدمت عن أعمالي أعداد كبيرة من أطروحات الماجستير والدكتوراه في العراق والعالم العربي وأوروبا، بل وحتى في في بلدان مثل ايران والهند. وكتب عن أعمالي كتاب ونقاد أميركيون وإنكليز وألمان كبار. في الحقيقة لا أعير كثيرا من الإهتمام الى ما يكتب عني الا حين يصدر عن كاتب يهمني رأيه. هناك كتب عدة صدرت عني وعن أعمالي. كان بعضها جيدا وبعضها الآخر عابرا، ومع ذلك يظل الأمر خاصا بكاتبه ولا يعنيني من الأمر سوى عمقه وقدرته على الإمساك بروح العمل الذي يتناوله. وهنا يصعب علي الحديث عن مدى اهتمام النقاد بالكتابة عن أعمال بقية أصدقاء جماعة كركوك، إذ أن الأمر يتطلب مراجعة عقود من الزمن، وهو ما لا أقدر عليه هنا. أكيد أن الحركة النقدية العراقية والعربية ضعيفة، ولكن الكاتب الحقيقي لا ينتظر جائزته من النقاد وانما من العمل الذي ينجزه قبل كل شيء.

في ختام هذا اللقاء نتمنى لأديبنا دوام الصحة والعافية وراحت البال وطبعا المزيد من الابداع لرفد الأدب الإنساني بالكلمة الطيبة والفكر النير الحكيم.

أجرى اللقاء: توفيق آلتونچي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم