صحيفة المثقف

هل منبع العطاء مادي أم معنوي؟.. بحث قرآني

على ملصق في عيادة أحد الأطباء قرأت هذين البيتين من الشعر:

وإن تكــن الأرزاقُ قسماً مقدّراً     فقلةُ حرصِ المرءِ في الكسب أجملُ

وإن تكن الأموالُ للترك جمعُها     فما بالُ متروكٍ به المرءُ يبخلُ.

هذه حكمة قيل أنها منسوبة للإمام الحسين (ع) ضمن قصيدة.

كان بودي لولا الحياء أن أسأل الدكتور عن مدى سريان هذه الحكمة في حياته الشخصية.عادة الحكم تصدر عن أناس إما خاضوا تجربة ما، أو تجارب عدة واستخلصوا منها حكمة أو حكماً بليغة. وإما لم يخوضوا تجربة ويصدروا حكمهم، وهم الحكماء.. فهذا شأنهم. لكن على الدوام يوصونا العوام بأن نسأل المجرب ولانسأل الحكيم. الحكم لاتصدر جزافا، وأحسنها التي تأتي نتاج تجربة ثقيلة خاضها شخص ما. كثيرون يكتبون الحكم ولانجد على أرض الواقع أيَّ أثر عملي لها على سلوكهم و حياتهم (كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالاتفعلون).

صدرت هذه الحكمة عن سيد زهد ليس بالمال فحسب؛ بل بالدنيا وما فيها، فجاد بروحه (والجود بالنفس أقصى غاية الجود).

فحوى هذه الحكمة هو ترشيد الحرص على المال، واستخدام أسلوب الوسطية والإعتدال في إنفاقه. فالعطاء هو وجه من وجوه تصريف المال، وهو موضوعنا قيد البحث، خصوصا نحن في شهر الخير والعطاء.. شهر رمضان الكريم.

إذا تأملنا في موضوع العطاء وألقينا على أنفسنا السؤال التالي: هل العطاء منبعه مادي أم معنوي؟

أود هنا أن أعود قليلا الى بدء الحياة البشرية على الأرض، التي بدأت بصراع قوتين، هي قوة الخير الواهبة التي تستبطن المحبة والرحمة والكرم والتضحية؛ دون حساب المتمثلة بهابيل، وقوة الشر غير الواهبة .. الممتنعة، التي تستبطن الكره والقسوة والجفاء والشح المتمثلة بقابيل. هابيل قدم كل ماعنده لله، قدم كبشا، ثم روحه فداءً لربه. ويعني هذا أن عطاءه كان بلا حساب. في حين قابيل لم يقدم سوى تفاحة متعفنة لربه، وفوق ذلك قتل أخيه من أجل دنياه. المعركة التي دارت بين قابيل وهابيل فيها عدة أوجه، فهي معركة بين حب الله وحب الدنيا، والحق والباطل، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة، والعطاء والمنع. إذن فالحياة شهدت في فجر بزوغها صراعا بين العطاء والمنع تمثل بإبني آدم (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال انما يتقبل الله من المتقين. لئن بسطت الي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي اليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين) . الخير خير هنا وهو متأصل في نفس هابيل؛ وهو العطاء الذي تسبقه الرحمة ، والشر شر هنا وهو متأصل في نفس قابيل؛ وهو المنع الذي تسبقه القسوة؛ لن ولم يلتقيا.

الموضوع الذي نتناوله هنا هو ليس أوجه العطاء، فهي كثيرة ومتشعبة، ، وتستغرق وقتا طويلا في البحث والكتابة، اقتصرت على اليسير منها. لكن أورد هنا فقط بحث منبع العطاء.

بناءً على ما تقدم فإن العطاء قيمة معنوية بحتة بالأساس، تنبع من النفس أولا؛ وإذا كان العطاء منبعه النفس، إذن يمكننا تصنيف النفوس الى صنفين هما:

أولا: النفوس المعطاءة، وهذه تنقسم الى قسمين:

1-)النفوس المعطاءة بلا حدود

2-)النفوس المعطاءة بحدود

ثانيا: النفوس غير المعطاءة(الممسكة، أوالممتنعة، أو الشحيحة)

أولا: النفوس المعطاءة، التي صنفناها الى:

1-)النفوس المعطاءة بلا حدود: المستقاة من روح هابيل.هي نفوس حباها الله بالطهر أولا؛ ثم النقاء والعصمة والمحبة والرحمة والكرم، وكرم النفس مشروط بطهارتها،لأن الكرم صفة مقدسة هي من صفات الله جل وعلا، فالطهر والنقاء والعصمة والمحبة والرحمة والكرم، هي الأحجار الكريمة لانبثاق نور الله في هذه النفوس لتشع بهالاتها على من حولها، تتحرك، تهب، تعطي؛ فقط في فضاء الصفاء الذي خلق لها. هي سعيدة بطبعها وليست بالضرورة أن تكون سعيدة على كل صعيد. انما هي سعيدة بما تترك من أثر على من حولها، لأن العطاء فيها عفوي فطري مصقول بمشيئة الله. منها اصطفى الله تعالى الأنبياء، وهم ليسوا كسائر البشر ليس من حيث خَلقهم بل من حيث خُلقهم وطبعهم  والأوصياء والشهداء، هؤلاء الثلاثة يعطون بلا حدود وبلا حساب وبلا مقايضة، هي بيعة فقط مع الله. هذه النفوس التي ينطوي عليها هؤلاء الثلاثة من أصناف الناس، هي نفوس خاصة تمنح المعاني بلا مقابل. الخلود للمعنى لديها هو الهدف والمغزى. لا يوجد في حسابها شيء مادي أو معنوي للإدخار، لأن العطاء فيها غير متناه. هدفها تصدير المعاني للبشرية، حتى لو كلفها ذلك حياتها.

وعلى حد تعبير المتصوف المعروف "محمد بن عبد الجبار النفري المولود في مدينة نفر في العراق والمتوفى عام 354هـ، وهو من أعلام التصوف الاسلامي، وأشهر كتبه (المواقف والمخاطبات)" ؛ (التباقي بالتفاني)، يعني أن تضحي بشيء من عندك من أجل بقاء شيء، فالبقاء والخلود لروحك أولا، وللمعنى الذي لأجله قدمت روحك قربانا له. يعني تنذر نفسك من أجل تخليد قيمة حياتية مهمة، فالتضحية بالنفس من أجل خلود أبدي لمعنى حياتي عميق، هو أبلغ صورة للإنفاق اللا محدود. في فضاء هذه النفوس يأتي قلة الحرص على الحياة وما فيها بالدرجة الأولى، ثم يأتي بعده الزهد، ثم الإنفاق غير المحسوب (...أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا..).، كحالة الإمام الحسين (ع)، الذي هو أبلغ تجلٍ لحالة العطاء لخلود المعنى؛ فجاد بنفسه من أجل تثبيت معنى مهم، هو الإصلاح، والإصلاح معنى حياتي خالد، يعني إصلاح وضع فاسد كان قد خيم على الحياة آنذاك.

وهكذا سار على خط العطاء غير المحدود الشهداء الذين بذلوا مهجهم من أجل إحياء المعاني الأصيلة وهي تثبيت الحق ومحو الباطل والقضاء على الفساد أينما كان.

أورد القرآن الكريم آيات حول الإنفاق اللامحدود، أذكر بعضها:

(لكن الرسول والذين آمنوا معه جاهدوا بأموالهم وأنفسهم وأولئك لهم الخيرات وأولئك هم المفلحون)

(.. ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون)

(إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون)

وغيرها كثيرة.

النفوس المعطاءة بحدود: وهذه النفوس انبثقت بالأحرى من النفوس المعطاءة بلا حدود، و أيضا حباها الله بحب الإنفاق في دائرة محيطها فمرة يمكث العطاء بصورته المعنوية الناصعة في داخل النفس، وحتى إن لم يفعل حاملها شيئا فهو مدرسة أخلاقية متجلية بمختلف المعاني والصور. المشاعر هنا داخل النفس كريمة؛ متسلقة مثل الطحالب تنمو على جدرانها، وتتوالد وتتكاثر؛ فهي على الدوام زاحفة بسرعة؛ تغادر النفس لتحوم في محيط الحياة، فيلبث حاملها يدور بألوان سلوكية مختلفة على الآخرين وكلها تبهج قلوبهم وتسعدها. الأمثلة في ذلك كثيرة ولا حصر لها، على - سبيل المثال – مرة بالكلمة الطيبة، وثانية بإصلاح ذات البين، وثالثة بإنفاق العلم وتعليمه للآخرين، ورابعة يدور في محور حياة الناس مصلحا ومغيّرا، وخامسة بدرس أخلاقي في فصل حياتي ما؛ كتزكية أحد مثلا لمجتمع ما، أو كفالة أحد ما،على - سبيل المثال

-كفالة زكريا (ع) لمريم ابنة عمران، حين صار سجالا بين قومها أيهم يكفلها، فألقوا أقلامهم في النهر وألقى زكريا (ع) قلمه، فلم تثبت أقلامهم وثبت قلمه هو فقط، فكفلها زكريا وهو أبوها الحياتي والروحي(ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك وماكنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وماكنت لديهم إذ يختصمون) . تفسير الآية واضح معناه الظاهري؛ والكفالة المقصود منها هنا هي كفالة معنوية، في مرحلة حاسمة من حياة مريم (ع)، وغير ذلك من السلوكيات الايجابية التي تحقق الراحة النفسية لحاملها وللمجتمع حواليه.

العطاء هنا فضاءه هو النفس ثم منها يتحرك الى المجتمع بشكل مباشر.

ومرة أخرى يتجاوز العطاء فيها فضاء النفس، ويتحرك باتجاه فضاء الجسد، ليجد اليد مبسوطة تترجمه شيئا ماديا، فيأخذ قالبه الشيئي الملموس، الذي بدوره يتجاوز الفضاء الشخصي ليدور في فضاء أرحب وأوسع وهو الفضاء المجتمعي؛ والأمثلة في ذلك لاحصر لها، كالانفاق على الفقراء والمحرومين، أو المساهمة في مشاريع خيرية ..كبناء المدارس والمستشفيات ودور سكن الأيتام، والمحتاجين، ودور رعاية أطفال الشوارع وإعادة تأهيلهم للحياة وحمايتهم من التسول والتشرد.. الخ. عادة هذه النفوس يحملها ذوو رؤوس الأموال المحدودة، لكن روح العطاء والإنفاق لديهم عالية، وقد وضعوا نصب اعينهم الآية الكريمة(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلّ عليهم إن صلاتك سكن لهم)  يتفوقون بها على ذووي رؤوس الأموال الكبيرة الذين في بعض الأحيان أيضا يساهمون في الإنفاق المحدود؛ فالإنفاق هنا يسبقه قلة الحرص على المادة، وهو فعال حيوي مستديم فيهم، يصعد الى السماء ويهبط أضعافه الى الأرض (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم).

،(من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له وله أجر كريم).

(من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط واليه ترجعون)

وغيرها كثيرة. هم يعلمون أن الإنفاق يوفّ اليهم وجزاءه عند الله عظيم، كما إنه يثقل نفوسهم بالكمال والرضا وتثبيتها عند الله، وهو يضفي الخير والبركة في أموالهم ويدفع الضرر والسوء عنهم، فضلا على أنه يقربهم الى الله، فيلقي الله تعالى بنوره على أرواحهم، هم فعلا عظماء، وهم سادة الخلق، وهم أعمدة نور بهم تضيء الأرض(كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها).

لشدة حب الله لهذه الفئة من الناس فإنه تعالى أراد أن يحتفظوا بالصورة الناصعة للإنفاق عندهم، لذلك حذرهم حين الإنفاق بإملاءات جميلة تعكسها الآيات المباركة التالية:

(ثم لايتبعون ماأنفقوا منّا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولاخوف عليهم ولاهم يحزنون)

(ياأيها الذين آمنوا لاتبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى)

الى غير ذلك من الآيات الكريمة، اقتصرت على بعضها.

تتبعتُ آيات الإنفاق في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، فوجدتها تجاوزت ال(100) آية، اخترت بعضها تجنبا للإطالة.

ثم أتحفهم الرسول الأكرم(ص) بأحاديث عن الصدقة أذكر منها: (صدقة السر تطفىء غضب الرب)(صنائع المعروف تقي مصارع السوء)(باكروا بالصدقة فإن البلاء لايتخطاها)(رب درهم سبق ألف درهم).

ثانيا: النفوس غير المعطاءة.. الممسكة أو الممتنعة أو الشحيحة: المستقاة من روح قابيل. وهذه النفوس فقيرة في العطاء المعنوي والمادي؛ تنطوي على صفات القسوة والجفاء والشح والبخل، وحتى لو فكرت بشيء من العطاء فهي مترددة خائفة من النقص الذي سيلحق بمتاعها. يصورها القرآن بالآية الكريمة(إنما يستأذنك الذين لايؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون).

جمع المال والحرص على الدنيا ومافيها ديدن أصحابها ودأبهم بحد ذاته، وهو لذة خاصة تحقق لهم راحة ومتعة، كلما ازداد مالهم ومتاعهم المادي كلما ازدادوا فرحا وبهجة، لدرجة حتى أنهم لاينفقون منه شيئا لأنفسهم خوفا من النقصان، والبعض ينفق على نفسه، لكنه شحيح على الغير. في فضاء هذه النفوس؛ البخل يسبقه شدة الحرص على المال ومتاع الحياة، ثم يأتي بعده المنع وعدم الإنفاق. فاليد مغلولة والإنفاق عندهم يساوي المشقة والألم. الله جل وعلا هو الغني، والناس هم الفقراء للإنفاق للتقرب اليه (ياأيها الناس أنتم الفقراء الى الله والله هو الغني الحميد)

الأشخاص المنطوون على هذه النفوس في الغالب يكونون قساة القلوب. عدم العطاء ومنع الإنفاق ينبع من النفوس القاسية. هذا النوع من الناس يسبب نفور الآخرين منه.

وردت آيات كثيرة حول الإمساك وعدم الإنفاق ومنها:

(الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ماآتاهم الله من فضله)

(فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون)

(الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتولّ فإن الله هو الغني الحميد)

إذن النفوس البشرية على صنفين : صنف مجبول على العطاء بكل صوره بالفطرة النقية، وصنف غير مجبول عليه بالفطرة الكدرة غير النقية. قد تحدث طفرات مثلا قد يختار الله الشهداء بمشيئته من طبقة النفوس غير المعطاءة وكثيرا ما يحصل هذا  بعد أن يجد فيهم خصائص تحمل الإنفاق غير المحسوب. أو من ذوي الانفاق المحدود، فالأخذ والعطاء يمكن أن يتم بحدود بين هذه الطبقات الثلاث من النفوس . أختتم خطابي هذا بقول بليغ للرسول الاكرم(ص):( إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسطَ الوجه وحُسنَ الخُلق).

"إن كنت تملك الكثير أعط من أموالك. إن كنت تملك القليل أعط من قلبك"ـــ جلال الدين الرومي.

"وكلٌ يعطي ماعنده"

 

بقلم: انتزال الجبوري

سكرتيرة تحرير مجلة قضايا اسلامية معاصرة.

  

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم