صحيفة المثقف

هيدجر وميتافيزيقا الوجودية

علي محمد اليوسفتعريف اولي: إن الحقيقة الصادمة التي يحاول قاريء أو دارس الفلسفة الوجودية، أجتنابها والتغاضي عنها، هي محاولة الانطلاق المسّبق الخاطيء أن الوجودية لا تلتقي مع الميتافيزيقا ولا تستقي مواضيعها بالتداخل الوثيق معها.ونستطيع التعبير عن هذا المعنى أن الوجودية ميتافيزيقا فلسفية أرضية تحمل مأزق وهموم الانسان في الحياة، وليست ميتافيزيقا تبحث عن مصير الانسان قبل وبعد الموت في السماء.

الفكر الفلسفي الوجودي عند أقطاب الوجودية المؤسسين لها منذ نهاية القرن التاسع عشر، والقرن العشرين هم سورين كيركارد. ومارسيل جبريل. وكارل ياسبرز، واخيرا كلا من مارتن هيدجر وجان بول سارتر، جميعهم فلاسفة ميتافيزيقيون بأمتياز لا ينكرونها هم على أنفسهم، فاذا سّلمنا أن كيركارد ومارسيل هما وجوديان لاهوتيان غير ملحدان، يعتمدان في فلسفاتهما مزج مباحثهما بالمنطلقات اللاهوتية المسيحية بهذا القدر أو ذاك، بخلافه نجد أستماتة كل من هيدجر وسارتر تبرئة أنفسهما من شبهة ميتافيزيقا الفلسفة رغم بداية مؤلفاتهما الفلسفية كانت تمتح من الميتافيزيقا بدءا من العنوان فالمتن والمنهج.

ورغم أعلانهما – هيدجر وسارتر – ألحادهما ومحاولتهما خاصة سارتر التمّسك بخلفيته المادية الماركسية لا شعوريا ألا أن الميتافيزيقا ليس بمفهومها اللاهوتي الديني الصرف، بقيت تلازمهما الاثنان معا ولم يستطيعا التخلص منها بسبب تداخل مواضيع الفلسفة الوجودية مع المواضيع الاثيرة في الميتافيزيقا مثل : الموت، الوجود، الحياة، المعنى ، المصير ، القلق، الفناء أو العدم ، الخلود، الحرية الخ الخ.

وكي لا نقع في التباس أن الوجودية ميتافيزيقية لا دينية او أنها مادية هيجلية أو ماركسية، أو هي تتوسط المذهبين الفلسفيين، نقول الوجودية كانت بداية تمفصلها التاريخي الحديث جاء مع أفكار سورين كيركارد الوجودية التصوفية - الميتافيزيقية، أما التمفصّل التاريخي للمادية المتقاطعة مع الميتافيزيقا عامة تماما أنما بدايتها كانت مع هيجل ومن بعده ماركس.

وهنا لا بد من أشارة سريعة على مؤسس الوجودية الميتافيزيقية الحديثة بلا منازع سورين كيركارد الذي كان تأثير خلفيته الدينية البرتستانتية التي عاشها بقسوة دراماتيكية مع الموت الذي أخذ جميع أفراد أسرته الاب والام والاخوات على التوالي ، وحين وجد كيركجارد على حد وصفه أن العقيدة المسيحية مليئة بالتناقضات الصارخة التي تتعارض مع العقل،أزدرى العقل بضراوة لأنه لا يستطيع البرهان اليقيني على قضايا ميتافيزيقا اللاهوت المسيحي، لذا أستبعد العقل وعمد الى وضع أسس فلسفة وجودية تكفر بالعقل وتؤمن بالدين بمفهومه اللاهوتي . وضع كيركجارد وجودية تمزج بين المادي والروحاني الصوفي في تعطيله فاعلية العقل أنحيازا للايمان باللاهوت.

من كل ما أشرنا له سريعا جدا يكون معنا لاغرابة أن تكون الميتافيزيقا متعالقة مع أقطاب فلاسفة الوجودية باستثناء سارتر والى حد ما كارل ياسبرز الذي كان يمتلك منحى خاصا به أيضا.

هيدجر والمصطلحات الوجودية الغريبة

ثمة تداخلات فلسفية غريبة في مفهوم هيدجر للوجود من حيث أستخدامه مصطلحات غير معتادة ولا مسبوقة قبله فلسفيا، وتلاعبه بتفسيرها، تفسيرا غامضا بما يخلعه على تلك التعبيرات والمصطلحات من غريب المعنى والمضامين والمحمولات التي هي أقرب الى نوع من الميتافيزيقا غير اللاهوتية والعدمية التي روّج لها نيتشة بقسوة، ولا يعرف القاريء ماذا يقصد هيدجر بهذه التقليعة من المصطلحات الغريبة منها هذه العبارات الفلسفية الوجودية - الميتافيزيقية المربكة للفهم والعصيّة على الاسلوب المنطقي الفلسفي والمنهج الواضح التي ندرجها لاحقا .يذهب دارسو هيدجر الى أنه فيلسوف أصيل بمعنى استقلالية أفكاره حتى داخل الفلسفة الوجودية ذاتها وتمتلك بصمة خاصة به ويصفه البعض ( أن هيدجر يسير في عرضه دائما على نحو منتظم شديد الانتظام، وأنما يأتي غموضه من المصطلحات غير المألوفة بل والغريبة التي أخترعها هيدجر أختراعا كي يعبر بها عن مفاهيمه، وقد اصبحت هذه المصطلحات مصدرا لالوان متعددة من سوء الفهم، وعلة التنّدر على فلسفته، خاصة من قبل الوضعيين المنطقيين).(1)، ومن هذه التعابيرالفلسفية الغريبة أخترنا:

- الموجود هناك أو الدزاين – يقصد الانسان – ليس له عمق، بل يأتي من جوف هاوية بلا نهاية من العدم.(2)

- ونهاية الموجود هناك هو الموت، وهي هاوية أخرى للعدم.(3)

- أن محض وجود الموجود هناك هو ركض نحو الموت الى العدم، وهو محمول بذاته في داخله نحو العدم.(4)

نترك التعليق على العبارات المبتسرة من جملة تعابير يمتليء بها كتاب هيدجر الاكثر شهرة (الوجود والزمان) الذي لن يضيف تعليقنا شيئا يستر عريّ العبارت التي لا تقول شيئا يمكننا معاملته بجدية ومناقشة تفيد القاريء حتى على الصعيد الفلسفي الميتافيزيقي علما أن تفسيرات العبارات المذكورة هي أكثر غرابة في شرحها وتفسيرها من قبل صاحبها هيدجر....وأستشهد بعبارات أخرى أخف غرابة في تناقضها لما سبق ولا تعطي توضيحا فلسفيا مقنعا منها أيضا أقواله التالية:

- ان الوجودية تفهم الذات بمعناها الخلاق، فالانسان يخلق نفسه بنفسه، أنه هو هو، حريته هو. وترفض الوجودية التمييز بين الذات والموضوع، وتقلل من قيمة المعرفة العقلية في ميدان الفلسفة، وعنده المعرفة الحقة لا تكتسب بوسيلة العقل، بل ينبغي التعامل مع الواقع.(5) علما أن بداهة التعامل مع الواقع أو غيره لا تتم بغير مرجعية العقل الثابتة حتى في مباحث الفلسفة ، وكل أجتهاد فلسفي أو معرفي ينتقد وينتقص من مرجعية العقل النظري والعملي هو ضرب من العبث الذي لا طائل من ورائه.

وأفضل رد أجد تثبيته واجبا ملحّا قبل مغادرتنا هذا الطرح الميتافيزيقي بأسم الوجودية، هو للفيلسوف الفنان والموسوعي الايطالي (كروتشة): (ليس هناك غير حقيقة واحدة هي العقل، وأن العالم هو العقل فيه تتحد الذات والموضوع، الفردي مع الكلّي، والعملي مع النظري، وهو التركيب القبلي المكوّن من كل التركيبات، أنه التطور الخالص اللانهائي، سر بالنسبة لنا، لا نستطيع فض أختامه).(6)

يعتبر هيدجر الوجود – في – العالم، هي ليست علاقة ذات مع موضوع، وأنما يتمّيز بالاحرى بذلك النحو من الوجود الذي هو ال(هم) (7).

التناقض التفسيري البادي لمصطلح هيدجر الوجود في العالم، الذي يشير الى ديناميكية فاعلة بين الذات والموضوع الذي هو الكلّية المجتمعية، نجده في دعوة هيدجر تركيزا على أهمية الانعزال عن تلك المجتمعية الكليّانية لأنها تحتوي الذات بسلبية منقادة وتصهرها في رتابة الحياة التي تقوم على أشباع الغرائز والحاجات البيولوجية بما يطلق عليه هيدجر نسيان الوجود. ويعتبر هيدجر ذلك هو السقوط في الناسّية اليومية الذي هو في حقيقته وجود اللاحقيقة أو الموجود الزائف الفاقد لتمايزه الوجودي الاصيل.

حسب فهمنا لعبارة هيدجرأن الوجود الاصيل لا يتحقق من غير التواجد خارج الكليّة المجتمعية بنفس وقت صنع حياته بنفسه في تنمية ذاتية مميزة في وعي الوجود والوصول الى أعلى مراتبها  في أمتلاكه كامل الحرية التي هي أختيار متحرر من كل وصاية خارجية عليه باستثناء أحساسه الوجودي بانسانيته كذات تعي حريتها المسؤولة تجاه الاخرين.

هيدجر ومفهوم الموجود هناك

يعتبر هيدجر الوجود هو(أغمض المفهومات على الاطلاق، والوجود ليس سببه المتواجد، أنما هو الوجود الذي يحدد المتواجد (الانسان هناك) أو الديزاين.)(8) وماهية الموجود هناك (الانسان): (ليس هو ما يحتويه ذلك الموجود، وانما ماهيته تقوم في كينونته المتعينة، والذي يفسر تلك الماهية هو دائما هذه الكينونة.)(9) والموجود هناك وقد ألقي به في العالم القاءا، أنما هو يظهر الخطيئة في هيئة الصمت القلق .(10). ومنهج فهم ماهية الوجود هناك هو الفينامينالوجيا أو منهج الظاهراتية وهو ما يظهر نفسه بنفسه، وليس ما تظهره المظاهر والاوهام المبتذلة)(11)

أن الظاهرات هي غيرها الصفات الظاهرة الواضحة البائنة خارجيا في أدراك المحسوسات لها بصفات خارجية تكون في مقاربة مشابهة مع الموجود بذاته في تعالقه المتخارج معها، وأما الظاهرات التي تنشأ من تبادل العلاقة التخارجية للشيء في وجوده المتفاعل ضمن علاقات عديدة مع الاشياء الاخرى(المواضيع) التي يرتبط بها وكذلك تأثيرات أشياء الطبيعة على تلك العلاقات المشّكلة للظاهريات في تعالقها مع الوعي.

أن الظاهراتية حسب هيدجر (هي ما يظهر نفسه بذاته)، بينما تكون الظواهر هي الصفات الخارجية المحسوسة او المدركة عن الاشياء الجامدة أو الثابتة في الطبيعة بلا وعي ولا أدراك ذاتي لها من حاملها كما هي عند الحيوان والنبات.

وفي هذا النوع من التفريق تكون الظواهر المدركة حسّيا ثابتة بالقياس الى عملية الادراك التي تطال كليهما أي الظواهر المتعالقة مع الوجود، والظاهرات غير المدركة من الآخرالتي تنشأ في علاقة الموجود مع أشياء الطبيعة وعالم الموجودات.

بعبارة أخرى الظاهرات هي ما يفصح عن الوجود في تعبيره عن أصالة حقيقية لذاته في وعيه الموضوع، وديناميكية تنموية للذات ملازمة على الدوام، وليس في أفصاح الصفات التي تخلع على (الموجود هناك) تمييزا من خارجه في ادراك المحسوسات والعقل لها، ويعبر هيدجر عن فهمه أصالة الماهية انها تقوم على..... (استخلاص المتواجد من العتمة ).

كيف يحقق (الموجود هناك) أصالته الوجودية؟

نستطيع القول بضوء بعض آراء هيدجر ألمجتزأة التي مررنا بها، أنه لكي يحقق الموجود هناك أصالته الوجودية الحقيقية عليه (أستخلاص تواجده من العتمة). في توفير أسباب أنسحابه وتخليصه منها، التي هي في مستوين من تخليق الوجود الواعي الحر للانسان هناك :

المستوى الاول: هو الانسحاب من العتمة أي من حالة اللاوجود الحقيقي حسب تعبير هيدجر، التي هي اللاوجود لما هو موجود، أي في نفي الموجود من العتمة أن يكون موجودا وجودا، وهذا الضياع لا يمّكن الموجود أن يكون في واقع يمتلك فيه الموجود هناك - أي الانسان - كامل حريته وأرادته في اختياراته واتخاذه قراراته، أذن من المتعذر أن يكون خلاص (الموجود هناك) بغير وجود يؤمن له حرية القرار في الاختيار كي يتمكن تحقيق وجوده الاصيل، وجود تكون فيه (الانا) في أعلى ممكنات الوعي الطموح والتمّيز، وأن معيار الوصول الى هذا الوجود النوعي، أنما يكون في الوعي ذاته المالك لاقصى طاقة من الحرية الانسانية المسؤولة والمسلوبة من الانسان في وجوده المغيّب الزائف في العتمة وضياعه في اللاوجود.

المستوى الثاني: يتم أيضا عبر الانسحاب من الوجود الناسّي، أي الانسحاب من الكليّة المجتمعية الزائفة(العتمة). كون الانسان موجود في عالم فاقد، وقائم على أستهلاك طاقاته الخلاقة من حيث فقده لوجوده الحقيقي في مجتمعية كليّانية لا تناسب طموحه في التحرر من سطوتها التي تمنعه من تحقيق ذاتيته الفاعلة التي يكابد في الوصول لتحقيقها الموجود بالخروج المتحرر من سجنه في الكلية المجتمعية الاستلابية التي هي العتمة أي اللاوجود.

طبعا هنا الانسحاب الذي يدعو له هيدجر، من الناسّية او الكليّة المجتمعية بمقدار الأمل الايجابي الكبير الذي يمكن تحققه أو/ لا، يرافقه حتما أغتراب سلبي زائف على مستوى أنعزال الفرد الطبيعي في عدم مجانسته الواقع الذي لا يمكن الا أن يكون خاضعا منقادا فيه الى تلك الكليّة التي تضمن له حياة تشبع له غرائزه وحاجاته في الحياة اليومية ربما يكون هو الموجود راضيا عنها ، ويكون خطأ قياس معياريتها فلسفيا بالفهم الوجودي الصادر عن الآخر أنها وجود أصيل أو زائف،وهذا لا يحدد أصالة الموجود من زيفه غير الشخص المعني وحده الانسان لأجل ذاته، واذا نحن استعرنا لفظة تعبير كولن ولسون فاللامنتمي الذي ينسحب من الكليّة الاجتماعية، والذي يطمح الخروج من حالة هذا الاغتراب الانعزالي الارادي الطوعي في عتمة ضياع الوجود الحقيقي، لتحقيقه موجود متمايز أصيل بعيدا عن أنغماسه في الكليّة المجتمعية الزائفة التي تهدر طاقاته في رتابة الحياة اليومية واشباع غرائزه وحاجاته الاستهلاكية،أنما يكون الاساس في الاختيار الناجح او الخطأ هو تقدير الموجود نفسه لحالته ولا أحدا غيره ينوب عنه.

أن تحقيق هذا النموذج من الوجود الانساني لا يكونه ويمّثله شخصا عاديا بمواصفات فكرية وثقافية محدودة، وأنما يشترط أن يكون الفرد اللامنمي وجوديا يمتلك مواصفات عالية من فهم الحياة بعمق وجدّية أكثر من اللازم والمطلوب المعتاد منه في أن يعيش الحياة بما يجده يؤمن رضاه عنها. وليس بما يريده الاخرون تحقيقه منه بمعيارية قياسية تقوم على المفهوم الفلسفي الوجودي أو غيره وليس من واقع الحياة ومجرياتها.

فالوجود الحقيقي يتحقق بالفعل المنغمس بالحياة وليس بالافكار المجردة التي تقوم على وصف المطلوب غير المتحقق أو الممكن...والوجود الحقيقي هو الوجود الذي يبني وعيه ذاتيا بقدرات ديناميكية مصدرها الفعل الواقعي المجتمعي وليس الفكر المجرد في وصف طريق الحياة بالكلمات.

الوجود الحقيقي هو فعل الانسان في المشاركة بصنع الحياة وليس باستهلاكها في أشباع غرائزه وحاجاته. والموجود الحقيقي لا يتحقق في وجود مفروض من خارج الموجود في صفاته البايولوجية من جهة، ولا في أختيار الذوبان في تفاهة الحياة المجتمعية الكليّانية التي عمادها أستنزاف حياة الموجود في تلبية وأشباع رغباته الاستهلاكية منها.

الموجود أو السقوط في الناسّية او المجتمعية الكلية الزائفة تجعل من الانسان الممّيز بمواصفات لا يمتلكها الآخرون رقما أفتراضيا غير نوعي تحتويه (القطيعية) التي يساق أفرادها خلف الوجود المجتمعي الاستهلاكي في تأمين الحاجات وأشباع الغرائز ضمن حياة تقوم على رتابة ممّلة لا يتمكن الانسان تحقيق وجوده الكامل فيها وبين ناسها التي تحكمهم جميعا استهلاكات الوجود البايولوجي اليومي في أدامة البقاء على قيد الحياة ومحاولة جني أكبر قدر من اللذة منها قبل أن يدرك الموجود هناك الفناء بالموت.

وهذا النوع من الوجود البوهيمي ترفضه الوجودية متجاهلة  بديهة أجتماعية هي أن ليس كل الناس أصحاب مباديء يضحّون من أجلها بالحياة الاستهلاكية والاستمتاع باللذة المتحققة.هذا في حال أفتراضنا أن أفكار وجودية الستينيات من القرن العشرين الفلسفية لا زالت صالحة تمتلك تخليص الحياة القهرية بالانتحارأو الاغتراب في عالم اليوم الأشد تعقيدا.

وتؤكد الوجودية ضرورة حصول الافراد على نوع من الوجود النوعي المائز، المعبّر عنه في أختيار واع متحرر يجد الفرد فيه حقوقه الانسانية ضمن مجتمع وكليّة مجتمعية متجانسة في طموحاتها نحو أمتلاك الحرية المسؤولة التي تخرج الفرد او الافراد من سجن الاحتواء ضمن الكليّة المجتمعية الزائفة التي تجعل من وعي الذات الوجودي الاصيل بحكم التمرد المشروع في الخروج على قوانين وضوابط الكليّة المجتمعية الاحتوائية الزائفة...حاجة ضرورية في خلاص الانسان من واقع الحياة القهري الى وجود يمتلك فيه حريته وأنفراده باتخاذ القرار الذي يناسبه وقدراته الثقافية والعلمية.

لكننا نجد من المفارقة أن الوجودية بهذا الفهم الستيني من القرن العشرين أنما رفعت شعار بوذا(أبحث عن خلاصك بنفسك) ليس بروحانية متسامية تعويضية في منح الانسان البوذي الصوفي او الموجود هناك الذي هو الانسان العادي أطمئنانا حقيقيا غير زائف يختلف كليّة عما تطلبه الوجودية من خلاص مادي في مجتمع أستهلاكي غارق بأعلى درجات الضغط النفسي والقلق وأنعدام الأمل والمصير اليائس بالحياة....

نقد هامشي

لنبدأ بمناقشة عبارة هيدجر التي سبق لنا ذكرها هي ( الانسان لا يملك وجوده لانه هو هو وجوده في حريته).

عند أمعان التأمل المفكّر بهذه العبارة نجدها تشي وتشف عن تثبيت عكس ما تريد نفيه، فالانسان لا يمتلك وجوده الحقيقي الا من خلال امتلاكه وعيه الحقيقي في أهمية امتلاكه لوجوده في الحرية، وهذا الوجود نوع من الكليّانية والكينونة المتكاملة الموحدة الواحدة، ولا يتحقق الموجود الحقيقي من دون أكتمال بايولوجي متحقق فيه هو أولا.

الكينونة الانسانية موجود حقيقي معطى للانسان في الوجود النوعي ضمن مكوّنات الطبيعة، والانسان لا يحاكم نفسه ذاتيا في حقيقة وجوده من غير أمتلاكه الوعي المسّبق لذلك الوجود الحر وما هي سلبياته وايجابياته .

كما أن الانسان في كينونته وكليّانته البيولوجية المتكاملة موجود لا يمكن تقسيمه الى موجود مادي تارة، ولا الى موجود سايكولوجي منفرد أخرى ، ولا الى موجود قيمي انساني أو أخلاقي تارة ثالثة. فالانسان الموجود هناك هو الذي يعي ذاته وكينونته الوجودية، يعيها في تكاملها البيولوجي الطبيعي قبل وعيه الوجودي الفلسفي الفكري التجريدي لها، سواء أكانت ضمن كليّة مجتمعية زائفة أو كليّة مجتمعية متجانسة في طموحها الوجودي الحقيقي في تحقيقها قيم الخير وتأمين العيش في متطلباته المادية وأن كانت في حقيقتها كليّة اجتماعية استلابية في أحتوائها الموجودات بسلبية استهلاكية للحياة.

أو كانت في عتمة عدمية من اللاوجود. وفي حال تسليمنا أن الانسان هناك حسب التعبير الهيدجري لا يملك وجوده لأنه هو هو وجوده في جميع ومختلف الاحوال، فمن يمتلك ويسلبه وجوده غيره أذن ؟ وبالنسبة لمن هو لا يمتلك وجوده الاصيل؟؟ وما معيارية تحديد وجوده الزائف في كليّة مجتمعية طبيعية أو زائفة ؟؟

لا يشترط أن يكون الزيف في المجتمع خاصة المحكوم بقوانين وضعية ديمقراطية عادلة هي مزيج من تأمين حقوق الانسان بالحياة الديمقراطية قبل أحتمالية أن يكون الخلل غير الطبيعي في أمتلاك الموجود الاسمى هو قصور في قدرات ومؤهلات الفرد المتجانس وليس المجتمع المدان.

الوجود الانساني الحقيقي لا يقاس بغيرمعيارية (الفعل) التنموي بوعي الذات وبنائها. والانسان فعل نوعي وجودي حيوي نامي قبل أن يكون كائنا أنطولوجيا لا يمتلك من أمر دنياه شيئا. والوعي الوجودي الديناميكي الذي يطالب به هيدجر، هو وعي يدرك صاحبه أهمية أمتلاكه لموجوده الحقيقي. عندما يكون هذا الموجود هناك هو سيرورة من التنمية التخليقية المتصاعدة كي يخلق الانسان نفسه بنفسه كما ترغب الوجودية في أدبياتها.

لذا لا يكفي الانسان المائز المتمّرد المنفرد الانسحاب من الكليّة المجتمعية التي هي الحياة المتوفرة له ولغيره بنفس المعايير والمعطيات الحقوقية الممنوحة، من غير أمتلاكه مؤهلات التمايز الذي يبنيها بقدرات ذاتية استثنائية تجعل من أعتزاله المجتمعي أمرا ناجحا ومحققا لأهدافه في تمايزه الادراكي النوعي لمعنى الحياة.

أي بعبارة أخرى الانسحاب من السقوط في الكليّة المجتمعية لا تفيد أفرادا لا يمتلكون المؤهلات الاستثنائية في تشكيل وجودهم والتأثير بالمجتمع.، بل تفيد أو/ لا تفيد سوى الافراد الذين يمتلكون وعيا حقيقيا عميقا في معنى الوجود ومعنى الحياة.بمعنى الموجود الذي يحقق تواجده الحقيقي أنما هو موجود نوعي وليس موجود مجتمعي لا أرادة ولا وعي متحرر يهديه.

جميع أبطال روايات وأعمال سارتر المسرحية هم أفراد متشيؤون يريدون فهم الحياة بجدية أكثرمن اللازم وعمق نقدي جوهري نافذ لما تحتاجه الحياة منه، لذا يكون سقوطهم المحتوم في لا معنى الحياة ضرورة وجودية في حياتهم كي يتطابق لامعنى الحياة في الوجودية مع الواقع الحتمي المفزع الذي طالما حاول الانسان الهرب من مواجهته واستحقاقاته.

وبحسب تعبير سارتر أن الوجود الحقيقي المتمايز لا يتحقق الا ضمن فاعلية من التنمية في تخليق الانسان لوجوده الموجود وبناء نفسه في وتيرة متصاعدة من السيرورة في الحياة. وفي أمتلاكه كامل حريته لأنها أساس كل أختيارناضج صحيح يكون معيارا حقيقيا لأصالة الموجود...وهذا ما لا يتوفر عليه وجود الانسان بداية القرن الواحد والعشرين وربما قبله بما لايقل عن نصف قرن، وربما تكون هذه الافكارالوجودية في الستينيات من القرن العشرين مسلمّات حياتية وجودية تمتلك من الصواب الكثيرفي أعقاب حربين عالميتين. .لكنها اليوم فقدت بريقها تماما.فمبحث الوجود وأن كان منذ نشأة الفلسفة مبحثا مركزيا ومحوريا تتفرع عنه سائر فروع مباحث الفلسفة في المعارف والقيم، الا أنه كمفهوم فلسفي أختلفت رؤى النظر له وتباين منطلقات معالجته ومحاولة فهمه.

مباحث الفلسفة اليوم تختلف جذريا عن مباحث الفلسفة منذ القرن السادس ق.م. وصولا القرن العشرين الفائت، ولا يكفي باحثي تاريخ الفلسفة من العرب اليوم وسط هذا التقدم العلمي والمعرفي الهائل أن يكون عرضهم لافكار فلسفية عمرها عشرات او مئات من القرون على أنها وجهات نظر فلسفية لا تزال تحمل مقومات فاعليتها ولم يتمكن العلم ولا فتوحات المعرفة والفلسفات الحديثة والمعاصرة دحضها...بموجز عبارة بعيدا عن الاملائية نحن بحاجة الى نقد فلسفي وليس لعروض فلسفية.

وممارسة الموجود للحرية هي ألزام والتزام بمسؤولية وعي الذات لانسانيتها، لذا فالحرية هي وعي وجودي يمارسه الانسان بامتلاء ذاتي والتزام أنساني، وهذا لا يتوفر في كينونة فردية لا تمتلك وعي وجودها في ذاتية متداخلة في وجود مجتمعي مع عالم يمور بالحياة في متنوعاتها الاستهلاكية اللذائذية.أي سقوط الموجود هناك في الناسية المستلبة لطاقاته ولا يمكن أن يكون بمؤهلات تمّكنه بناء وعيه الذاتي الحقيقي بالحياة.وهذا النوع من الحياة لا يرفضه ولا يرضاه سوى الموجود الانسان وحده.

في عبارة اخرى لهيدجر أستوقفني التعليق عليها قوله ( الانسان ذاتية خالصة، وليست مظهرا أو تجسيدا لتيار حيوي أشمل منه هو التيار الكوني)(12)

أنه لمن المهم أعتبارالموجود الحقيقي في المدرك الزمني له مجتمعيا، هو المعيار الانساني في سعيه تحقيق تنمية أنسانية تحمل كل فضائل الحياة ، وقدر الموجود الانساني الحقيقي أن لا يكون ضمن تجانس محيطي مجتمعي أو غير متجانس مع تطلعاته في التنمية الوجودية. الموجود الانساني في الطبيعة والمجتمع هو كينونة مدركة في متعيّن زماني وجودي مدرك غير مفارق لطبيعته. ويصفه هيدجر بالموجود هناك، الذي هو وجود مع، وجود بالاشتراك مع(هم).

وأدراك الكينونة الانسانية أو بعضها من تكويناتها الماهوية من خلال أفتراض تعطيل الزمن ألادراكي الذي يحكم قوانين الطبيعة شاملة هو نفس الزمن الذي يحدس الوجود الكوني من غير وجود أنساني مائز متفرد فيه. الطبيعة والوجود والزمان والادراك وغيرها من مفردات فلسفية لاقيمة حقيقية  لها في حياة الانسان من دون أعتماد مركزية الانسان ومعاناته كمحور أرتكاز في أيجاد وجود جمعي مثمر وهادف، في فهم الحياة والوجود الانساني النموذجي.وتضحية فرد لا تضمن ولا تقود بالضرورة أنقاذ مجتمع، لكن تضحية مجتمع ضمانة أكيدة لتوفير حياة يرضاها الجميع كأفراد.

 

علي محمد اليوسف /الموصل

.....................

الهوامش

1- ا.م.بوشنسكي/الفلسفة المعاصرة في اوربا/ت. عزت قرني/ سلسلة عالم المعرفة، ع165/ص 218

2- المصر السابق ص 216

3- المصدر السابق ص 216

4- المصدر السابق ص 217

5- المصدر السابق ص 117

6- المصدر السابق ص 220

7-المصدر السابق ص 219

8- المصدر السابق ص 218

9- المصدر السابق ص 221

10- المصدر السابق ص 224

11- المصدر السابق ص 219

12- المصدر السابق ص 221

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم