صحيفة المثقف

عيد التعميد والمشترك الديني الشرقي

صالح الطائي‏‎سبق وأن كتبت عدة مرات عن المشترك الديني في العقائد الشرقية من خلال تفسير الآية 19 من سورة آل عمران، في قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}. موضحا أن الآية تقصد أن التسليم لله بالوحدانية هو أصل الرسالات، وإذا كان التوحيد جوهر تلك الديانات فهو الدليل على وحدانية مصدرها، وتوجب وحدانية المصدر أن تكون بينها مشتركات في العبادات والشعائر والطقوس. والمعروف عن الصابئة أنهم موحدون وفق عقيدة (سهدوثا اد هيي) وهي الاعتراف بخالق الكون، الواحد الأحد، الذي لا شريك لأحد بسلطانه.

ولأن إخوتنا الصابئة المندائيين سيحتفلون يوم 19/5/2019 بأحد أعيادهم المهمة، فمن الممتع أن نتحدث قليلا عن هذا الدين، وعن بعض مشتركاته مع الديانات السماوية الأخرى.

هذا العيد هو عيد التعميد الذهبي (دهفا أد ديمانا) ويقع في بداية كانون المندائي حسب التقويم المندائي؛ الذي يصادف يوم 19/5/2019 وفيه عمَّد جبرائيل(عليه السلام) الملائكة في عوالم النور العليا، واهدي التعميد لآدم وذريته من بعده، وفي مثل هذا اليوم تعمد نبي الله يحيى بن زكريا (عليه السلام). وتشبه هذه الشعيرة شعيرة التعميد في الديانة المسيحية، التي تعتقد أن نبي الله يحيى هو الذي عمد السيد المسيح(عليه السلام)، ولهذا الاشتراك سبب سيتضح لاحقا.

أصل هذه الشعيرة يعود إلى إشارة موجودة في الكتاب المقدس (كنز ربا) إلى التعميد تحديدا: بسم الحي العظيم (اصبغوا أنفسكم بالصبغة الحية التي أنزلها عليكم ربكم من أكوان النور)، ولهذا يؤمن المندائيون أن على الأسرة أن تقوم بتعميد الطفل المولود بعد ثلاثين يوما من ولادته، اذ يُعدُّ هذا الطقس ولادة روحية للطفل ليكون مندائيا. كما يجب على أبناء الطائفة التعميد في مثل هذا اليوم، وفي أيام عيد البنجة (البرونايا) لأن التعميد ركن أساس في عقائد الصابئة لتطهير الروح وتنقيتها مما لحقها من آثام، مثلما هو واجب على المرأة في يوم عقد قرانها وبعد ولادتها.

يؤدي عملية التعميد عادة رجل دين بمرتبة ترميذا أو كنزاربا أو ريشما، ورجل الدين نفسه عليه أن يتعمد في عيد التعميد للتأكد من نقاء الروح.

 

وللتعميد ملابس خاصة؛ تسمى (الرستة)، تشبه ملابس الإحرام للحج والعمرة لدى المسلمين من عدة نواحي، منها: الأولى: وجوب لبسها عند التعميد مثلما أوجب الإسلام لبس الإحرامات أثناء الحج والعمرة. الثاني: لونها الأبيض. والثالث: صناعتها باليد وعدم استخدام الغرز في خياطتها، وهذا من العوامل المشتركة بين الديانات الشرقية التي يظهر لك حينما تتعمق بدراسة طقوسها وشعائرها وكأنها جاءت من منبع واحد لغاية واحدة، أو كأن بعضها اقتبس من البعض الآخر وهذا دليل على وحدة الأصل والمشترك الإنساني.

وتجد المشترك واضحا في موضوعة الصلاة(ابراخا)، فالصلاة عند الصابئة مثل باقي الديانات التوحيدية  فرض واجب على كل فرد مؤمن، وهناك وفق تعاليم الكنزا ربا خمس صوات، ثلاث بالنهار واثنتان بالليل، تم اختصارها وفق تعاليم نبي الله يحيى إلى ثلاث صلوات نهارية، وغايتها التقرب من الله. جاء في الكتاب المقدس: (وأمرناكم أن اسمعوا صوت الرب في قيامكم وقعودكم وذهابكم ومجيئكم وفي ضجعتكم وراحتكم وفي جميع الأعمال التي تعملون).

ويشتركون مع المسلمين في الوضوء للصلاة، فقبل تأدية الصلاة يتوجب على الصابئي أن يقوم بالوضوء (الرشاما)، والوضوء في ديانة الصابئة يتكون من ثلاثة عشر قسما يبدئ بالرخصة وهي النية عند المسلمين، ثم غسل اليدين والوجه وجبهته والأذنين والفم والركبتين والساقين ووضع اليدين في الماء وغسل القدمين مع ترتيل مقاطع دينية مع كل قسم، فمثلا عند غسل الفم يقول: (ليمتلئ فمي بالصلوات والتسبيحات) وعند غسل الأذنين يقول: (أذناي تصغيان لأقوال الحي)، وهناك الكثير من القواسم المشتركة بين أقسام شعيرة الوضوء في الديانتين الإسلامية والصابئية، وفي الأدعية التي تردد أثناء الوضوء.

وكما هي الصلاة عمود الدين في الإسلام، تبعا لحديث: " الصلاة عمود الدين ان قبلت قبل ما سواها وان ردت رد ما سواها" فهي كذلك عمود الدين الصابئي، الذي لا يقوم إلا بقيامها، وهذا مشترك توحيدي كبير.

أما الصوم فيشتركون به من حيث الكلية مع باقي الديانات الإبراهيمية، ومن حيث الجزئية يشتركون به مع الديانة المسيحية، ففي المسيحية صومان رئيسان: الصوم الكبير والصوم الصغير، فضلا عن أنواع صيام أخرى، وفي ديانة الصابئة صومان كذلك قريبا الشبه إلى صيام المسيحيين، وفي جزئية أخرى يشتركون به مع المسلمين الذين يوجبون صوم الجوارح، فوفق تعاليم الكنز ربا يعتبر الصوم إمساكاً عن القول والفعـل، قلباً وعقلا وضميراً، جاء في الكنز ربا: ( لِـتـَـصُم عـيونكم، وأفواهكم، وأيديكم.. لا تغـمز ولا تـَـلمز) و(لا تـنظـروا إلى الشّـر ولا تـَـفـعـلوه الباطل لا تسمعوه لا تنصتوا خلف الأبواب نـزهوا أفواهكم عن الكذب الزيف لا تقربوه أمسكوا قلوبكم عن الضغينة والحسد والتفرقة أمسكوا أيديكم عن القتل والسرقة أمسكوا أجسادكم عن معاشرة أزواج غيركم، فـتلك هي النار المحرقة أمسكوا ركبكم عن السجود للشيطان وللأصنام الزيف أمسكوا أرجـلكم عن السير إلى ما ليس لكم) وهي نفسها معمول بها في الصوم الإسلامي!.

ويشتركون مع الأديان الأخرى في تعدد الأعياد، فعيد التعميد هو واحد من أصل أهم أربعة أعياد في ديانة الصابئة، يليه في الأهمية: العيد الكبير (دهوا ربا)، وعيد الخليقة (برونايا)، وعيد الازدهار (دهفة حنينا)، ولديهم أيضا ثلاث مناسبات دينية أخرى، هي "أبو الفل"، و"أبو الهريس"، و"شيشان عبد".

وبمناسبة عيد التعميد الذي يصادف في هذه الأيام، يسرنا ويسعدنا أن نتقدم لأهلنا وملح أرضنا وإخوتنا الصابئة بأحلى الأماني وأجل التبريكات وأجمل الدعوات، متمنين لهم أياما حلوة مملوءة بالفرح والسعادة والسلام.

 

صالح الطائي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم