صحيفة المثقف

البعد السايكولوجي والاخلاقي للصيام

عقيل العبودمما لا شك فيه ان القران بمثابة الدستور الذي منه تتفرع العبادات، والاحكام الشرعية، والمعاملات بغية التمسك بقيم الخير والفضيلة لبناء مجتمع سَلِيم، بيد ان السؤال كيف لنا ان نفهم هذا الدستور، كيف لنا ان نتعامل مع بنوده، وفقراته، كيف لِنا ان نفسر الآيات القرانية بشكل سليم؟

للجواب على هذه الاسئلة لا بد من معرفة ان هنالك فرقا بين المفهوم العبادي، والمفهوم التأملي التدبري للقران.

فالعبادة وقراءة القران اداء ووظيفة شرعية، ولكن بالمقابل هنالك وظيفة اخلاقية تفرض نفسها بغية ترجمة الجانب العبادي بطريقة يقرها العقل والضمير والوجدان وذلك بحسب (قاعدتي الحسن والقبح العقليين). 

 فالنفع من الصلاة ينتفي مع الكذب، والصوم مع الفاحشة لا فائدة منه، والزكاة مع السرقة، والذهاب الى المسجد مقابل انشغال الذمة بحقوق الغير، يتم اتهامه بالبطلان.

ولذلك هنالك مهمات تجديدية تجنيدية اصلاحية، بها يحتاج الإنسان الى معركة عنيفة مع دفاعات الذات الشهوانية والعدوانية التي تحول دائما لتحديد إرادته وحقيقته الانسانية.

فالنفس تراها دائما تبحث عن اقصر طريق للراحة والكسل والاتكال على الغير وتعظيم اناها السفلى، ولو كان على حساب سعادة وراحة الاخر، ولذلك فهي تحتاج الى مشاغلة ومراقبة وردع لأنها فيها ما يؤدي الى سوق خطواتها باتجاه الخلل والوهن والهزيمة.

إذن لا من تدبر تأملي لاُسلوب وطريقة النص القراني، ومنه  استقراء حيثيات وابعاد الخطاب الإلهي بناء على تجليات البعد الديني والاخلاقي.

وسورة البقرة كنموذج إيماني وعقائدي لهذا الدستور تعطينا صورة واضحة عن كيفية اداء العبادات والتحلي بالصبر والابتعاد عن الشيطان، وفيها منهج متكامل لجميع الفرائض، والصيام واحد من هذه الفرائض و هو يعتبر عبادة قائمة بذاتها، وهذه العبادة يقوم بها العبد بنفسه لتطهير نفسه ومراقبتها والتحكم بِهَا.

ولكل عبادة وفريضة احكام شرعية، فالصلاة في ذات السورة لها احكام، وعلى غرار تلك الأحكام هنالك احكام في الصيام، والزكاة والحج، وذلك ينطبق مع العبادات والمعاملات.

اما آيات الصيام فتبتدئ من الآية ١٨٣ وتنتهي بالاية١٨٧- ص٢٨-٢٩.

حيث ورد في كتابه الكريم: 

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

هنا ابعاد اربعة وهي:

البعد التاريخي، والنفسي، والاخلاقي، والوقائي الصحي.

اما البعد التاريخي:

فَتَأمـُل هذه الآية مثلا يمنحنا مساحة فكرية وعقلية للتدبر في كلمة (كـُتِبَ) وهي إشارة تفيد  بأن الصوم كان قبل الاسلام.

وتأمُل معادلة الإيمان والتقوى في الآية المذكورة لا يخلو من مسارات اوخطوات ومجاهدة للنفس الأمارة بالسوء، ومخالفة هوى النفس، اي حقيقتها التكوينية الخلقية والأمر يحتاج الى اجتهاد، وهذا الاجتهاد فيه مجاهدة ومشقة وصبر، وهذا الصبر لا يقدر عليه الا المؤمنين لذلك الخطاب القراني جاء بصيغة المخاطبة الى (الذين آمنوا).

والصوم والصبر مقولتان لمعادلة اسمها الإيمان، ومنه استجابة الدعاء والانتصار على الذات.

حيث وردت كلمة وعلى الذين (يطيقونه) في الايات  الخاصة بالصيام ويطيق الشئ بمعنى يتحمل طوقه وان كان شاقا. 

ومنه في السياق الدلالي للمعنى المذكور قوله سبحانه في آيات كثيرة منها ( واستعينوا بالصبر والصلاة وأنها لكبيرة الا على الخاشعين، ومنه قوله سبحانه ايضا(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم  بالغداة والْعَشِي).

والصوم يعلِّم الصبر وفيه ابعاد

بعد نفسي

 فالصوم بناء على تحقق أقصى مدياته يؤدي الى تحرير الانسان من الخضوع الى الحزن والشعور بالوحدة والخوف، وكل هذه مفاهيم يتم معالجتها والتعامل معها في الطب النفسي، فهو الدواء لتهدئة وتهذيب النفس.

اما البعد الاخلاقي

 فهو السعي الحثيث لمراقبة تصرف الذات، والذات هي الكيان الذي عبره ايضا يتم  تنشيط النظام العلائقي مع العقل ومتابعة السلوك والتصرف مع الاخرين.

بعد وقائي صحّي

يحمي النفس من النوبات القلبية والأزمات السريعة. هنا تكملة للآيات

 (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) وهنا إشارة  الى ان الصيام ليس معقود بفائدته مع شهر رمضان فقط، بل ان هنالك اياما اخر وهذه دعوة وفرصة للتحكم بشرور النفس وتطبيعها على المحبة ونكران الذات.

والورع  حماية للنفس من الأمراض كونها اي الأمراض مرتبطة بافرازات الغدد والهرمونات. ففي حالة الحرص على المآرب المادية ونزعات التسلط تتاثر الغدد ويتم إفراز مواد تحول دون الشعور بالاطمئنان ويتأثر الجهاز الهضمي والعصبي. 

وأخيرا قوله سبحانه

(تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).—-وحدود الله، فهمها يحتاج الى مواظبة ومواءمة ومطابقة بين قانون الفطرة وقوانين الأحكام التشريعية، بين الشارع، والتشريع وذلك وصولا الى الرضا والسكينة.

فالإنسان بطبعه يحتاج السكينة والهدوء والامان، ويتأثر بالضغينة وعدم الاستقرار، ومنافع البعد الوقائي هنا هي، منافع فيزيائية خاصة بالبدن ومنه (صوموا تصحّوا)، ومنافع عقلية خاصة بالعقل، ومنافع اخلاقية شعورية لبناء النفس الانسانية والسيطرة عليها من خلال تعلم طريقة الضبط الاخلاقي.  

والصوم ضبط تتحكم فيه الخلايا العصبية وهو تمرين يمنح العقل فرصة للتركيز، وهو منهج اتبعه غاندي، وكل الأديان كاليهود والمسيح، بل وحتى العقائد غير السماوية منها كالبوذيين وذلك بغية الوصول الى عقل متيقظ مستنير.

 

عقيل العبود

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم