صحيفة المثقف

قراءة في رائعة "بحيرة البجع" للموسيقار الروسي تشايكوفسكي

بكر السباتين

البجع الذي يرقص على سطح الماء في البحيرة؛ كي يعتاش على ما يجود به البحر لا يرقص البالية على أنغام موسيقى بحيرة البجع ولا يعرف أن تشايكوفسكي اختطف من بينها أميرتهم المسحورة كي يقفل على الرواية التفاصيل عند الخاتمة.

تفتح الستارة.. ويدوي التصفيق في القاعة.. حيث يتعين على الأمير "سيغفرايد" أن يختار زوجة المستقبل من بين أجمل الفتيات الموجودات الراقيات.. فيخيم الليل، ويسمع الأمير صوت أجنحة ترفرف فوق رأسه، فيرفع ناظريه ليرى سرباً كاملاً من البجع البري الجميل في السماء، وفي مقابل صوت آلة الهاربو الساحرة الوترية، ينطلق صوت المزمار بنعومة معبراً عن اللحن الخاص بهذه الطيور الساحرة، ويقترح أحد أصدقائه ويدعى بينو على الأمير ان يكوّن فريقاً لصيد البجع والذهاب بعيداً.

النية كانت تأخذهم إلى ممارسة الصيد ومن ثم التهام الضحية وليس للتأمل في حركة البجع على سطح الماء ورصد همومها وقد هبطت بعد رحلة طويلة في اقتفاء أثر الربيع كي تنعم بالأمان.. ربما هنا الصورة ستكون أقرب إلى واقع البجع الذي لم يتعرف على أوبرا بحيرة البجع التي فاضت بها مشاعر تشايكوفسكي..

 وعلى نية الصيد المبيتة تفتح الستارة، يدخل فريق الصيد بقيادة بينو وهم يحملون جميعاً النبال وليس الورود الفواحة بطيب المحبة والحنين إلى الجمال.. وينظر الرجال إلى أعلى من خلال الأشجار وبحثاً عن البجع، فيصابون بالدهشة عندما يرون أن البجع قد استقر على البحيرة الموجودة على بعد عدة أقدام قليلة، وحيث يوجد هناك طائر أبيض جميل يقود مجموعة البجع، وتبدو البحيرة وكأنها مملكة تضج بالحياة في خيال تشاوسوفسكي بينما يقوم البجع في الواقع بالبحث عن الأسماك ليقتات عليها حتى تستمر حياته في أمان بعيداً عن نبال أبناء الذوات وحاشية الأمير.. وكان الأخير يقوم بتوجيه الرجال إلى الإسراع قي اقتناص الضحية كي يشبع غروره.. ولكن غيبوبة الخيال لدى المبدع تشاوسوفسكي تحوّر المشهد وتأخذه إلى بحيرة البجع الخيالية ليمطرها خياله الخصب بزخات موسيقى على وجدان المتلقي، مجرد بجع بتراقص على سطح البحيرة، دون الإشارة إلى عمق المشهد الذي يوضح حالة البجع وهو يلقم صغاره أسماك الساردينا كي يسد جوعها الكافر.

وتتوالى المشاهد.. فبينما الأمير على وشك ان يتبع سرب البجع لذي انتشر على سطح البحيرة، يرى شيئاً عن بعد يجعله يتوقف على مقربة من جانب البحيرة، ثم يتراجع مسرعاً عبر الأرض والفضاء ليخفي نفسه، فقد رأى شيئا شديد الغرابة لدرجة انه ظل يراقبه عن كثب سراً.

هذا ما تمخض عنه خيال الراوي وهو يرسم حفيف أفكاره بأمواج الموسيقى المتهادية على إيقاعات طيور البجع التي استوحاها تشايكوفسكي.. دون أن يرى بأم عينه البجعات وهي تبحث في البحيرة عن أسباب البقاء.. فيأخذه الوهم إلى صورة فتاة مثالية خرجت إليه من أعماق بجعة مسلوبة الحجا.. عائمة في شيء تريده.. ربما تنتظر منقذاً يمنحها قبلة الحياة.. كانت الموسيقى تحركها في دائرة قدر صنعه المؤلف الملهم.. فبمجرد ان اختبأ الأمير، تدخل المشهد المحفوف بالضباب أجمل فتاة رآها من قبل ولا يستطيع ان يصدق عينيه، فالفتاة تبدو وكأنها بجعة وفتاة في نفس الوقت، فوجهها الجميل محاط بريش البجع الأبيض الملتصق بشعرها تماما، وتعتقد الفتاة الشابة أنها بمفردها.. وينبهر الأمير بهذا المخلوق الساحر الجميل، يطاردها بعينيه.. يتعقبها في الأرض الفضاء.. لا شيء إلا الموسيقى وجمهور أكلت رأسه الدهشة.. وفتاة استلهمها الراوي وورطها في صراع وجودي بعد أن اختطفها من بين أسراب البجع وهمومه.. يقترب الأمير بهدوء خشية أن يسبب لها إزعاجاً.

ويخرج المؤلف الأمير ومعشوقته من بحيرة الحياة إلى مسرح الخيال كي يشعل النهار على تمثيلية صاغها من وحي رقصات البجع على سطح بحيرة الموسيقى التي خرجت تغمر الجمهور بإيقاعها الساحر فتتقافز القلوب راقصة على أنغام الموسيقى وتوليفاتها مع حركة الراقصات وأداء المغنين.. بينما ينام مشهد البجع المنهك بهمومه خلف المشهد بعيداً عن أعين الجمهور.

تصاب الفتاة الجميلة بالذعر، وترتجف أوصالها، وتضم ذراعيها إلى صدرها في محاولة ضعيفة للدفاع عن نفسها، وتتراجع إلى الخلف مبتعدة عن الأمير، تخيلته وحاشيته يصوبون إليها النبال.. يلتقط الجمهور أنفاسه.. تأخذه الموسيقى إلى منطقة الدهشة.. وتتحرك البجعة المعشوقة في اضطراب شديد ومحاولة يائسة للاندفاع بعيداً عن الأرض، وهنا يرجوها الأمير ألا تبتعد، ولا تذهب، فقد وقع في غرامها وأعجب بها وأحبها، وعليها ألا تطير بعيداً إذ لا يضمر لها في قلبه شراً.

تنظر الفتاة إليه معبرة عن خوفها، ويحاول من جانبه أن يزيل عنها هذا الخوف ليبعث الاطمئنان في قلبها، ولكنها تشير إلى القوس الذي يحمله، وتنكمش من الخوف، وهنا يعدها الأمير بأنه لن يؤذيها أو يطلق سهامه عليها؛ لأنه أحبها.. وأن سهامها هي التي أصابت قلبه منذ الوهلة الأولى التي وقع فيه بصره عليها.

كانت التداعيات تشد انتباه الجمهور ما بين انطلاق السهم.. تداعيات العشق.. لون الدم.. صراع البقاء.. خروج الفتاة وحيدة من السرب بإرادة المؤلف.. ثم الارتماء في غياهب المجهول حيث لا يسمع العاشقان إلا دقات قلبيهما ولهفتهما على الاحتضان، إنه الذوبان في الحب حتى الثمالة.

يستمر الأمير سيغفرايد في محاولاته التقرب إلى الفتاة، ويحاول أن يتعرف عليها. من تراها تكون؟ ولماذا هي موجودة في هذا المكان؟ ويعرف أخيراً أنها "أوديت" ملكة البجع، فيحبها ويخبرها أنه سيعاملها باحترام وحب، ويسألها:

 كيف أصبحت ملكة للبجع؟

 وهنا يبدأ الخيال عربدته بعيداً عن طعم الواقع الذي يعيشه البجع المطارد منذ الأزل من قبل الصيادين.. ويشطح خيال تشاوسوفسكي بعيداً، فها هي المعشوقة إذْ تبوح من خلال إيماءات جسدها الراقص ما استلهمته الموسيقى وحلقت به عالياً في سماء أبعد من الأفق الذي يطوق واقع البجع في البحيرة.. حيث وجد ملاذه الموسمي.

وها هي البجعة المعشوقة (الملكة المسحورة) تشير إلى البحيرة التي تكونت من دموع والدتها التي أمعنت في بكائها بسبب الساحر الشرير "فون روتبارت" الذي نجح في تحويل ابنتها إلى ملكة للبجع، وأنها ستظل بجعة إلى الأبد ما عدا الفترة الواقعة ما بين منتصف الليل وطلوع الفجر، حتى يحبها رجل ويتزوجها، ولا يحب غيرها على الإطلاق، عندئذ يتحمس الأمير العاشق لإنقاذها ويؤكد لها أنها لن تصبح بجعة بعد ذلك.

ينتصر الخيال على الواقع وتموت الرواية الواقعية في فم المغني كي يستيقظ النهار على إيقاعات الموسيقة التي خرجت بالحكاية المؤولة من وجدان تشايكوفسكي.

يضم سيكفريد كلتا يديه إلى قلبه، ويؤكد حبه وعشقه لها، وأنه لن يستطيع العيش بدونها، لا بل سوف يتزوجها، ولن يحب غيرها على الإطلاق ويقسم على اخلاصه لها ويطلب معرفة مكان الساحر الشرير "فون روتبات"، وفي نفس اللحظة يظهر الساحر على جانب من البحيرة مرتدياً قناع البومة، ويمد مخالبه آمراً البجعة "أوديت" بالعودة اليه، ويأخذ في تهديد ووعيد الأمير العاشق، وتتحرك أوديت بينهما، وترجو من الساحر الرحمة، فيمسك الأمير بقوسه الذي كان قد أتى به ليصطاد البجع ويجلس على ركبتيه وينال من الساحر الشرير، ويلجم بذلك سحره؛ لينال ويفوز في النهاية بقلب معشوقته الجميلة "أوديت" لينتصر الحب ويقهر السحر في النهاية.. ويدوّي التصفيق في قاعة المسرح.. ثم تتوقف الموسيقى وقد انحنى الممثلون أما الجمهور الذي أصيب بالغبطة والحبور.

ويخرج بعد ذلك الجمهور من المسرح.. وقد غادر بحيرة الخيال التي شهدت مصرع الساحر.. ثم يهاجر البجع البحيرة الواقعية حاملاً همومه نحو مصدر رزق جديد.. وتنام الحكاية محفوفة بالموسيقى في رأس المتلقي الذي لا يرى فيها إلا الأمير وهو يقبل معشوقته وتموت باقي التفاصيل في جعبة الراوي الذي أقفل ستارة المسرح حتى ينهضَ على خشبتِهِ المتعبةِ النهارُ في الحفلةِ المقبلة.

 

بقلم بكر السباتين

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم