صحيفة المثقف

البدوية المتمردة وسيمون دي بوفوار

بكر السباتينبعد أن تناولنا وجبة الإفطار بناءً على دعوة عائلية من قبل صديقي الدكتور عزام، اقترح علينا الذهاب إلى أحد المقاهي القريبة لإكمال سهرتنا ومن ثم تناول طعام السحور في هذه الليلة الرمضانية التي اختلط فيها هديل الحمائم وتسابيح المتعبدين في المساجد واحتفالات رواد المقاهيي بالليالي الرمضانية التي تحولت إلى فلكلور يذكرنا بليالي القاهرة وموالدها التي تدور في الروح المصرية كعقارب الساعة.. والجميل في الأمر أن اعتدال درجة الحرارة كان يشجعنا على الذهاب إلى المقهى.. فلم أتردد رغم ارتباطي بمناسبة عائلية أخرى وأخبرت الدكتور عزام بأنني لن أطيل المكوث.. وعلى ذلك اتفقنا.

كانت السيارة تنهب بنا الأرض وسط البلد حتى نتجاوز الإشارة الخضراء ثم تتهادى يميناً عند المفترق، لتصعد بنا إلى إحدى مقاهي جبل اللويبده المشهورة، هرباً من الزحام الذي يشهده شارع السلط وسط العاصمة عمان والمظلل بعرائش من مئات اللمبات المضاءة بمختلف الألوان وقد تدلى من بينها عشرات الأهاليل الرمضانية المضيئة.

وبعد دقائق وقع اختيارنا على مكان هو الأقل ازدحاماً في هذه الليلة الساهرة.. واتخذنا أماكننا في المقهى المنشود، فنمتع الأنظار بجَمَلُوناته الخشبية المدهشة، وأثاثه التراثي القديم، ناهيك عن بيئته المكانية المتنوعة الغناءة، وقد كانت مغمورة بحفيف أوراق الأشجار السميقة الظليلة، ويحفها خرير ماء شلال اصطناعي مجاور تغذيه نافورة محجوبة عن الأنظار.. كانت أجواء تبعث فينا سكينة الروح.. في حين أخذت فقاعات الماء المتوالدة في زجاجات الأراجيل المنتشرة حولنا تبعث في رؤوسنا ما هبّ ودبّ من أحاديث تجاذبنا أطرافها بحرية وبراءة، أثناء ذلك باغتنا صوت نحنحة لمطرب يتهيأ للغناء، خرج من السماعات المنتشرة في أرجاء السقف، فما يلبث أن يغطي عليها صفير حاد أو خشخشة مزعجة سرعان ما انجلت ليستقر الصوت سريعاً على أغنية هزيلة مجهولة الأصل.. ربما يختبر المطرب عليها صوته المتقطع.

وفجأة مال الدكتور عزام برأسه إليّ وأخذ يومئ برأسه إلى سيدة كبيرة في السن كانت ترتدي طقماً شبابياً بألوانه الزاهية، وقد اتخذت زينتها بما يتناسب والاكسسوارات الملونة التي طوقت جيدها وساعديها.. وكانت ترفع شعرها الناعم المصبوغ كأنها فتاة عشرينية، فبدت متصابية وهي تجلس مع ثلة من الكتاب والشعراء المغمورين المراهقين من الباحثين عن كلمات الإطراء في سوق الثقافة، فبدت كأنها مطربة فاشلة تتصنع الدلال بما لا يليق بها.

دافعت عنها أمام الدكتور عزام وقلت بأن السيدة ذات قدر في المجتمع إذا كانت هي من حضرت لتوها إلى ذاكرتي..خلاصة الأمر أنني أكنّ لها التقدير رغم عدم معرفتي الشخصية بها، وهي ناشطة اجتماعية منفتحة على الجميع! ولكن بات يخالجني شك في أن لا تكون هي.. لأن التي أمامنا تتصرف بدون وعي!.

لكن صديقي، وهو محاضر في مجال الأدب المقارن بإحدى الجامعات الخليجية، أسعف فمي وأراحني من التوغل في المديح ليقدم لي بيانات معرفته بها:

مجرد فاكهة على أطباق الصالونات السياسية.. فارغة.. فقط المطلوب منها التأنق لإضفاء طابع عصريّ على الجلسة.. لكونها بدوية تعيش حياة أبناء المدن كفنانة تبحث عن الشهرة دون اعتبار للمكانة!

استفزني رأيه وقلت له بحزم:

لنتركها بحالها فهذه حرية شخصية..

وفجأة أخذ أحدهم يدقها على كتفها ممازحا بما لا يليق بعمرها في غمرة من الضحك المجلجل الذي ساد أجواءهم.. وهمست في أذن الدكتور عزام قائلاً:

لنتركها في حالها يا صديقي.. فكلًّ يعمل بأصله! على الأقل حتى تستعيد جلستنا تألقها وخاصة أن زوجتينا انتبهتا لما يضج في رأسينا من أسئلة مبهمة.

فربت صديقي على كتفي راضياً.. ومن هنا بادرنا إلى إشراك الزوجتين بالحديث في ضوء المصابيح دون حجب وأسرار.. حتى لا تموت متعة اللقاء.

لكن زوجة الدكتور عزام انتابتها نوبة خفيفة من الضحك بينما أضمرت في رأسها مفاجأة.. قلبت عينيها فينا وعقصت شعرها إلى الخلف بهدوء حتى بدا وجهها المستدير كأنه علامة سؤال كبيرة.. ثم تساءلت وهي تومئ بطرف عينها إلى السيدة التي كانت مدار حديثنا قبل قليل:

ألم يخبرك صاحبك الدكتور عزام بأن تلك السيدة من عشيرتنا!

ثم ضحكت بهدوء مكملة الحديث.. وكانت عيناها تسترقان النظر إلى سيدة المجتمع المتصابية، وقد تحلق حولها المنافقون وهم يقرأون الشعر التافه على بعضهم ثم يتبادلون النكات السمجة.. وتهيأت زوجة الدكتور عزام لتقول شيئاً.. وخاصة أنها ناقدة أدبية لها صولات وجولات في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي.. وقالت بعد أن ارتشفت القهوة من فنجانها الذي بقي معلقاً بين السبابة والإبهام كأنها تشتم عبقه:

يا أستاذ كلنا نفعل ذلك! وما ترونه ربما هو المشهد السائد في المشهد الثقافي العربي.. لكن المؤلم في الأمر هو حينما أخبرتها في إحدى المناسبات الخاصة التي جمعتنا بأن سيرتها صارت على كل لسان كونها تتصرف كمطربة محفوفة بالمعجبين الذين يتندرون بأخبارها دون أن تراعي بداوتها.. فاستشاطت حينذاك غضباً، وبلكنة بدوية مخلوطة ببعض الكلمات "المدنية" كأنها تحمل بين أصابعها جيفة كريهة الرائحة:

أنت تتجاوزين حدودك.. كيف تتهمينني بالبداوة وأنا سيدة مجتمع مرموقة! هذه غيرة نسوية، فأنا لست بدوية كحضرتك! بل مدنية متحضرة وتربت على أصول (الإتكيت) .. فكيف تسمحين لنفسك بتجاوز حدودك معي!! ما هذا التخلف!.

إلى أن قالت ساخرة:

البداوة دفنّاها في ذاكرة الجدات يا محترمة.

من هنا آثرت كظم غيظي إزاء هذه الموقف المفاجئ والمليء بالردح من قبل امرأة تهين نفسها دون أن تدرك؛ ثم تصرفت بحذر شديد وأنا أطوي تفاصيل اللقاء درءًا من حصول ارتدادات للموقف قد لا تحمد عقباها.. وأثناء انفعالها، لاحظت ذوبان مستحضرات التجميل من تحت غرة هذه السيدة البلهاء وقد ظهر الشيب يغطي جذور شعرها المصبوغ باللون الكستنائي الفاتح.. وبدا على عينيها الإجهاد بسبب العدسات اللاصقة التي اشتد لمعانها تحت ضوء الثريا في صالة الاحتفالات.

أذكر حينها كيف أن زوجي انفجر غاضباً ونحن في السيارة أثناء العودة إلى البيت، وبدأ يتحدث عن مغامرات تلك البدوية التافهة المتنكرة لأصلها، بين المثقفين.. وكيف أن البعض أخذ ينعتها بالبقرة الأنيقة.. ثم تنفس زوجي الصعداء وهو يركن السيارة في المرآب قائلاً:

لا أريد أيّ حيث عن هذه السيدة المخبولة فقد اختارت الرقص مع الخفافيش تحت الأضواء الخافتة.. ربما كانت بدوية أصيلة؛ لكنها الأن غدت ابنة المقاهي رغم أننا من رواد ذات المقاهي الثقافية والنقابية والسياسية المنتشرة في أرجاء العاصمة ولكن دون ابتذال وإن خرجنا أحياناً عن نطاق الرتابة وخاصة حينما نكون جميعنا رجالاً أو يكنَّ نساء.

وتنهي زوجة الدكتور عزام حديثها ونحن نصغي إليها باهتمام والدهشة تأكل رؤوسنا قائلة:

ولكن لكلٍّ طريقته في الحياة.

وفجأة، أخذ الموقف يتقلب في رأسي رغم أن الموضوع تم طيّه حيث انشغلنا بالحديث في كل شيء سوى بلاهة هذه المثقفة، والتي أخذت ترقص على أنغام العود الذي أحنى ظهر صاحبه المغني المتعب وهو يغمر الأجواء بالقدود الحلبية الدافئة بصوته الشجي. حينها خرجت الصبايا أمام أسرهنَّ وهنَّ يتمايلن راقصات بين الطاولات برقة ودلال.. فإذْ بالبدوية تتصرف كغجرية مرتبكة، فتميط اللثام عن أصلها لتقتحم المشهد كبقرة ضلت طريقها، وترقص رقصاً شرقياً، كأنها فيفي عبده حتى أزعج الموقف صديقي؛ إلا أن زوجته قالت معقبة:

على العكس يا عزام.. صفق مثلي رغم بلاهتها على الأقل تشجيعاً للمغني الذي أنهكه الغناء.

وقد أيدتها زوجتي وهي تصفق انسجاماً مع أجواء السهرة البريئة.. منوهة إلى ضرورة ترك الناس بحالهم..

ثم ضحكت زوجة عزام وهي تقول آسفة:

لم تعد هذه السيد بدوية من خلال هذا السلوك الأرعن"يا حيف" يبدر هذا منك في الشهر الفضيل!..

أما أنا وزوجتي فقد تعاملنا مع الموقف من باب الحرية الشخصية رغم أنني على يقين من أن هذه الثلة التي تحيط بالمثقفة المغبونة، التي تعاني كما يبدو من مرتب النقص، حيث يتحكم بسلوكها المبالغ فيه، سَتَتَنَكَّه هذه الثلة بمغامراتها الشقية في السهرة المقبلة أو خلال الهواتف النقالة حال عودتهم إلى بيوتهم، بدون مراعاة لعمرها الذي أحرجته بتصرفاتها غير المتوازنة.. وقلت في أعماقي:

" بوسع هذه السيدة أن تتمايل بجسمها غير المتناسق على أنغام القدود الحلبية كما تفعل بعض الفتيات في هذه السهرة، على الأقل بما ينسجم مع أغنية " قدك المياس"! أما أن تخرج عن الإيقاع وتهز وسطها كفيفي عبده! فهذا مضحك ولا يليق بها.. رغم ذلك فهي حرة وبوسعي أن أصفق كالآخرين.

أثناء ذلك أخذتني الخواطر المدججة بالأسئلة إلى الموقف؛ لتعصفَ به من كل جانب.. كأنني تواريت بالسيدة المتصابية خلف الأشجار المحيطة بالمكان وقد غمرنا صوت الشلال بخريره المتغير.. فأخاطبها بهدوء قائلاً:

أنت تشبهين هذا الشلال المتحرر من قيود النوافير الصارمة يا سيدتي.

وتخيلت أنها لم تكترث.. ربما انتَظَرَتْ أن أسرف في مدحها كأنني مراهق كالذين يحيطون بها.. ثم تخيلت وأنا أكمل الحديث قائلاً:

البداوة يا سيدتي ليست عيباً حينما تُنعتينَ بها يا صاحبة السعادة.. صحيح أنك تعتاشين كأرملة على مديح المنافقين وإطراء من يأخذون بيدك كي تبرزين بشكل لافت؛ لكنك في دوائرهم المغلقة يتفكهون بأخبارك ويتناولونها كشرائح المربى.. نعم فما زلت تحملين الصفات البدوية والفطرية التي تجعلك تصدقين المواقف دون البحث في أبعادها.. حينما قالت لك زوجة الدكتور عزام بأنك بدوية! فما الضير في ذلك! والرسول كان بدوياً.

واسترسلت في تخيل الموقف بعد أن جلست البقرة الراقصة منهكة وسط حفاوة أصدقائها الذين بالغوا في تشجيعها على العودة إلى حلبة الرقص، وأنا أتخيل نفسي أحدثها بعينين ساهمتين في العمق:

فقط لا تبالغي سيدتي في التنطع البريء كنجمات السينما اللائي يهمهن الظهور ولو كان أجوفاً بعض الشيء! كوني على الأقل مثل الفراشات.. نعم مثلها.. فهي حينما تتقافز جذلى على الزهيرات في المقاهي؛ لا ترى إلا بتلاتِ الودّ ، ولا تشتم إلا عبق الشعر الأصيل الذي يذوب في كأس الذاكرة كالنبيذ المعتق، دون حاجة لاصطياد ابتسامات بعض البلهاء من محبي الشعر وقارضيه الذين يقتفون أثر النعامة حتى تغمر رأسها في الثرى ثم يزفونها متندّرين بخيبتها.. والسخرية التي تجمعهم حولك ما هي إلا خمرة تدور برؤوسهم وتغيِّب إحساسهم بالآخرين.. ما زالت مقاهينا تحت التجريب يا سيدتي فلا تبحثي فيها عن جان بول سارتر، لأنك لن تثيري غيرة سيمون دي بوفوار التي نضج حبها الراقي في عمق اللقاء بفيلسوف الوجودية في مقاهي باريس، وليس على طاولة مكشوفة الباطن، ويتجمع على سطحها الذباب الأزرق، حيث الآذان مشنفة لرصد هفوات المحبين وتأويلها وهم في غيبوبة التماهي ولحظاتها الآسرة.

فمقاهينا يا سيدتي ليست تلك الآفاق التي يعربد في سمائها الشعر والصهيل.. وإنما أقفاص، ومصائد للبلهاء.. أحياناً.

استفقت بغتة من غيبوبة الخيال ووجدت نفسي أصفق مع الجمهور، ثم نمضي جميعاً في سهرتنا التي كانت الأجمل خلال موسم رمضان الجاري بعد أن هجعت الموسيقى.. وانبعثت التسابيح الجميلة من مكبرات الصوت استعداداً للسحور الذي تهيأ له الجميع.. وقد اكتشفت بأن الطاولة اتي كانت شغلنا الشاغل قبل دقائق قد فرغت من أصحابها، فاقترحت على الفور أن ننتقل إليها نظراً لموقعها الجميل.. وكونها الأقرب إلى البيئة المكانية المحفوفة بالأشجار السميقة والمغمورة بصوت الشلال الآسر.. فابتهج الجميع لذلك. "حدث ذات يوم"

 

قصة قصيرة

بقلم بكر السباتين

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم